البطء والضجر والزمن في السينما
كتابة: نادين ماي
ترجمة: أمين صالح
الزمن الخامد
ما هو الرابط بين الفيلم والضجر؟ ما السبب الذي يجعل بعض الناس يشعرون بالضجر لدى مشاهدتهم فيلماً بينما لا يشعر الآخرون بذلك؟
سباستيان كورديس، مخرج فيلم “مكان يسمى لويد”، يستقصي موضوع الضجر في السينما، دامجاً تجربته كمخرج وقراءاته النظرية.
الضجر، لغوياً، يتصل بالزمن أيضاً. على نحو فينومينولوجي (ظاهراتي)، الضجر حالة من الكينونة يشعر فيها المرء بأن الزمن يطول ويتمدد.
لكن السينما البطيئة لا تنحصر في موضوع الزمن فقط. هي أيضاً عن الثيمات التي لا تجد غير القليل من الكشف في الأفلام الأخرى، الأكثر شعبية. إن التنامي العمودي، أي سبرها المتعمّق للثيمات كنقيض للتعاقب الأفقي للسرد مهما كلّف الأمر، يسمح لنا بالاقتراب من موضوع متّقد هو قلب بعض حيوات الناس.
غالباً ما يتحدثون عن السينما البطيئة في سياق الزمن الميت، الزمن الخامد. بعد أن ينتهي الحدث، يبقى الكادر خالياً لعدة ثوانٍ، والذي يختبر صبر المتفرج. أفلام الفلبيني لاف دياز ليست مختلفة، لكن استخدامه للأمد الطويل والزمن الخامد يتّخذ بعداً آخر. إنه يخلق شيئاً أسميه زمن الموت. الموت دائماً يأتي على مهل في أفلامه. إنه يستغرق وقتاً. والأمر لا يتعلّق كثيراً بالزمن الميت أو الخامد في أفلام دياز بل بالانحدار البطيء نحو الجنون مع موتٍ يتّخذ شكل ملاذ للمضطهَدين.
التلاعب بالأمد
البطء أمر نسبي. ما يبدو لي سريعاً، قد يراه غيري بطيئاً. صحيح أن الأفلام البطيئة تستخدم جماليات متماثلة جداً، إن لم تكن من النوع نفسه، لكن كيف يمكن أن نميّز الحدود الفاصلة؟
في بحث سابق، ربطت بين توظيف الزمن في معسكرات الاعتقال والطريقة التي بها يوظف لاف دياز الزمن في أفلامه التي تدور حول الإرهاب والصدمات التي يخلقها. وجدت تماثلات بينها وتحدثت عن “زمن الموت”. من الصفات المميزة للسينما البطيئة استخدامها للزمن الخامد أو الميت، والذي حوّلته إلى زمن الموت. الزمن هنا يُستخدم كشكل من أشكال السلطة، ومن أشكال العقاب. أمد لا نهاية له يدفع الشخصيات نحو الجنون. ثمة مزيج غريب في أفلام دياز للصدمة والأمد، للفوري والانتظار اللانهائي. وأنا أسمّي هذا التعقيد زمن الموت.
من أي النواحي يمكن لنا أن نرى إلى السينما البطيئة ككل؟ ثمة أفلام قريبة جمالياً من أفلام دياز، مع ذلك هي مختلفة تماماً. وهي أيضاً تستخدم الزمن على نحو مختلف. لاف دياز يحقق أفلاماً تستغرق ساعات طويلة، بينما يلتزم أغلب مخرجي الأفلام البطيئة بالمدّة الزمنية المعتادة في العرض.. ساعتين تقريباً. بالتالي، يستطيع دياز أن يتلاعب بالأمد، والمدة الزمنية. وأفلام دياز مختلفة أيضاً في كونها تتعامل، على وجه التخصيص، بما يعانيه الناس من أذى وأضرار وصدمات.
الزمن الميت هو تعبير عن التفاعل المركّب والمعقّد للفوري والأمد لجعل شخصيات الفيلم تُبتلى بصنوف من البؤس والشقاء. إن الموت يلعب دوراً رئيسياً في السينما البطيئة. البطء غالباً ما يعادل الموت. وفنانو الاتجاه المستقبلي كانوا شديدي التوق لتسريع الحياة وذلك لأن السرعة تعني العيش، تعني التقدّم، بالتالي هي حركة إلى الأمام. البطء أيضاً يعني الحركة، لكنه غالباً ما يرتبط بالركود.
الموت ليس هو بالضرورة الموت الذي نتخيله، وليس مرتبطاً بالضرورة بالبشر. في أفلام دياز لا يموت الكثيرون لكننا نعرف أنهم سيموتون في نهاية المطاف. إنهم على شفا الموت طوال الوقت. إنهم السائرون موتى. هل هذه الأفلام بطيئة لأنها تتعامل مع الموت بطريقة أو بأخرى؟ هل تستطيع التعامل مع الموت على نحو ملائم في الأفلام السريعة؟
فن الفراغ
دائماً أربط فن الرسم (أو أي فن سكوني بوجه عام) بالسينما البطيئة. ليس لأنني اعتقد أنهما متماثلان. إذ لا يمكن لهما أن يتماثلا. كل منهما لديه صفات فردية مميزة، مستقلة، تفصل أحدهما عن الآخر. لكن هناك هذا التوظيف للأطر الفارغة، الأطر الساكنة، ذات الحوارات القليلة أو المعدومة، في الأفلام البطيئة، التي دوماً تذكّرني بوقوفي في الجاليري أمام لوحة ما، متأملة المشهد الذي أراه في الوقت الذي أعيّنه من دون أن يفرض عليّ أحد توقيتاً محدداً.
“فن الفراغ” عنوان كتاب بالفرنسية حرّره الباحث إيتزهاك غولدبرغ، وصدر العام 2017، جمع فيه مواداً لباحثين وفنانين عن موضوع الفراغ في اللوحات، الرسومات، أفلام التحريك، وأشكال أخرى. أما الفصