الإبداع من قلب الفوضى
حسن عرب *
في عالم السينما، حيث تندمج الأحلام مع الواقع وتختلط الأضواء بظلال القصص الخفية، يقف المخرج مثل قائد أوركسترا، ممسكًا بخيوط الخيال ليحوّل النصوص إلى مشاهد تنبض بالحياة.
لكن، ما وراء الكاميرات والإضاءة، عالم آخر مليء بالتحديات والمفاجآت غير المتوقعة، حيث قد تسير الأمور بشكل غير مخطط له، وحيث يتطلب الأمر شجاعة ومرونة فكرية من المخرج لإبقاء السفينة على مسارها.
في مثل هذه اللحظات، يُصبح اليوم العادي في موقع التصوير أشبه برحلة مليئة بالمفاجآت، حيث يكون الاستعداد الشديد مجرد إطار هش قد يتحطم أمام قوة الأحداث غير المتوقعة. وعندها، يختبر المخرجون العظام قدرتهم على التأقلم والتكيف، ليخلقوا من العوائق دروسًا سينمائية جديدة ومبتكرة. هذه هي اللحظات التي تنبض فيها السينما بالحياة، حيث تكون الكاميرا شاهدة على ولادة الإبداع الحقيقي.
تمامًا كما حدث مع أعظم المخرجين في تاريخ السينما، الذين واجهوا الفوضى وحوّلوها إلى أعمال خالدة، نتتبع هنا قصة مخرج في يوم تصوير، حيث المفاجآت التي قد تكون إما نقمة أو فرصة لصنع مشهد لا يُنسى. دعونا ننطلق معًا إلى هذا اليوم الخاص لنرى كيف يواجه المخرج تحدياته، وكيف تُصنع السينما من فوضى الواقع.
” استيقظت كالمعتاد في السادسة والنصف صباحًا، تمامًا كما يحدث كل يوم من أيام التصوير. لم تكن هذه عادة بقدر ما كانت ضرورة، فأنا أؤمن أن كل دقيقة قبل بداية اليوم لها ثمن. كنت أفكر طوال الليل في المشاهد التي سنصورها اليوم، كان هناك شيء يزعجني، شعور غير مريح بأن الأمور لن تسير كما خططت. ربما هو الحدس الذي يراود كل مخرج عندما يعرف أن الإبداع لا يحب الاستسلام للروتين. وعلى الرغم من أنني لا أحب المفاجآت، إلا أنني تعلمت، مع مرور الوقت، أن السينما ما هي الا مفاجآت.
كانت الساعة تشير إلى السابعة والنصف، بدأ الفريق يتجمع في موقع التصوير. الشمس كانت مشرقة بشكل مدهش، ورغم أنها مثالية لمشهد اليوم، إلا أن شيئًا ما في الهواء كان يوحي بأن الطقس سيتغير. لكن لا أحد يهتم، الجميع مشغولون بإعداد المعدات والكاميرات، كل شيء يبدو على ما يرام. حتى إذا بدأت السماء في تغيير ملامحها، أصبح الظل كثيفًا بشكل مفاجئ. نظرت إلى الأعلى وتذكرت أن المشهد الأخير يعتمد على ضوء الشمس الساطع، وها هي الغيوم تتجمع كأنها تتآمر على هذا المشهد التعيس.
قررت أن أتعامل مع الأمر وكأنه جزء من السيناريو، تحدثت مع مدير التصوير، وأخبرته أننا قد نحتاج إلى إعادة ترتيب المشاهد، وهو أمر أعرف تماماً أنه لا يحب سماعه في هذا التوقيت. ولكن قبل أن أجد فرصة لتبرير قراري، جاء أحد العاملين يخبرني بأن أحد الممثلين الرئيسيين لم يصل بعد. هنا بدأ القلق يتسلل إلي. لا وقت لأي تأخير إضافي، وإذا غاب الممثل، فسنضطر إلى تغيير المشاهد أو إلغائها بالكامل. في تلك اللحظة شعرت أن هذا اليوم لن يمر مرور الكرام.
وما أن بدأت الأمور تتفاقم حتى سمعت صوت الممثل قادمًا من بعيد، وهو يعتذر بابتسامة مُحرجة بسبب الازدحام المروري. ومع أن التوتر كان يتصاعد بداخلي، حاولت تهدئة الجميع بابتسامة باردة تكلفتها مجبراً، وطلبت من الفريق أن يستعد على الفور. الممثلون أخذوا أماكنهم، الكاميرات تدور، أخيرًا كل شيء يبدو كما خططنا.
لكن الغيوم كانت أكثر عنادًا. فجأة، تحولت السماء إلى عاصفة، رياح باردة بدأت تتسلل، فصاح أحدهم من بعيد “يا للهول سوف تمطر قريبًا!”. كان علي أن أقرر، هل نوقف التصوير؟ أو نستغل هذا الطقس غير المتوقع؟ وهنا جاءني الوحي الذي كنت أنتظره بفارغ الصبر.
قلت بصوت مرتفع: “لنغير الزاوية، سوف نستخدم هذا الجو في مشهد المطاردة. الضوء القاتم، الرياح، المطر، كلها ستضفي لمسة درامية لن نستطيع إعادة خلقها لاحقًا!”
وفجأة تحول يوم التصوير الفوضوي إلى فرصة إبداعية. المطر بدأ في الهطول، الكاميرات تدور والممثلون يركضون كالمجانين تحت العاصفة، والمشهد الذي كاد يُلغى أصبح واحدًا من أكثر اللحظات حماسة في الفيلم. لم يكن هذا في النص، ولم تكن تلك الخطة في البال. ولكن الذي تعلمته اليوم هو أن السينما، في عمقها، هي فن المفاجآت، وأن المخرج الناجح هو من يعرف كيف يستغل تلك اللحظات الغير متوقعة ليحولها إلى سحر.
المشهد الماطر كان مليئًا بالحركة، وبالرغم من أن البلل وصل إلى ملابسنا الداخلية بل إلى عظامنا، إلا أن الحماس في موقع التصوير كان لا يضاهى. ولكن، ما أن انتهى المشهد حتى اكتشفنا الكارثة: “الكاميرا متوقفة” ماذا!؟ صاح ذلك الغبي: نسيت أن أشغل الكاميرا، كانت هناك مشكلة تقنية، يا للتعاسة كل ما صورناه خلال العاصفة لم يُسجل.
شعرت وكأن المطر الذي كان يضرب وجهي يصفعني على قفاي بشكل مضاعف، “أنت تمزح، صحيح؟” سألته. لكنه نظر إلي ببلاهة وكأن على رأسه غراب.
عندها، تنفست بعمق وحاولت تهدئة نفسي. الهدوء… هو المطلوب الآن… الهدوء في مواجهة العاصفة الثانية.. لكن بينما كنا نفكر في كيفية إعادة التصوير، أتت المفاجأة التالية: بطارية الكاميرا نفدت دون أن نلاحظ. وهنا أصبح الوضع أشبه بمسرحية عبثية.
حاول أحد المساعدين اقتراح أن نصور المشهد باستخدام هواتفنا المحمولة، بينما انفجر الجميع بالضحك وكأن هذه كانت ذروة الهزل. لكن، وسط كل هذه الفوضى، جاءني الوحي مجددًا. خطرت لي فكرة جريئة. ناديت على الفريق، وقلت بصوت مليء بالتحدي: “سنحول هذا إلى شيء جديد تمامًا. ماذا لو بدلنا فكرة مشهد المطاردة وأضفنا مشهدًا يرتكز على العشوائية نفسها؟! شخصياتنا تائهة في العاصفة، المطر يحجب الرؤية، ونترك الكاميرا تهتز قليلاً لتضفي شعوراً بالضياع والارتباك.”
نظر الجميع إلي وكأني فقدت عقلي، ولكني شعرت بنبض الإبداع يعود من جديد. إذا كانت الطبيعة تلعب معنا، فلنستغل ذلك لصالحنا. كانت الفكرة مغرية، والممثلون أحبوا الجنون فيها. أعدنا ضبط الإضاءة تحت الأمطار، وغيرنا البطارية وبدأنا تصوير مشهد جديد تمامًا. الكاميرات تتحرك بشكل غير مستقر، الممثلون يتفاعلون مع العاصفة كما لو كانوا يعيشون في كابوس.
وما إن انتهينا، حتى شعرت بشيء لا يصدق. لقد حولنا يومًا كارثيًا إلى لحظة سينمائية رائعة.
لكن، وكما يُقال، “المفاجآت تأتي دفعة واحدة”، فجأةً انقطعت الكهرباء بالكامل في موقع التصوير. الظلام عم المكان، الجميع مجمدون في أماكنهم، والجو مشحون وكأننا في نهاية العالم. عندها، ضحكت ضحكة عالية لم أستطع السيطرة عليها. ليس هذا مجرد يوم تصوير عادي، إنه اتعس يوم في حياتي.
الجميع كان يتساءل ماذا نفعل الآن، وهنا جاءتني فكرة أخرى مجنونة. “لديكم هواتفكم، أليس كذلك؟” قلت بابتسامة ماكرة، “لنحول هذا إلى تجربة سينمائية خارجة عن المألوف. نلتقط اللحظة بوسائل بسيطة، الإضاءة باستخدام الفلاشات، واللقطات المعتمة تضفي نوعا من التشويق والغموض. دعونا نعيد التفكير في كل شيء.”
وهكذا، تحت ضوء الفلاشات وفي عتمة الليل، صورنا مشهدًا مرتجلًا بالكامل، وكأننا فريق من صانعي الأفلام المستقلين الذين وجدوا أنفسهم في مغامرة مجنونة. مشهد مظلم، متوتر، ومليء بالواقعية الغريبة التي لم نخطط لها أبداً.
كانت تلك اللحظة التي أدركت فيها أن بعضًا من أفضل الأعمال الفنية تأتي من الفوضى، من تلك اللحظات الحرجة التي تشبه قصة التصوير المجنونة التي عشناها.”
عندما ننظر إلى تصرفات المخرج خلال التصوير، نرى أنه يواجه معضلات كبيرة يومياً، من مشاكل تقنية إلى تغيرات الطقس، ومن غياب الممثلين إلى تعطيل المعدات. القصة التي كتبناها تروي بشكل كوميدي واقعًا مألوفًا في عالم السينما، إذ يتحتم على المخرج أن يتعامل مع الظروف الخارجة عن السيطرة دون أن يفقد رؤيته الفنية. لكن المثير هنا هو كيف يستغل المخرج المفاجآت لتحويلها إلى فرص للإبداع، وهذا هو ما يميز المخرجين العظماء.
كان هيتشكوك على سبيل المثال مخرجًا يعشق التفاصيل ويكره الفوضى، لكنه أيضًا كان يعرف كيف يستغل أي موقف لخدمة رؤيته. كان يقول دائمًا: “المخرج يجب أن يكون كالإله في عالمه، يعرف كل شيء ويملك القدرة على التحكم بكل شيء، ولكن أيضاً يجب أن يترك مجالاً للصدف التي لا تخضع للسيطرة”. أحد أطرف القصص التي تُروى عن هيتشكوك أنه كان يمازح فريقه دائماً، ولكنه في العمق كان يدرك أن الضغوط الكبيرة يمكن أن تكون محركا للإبداع. في فيلم “الطيور” مثلًا، تعرّض لمواقف غير متوقعة، حيث لم تكن الطيور تتصرف كما كان مخططًا لها، لكنه استغل هذه العشوائية ليخلق شعورا حقيقيا بالرعب، ما جعل الفيلم أكثر قوة.
هيتشكوك كان يعتقد أن “الإعداد الدقيق هو كل شيء”. كانت غرفته في موقع التصوير مليئة بالرسومات واللوحات التوضيحية لكل مشهد، لكنه كان يعلم في قرارة نفسه أن اللحظة التي يُفتح فيها باب التصوير الحقيقي ستأتي بمفاجآت كثيرة. هناك قصة شهيرة أُخرى حدثت خلال تصوير فيلمه “مختل ١٩٦٠” Psycho، عندما واجه مشكلة في تصوير مشهد الحمام الشهير. كان يحاول خلق إحساس غير مرئي بالرعب من دون أن يظهر الكثير. لكن، بعد محاولات متكررة لتصوير المشهد باستخدام تقنيات مختلفة، لم يصل إلى التأثير المطلوب. عندها قرر بشكل غير متوقع استخدام القطع السريع بين اللقطات، مما خلق توتراً غير مسبوق، وأصبح هذا الأسلوب لاحقًا رمزًا للفيلم. وهذا يوضح كيف أن المخرج، حتى عندما لا تسير الأمور كما هو مخطط لها، يمكنه استخدام الذكاء السينمائي لتحويل العوائق إلى أدوات إبداعية.
ستيفن سبيلبيرغ أيضا عُرف بقدرته على التعامل مع التحديات الكبيرة بأريحية مذهلة. في تصوير “الفك المفترس”، كان يجب عليه مواجهة مشكلة تقنية كبرى، حيث تعطلت الدمية الميكانيكية للقرش خلال التصوير. بدلاً من أن يتوقف أو يغير الخطة، قرر سبيلبيرغ أن يعتمد أكثر على التوتر النفسي وتصوير اللقطات التي تُظهر تأثير الخطر بدلًا من إظهار القرش نفسه، وهذا القرار غير المخطط له جعل الفيلم أكثر إثارة وجعل التوتر النفسي فيه لا يُنسى. سبيلبرغ كان يؤمن أن “المرونة في مواجهة الفوضى هي واحدة من أعظم الأدوات في حقيبة المخرج”.
تحدث عن هذا مرة وقال: “عندما تتعطل الأشياء، عليك أن تبتكر حلًا يجعلها تبدو وكأنها كانت جزءًا من الخطة الأصلية”.
هذا الدرس جعله واحدًا من أكثر المخرجين قدرة على التعامل مع مواقف التصوير غير المتوقعة. نرى مثالًا آخر على هذا في فيلم “حديقة الديناصورات”Jurassic Park. خلال تصوير مشاهد الديناصورات في الليل، واجه الفريق مشكلة عندما بدأت الأمطار الغزيرة تتساقط بشدة. بدلاً من أن يتوقف عن التصوير، استخدم سبيلبيرغ المطر كعنصر إضافي لتعزيز الدراما في المشهد، وأصبحت اللقطات الليلية تحت المطر من أكثر اللحظات إثارة في الفيلم.
ولا يمكننا أن نتحدث عن المخرجين الذين يحولون الفوضى إلى فرص دون ذكر جيمس كاميرون، خاصة خلال تصوير “التايتنك”. من المعروف أن تصوير هذا الفيلم واجه تحديات هائلة، بدءًا من الميزانية الضخمة وصولًا إلى تصوير المشاهد المائية المعقدة.
لكن كاميرون، المعروف بشخصيته الحازمة، لم يسمح لأي تأخير أو مشكلة أن تؤثر على رؤيته. كان يقول مازحاً وجاداً في نفس الوقت: “الأمر بسيط، إما أن تنجح أو تموت وأنت تحاول”. هذه المثابرة هي التي جعلت فيلمه يحقق نجاحًا أسطوريًا.
بالنسبة لجيمس كاميرون، فهو يجسد روح المخرج الذي لا يعرف المستحيل. “التايتنك” كان مغامرة سينمائية بكل المقاييس، وكان كاميرون يعمل على كل التفاصيل من بناء السفينة الضخمة إلى التحكم في الكاميرات تحت الماء. عندما صور مشهد غرق السفينة. كانت المياه باردة ومرهقة للممثلين، والمشاهد الأخيرة تطلبت الكثير من التحمل الجسدي والنفسي. حتى مع كل التحضيرات الدقيقة، كانت الأمور تسير بشكل خاطئ في بعض الأحيان، لكن كاميرون كان يعرف أن اللحظات الحقيقية تكمن في التفاصيل غير المتوقعة. لقد سمح للممثلين بالتفاعل مع الوضع الطبيعي، وكانت النتيجة مشاهد غرق حقيقية مفعمة بالتوتر والعاطفة.
في عمق الإبداع السينمائي، تظهر اللحظات التي يبدو فيها كل شيء على وشك الانهيار، لتصبح هي اللحظات التي يُصنع فيها سحر الأفلام الحقيقي. التصرف تحت الضغط والتكيف مع المواقف المفاجئة، هما مهارتان حاسمتان لكل مخرج ناجح. ما يجعل مخرجين مثل هيتشكوك وسبيلبيرغ وكاميرون عظماء، هو قدرتهم على فهم أن السينما ليست فقط فن الإتقان المسبق، بل أيضًا فن السيطرة على الفوضى. أن اللحظات التي تنقلب فيها الأمور رأسًا على عقب هي التي قد تعطي الفيلم روحه الفريدة. هذه القدرة على الارتجال تحت الضغط، وعلى تحويل العقبات إلى فرص، هي ما يميز المخرجين العظماء.
المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إينياريتو، الذي واجه تحديات لا تُحصى خلال تصوير فيلمه الملحمي “العائد”. كان تصوير الفيلم يتم في بيئات قاسية وبعيدة، حيث تعرض الطاقم لظروف الطقس الباردة وصعوبات طبيعية جعلت البعض يعتقد أن التصوير لن ينتهي أبدًا. لكن إينياريتو، بعناده وإصراره، كان يؤمن أن الطبيعة نفسها هي جزء من الحكاية. قرر عدم استخدام الإضاءة والاعتماد كليًا على ضوء النهار الطبيعي. هذا القرار الصعب تطلب التخطيط المكثف والتعامل مع تغييرات الطقس التي لا يمكن التنبؤ بها. كل لقطة كانت تجري في ظروف مختلفة، مما اضطر الفريق إلى انتظار اللحظات المناسبة. لكن إينياريتو ظل مؤمنًا بأن الواقعية والصدق في التصوير سيمنح الفيلم طابعًا أصيلًا. التحديات الجسدية التي واجهها الممثلون، خاصة ليوناردو دي كابريو، أعطت الفيلم عمقه العاطفي، وحوّل الفوضى إلى تجربة سينمائية لا تُنسى.
ونستطيع أيضًا أن نتحدث عن المخرج البولندي رومان بولانسكي، الذي اشتهر بقدرته على التعامل مع المواقف الحرجة. خلال تصوير فيلمه الكلاسيكي “الحي الصيني”، تعرض بولانسكي لضغوط هائلة من منتجي الفيلم، وكان في صراع دائم مع السيناريو والممثلين. لكن ما كان يميز بولانسكي هو حساسيته المفرطة تجاه التفاصيل النفسية والدرامية.
في أحد المشاهد الشهيرة، عندما لم يستطع جاك نيكلسون تقديم الأداء المطلوب، بدلاً من إيقاف التصوير أو الغضب، قرر بولانسكي تعديل الحوار بشكل طفيف وجعل المشهد أكثر ارتجالاً، مما أتاح لنيكلسون فرصة لإظهار جانبه العبقري في التمثيل. لقد أظهر بولانسكي هنا قدرة استثنائية على التأقلم مع اللحظة.
لا ننسى أيضًا المخرج الفرنسي جان-لوك غودار، أحد رواد “الموجة الجديدة”، والذي كان من أشد المؤمنين بالارتجال في السينما. غودار كان يرى أن السينما الحقيقية تأتي من ردود الفعل الفورية وغير المتوقعة. في فيلمه “اللاهث ١٩٦٠”، استخدم غودار تقنيات تصوير غير تقليدية وترك الكاميرات تدور بحرية ليحصل على مشاهد نابضة بالحياة. لم يكن يهتم كثيرًا باتباع قواعد السيناريو والالتزام بالنص، بل كان يعطي ممثليه حرية أكبر للتفاعل مع النص والمكان. كان غودار يقول دائمًا: “السينما ليست مجرد سرد قصة، بل هي اكتشاف مستمر للحياة نفسها”. وبهذا النهج، استطاع غودار أن يحول كل لحظة غير مخطط لها إلى جزء من أسلوبه الفريد.
هذه الأمثلة تُظهر لنا أن المخرجين العظماء، ليسوا فقط قادرين على التغلب على الفوضى، بل يتبنونها كجزء من رؤيتهم الفنية. هؤلاء المخرجون يعلمون جيدا أن السينما هي القدرة على التكيف مع اللحظة، والإبداع في مواجهة التحديات هو ما يخلق تجارب سينمائية تبقى خالدة في الذاكرة.
*شاعر وكاتب من الأردن يقيم في لندن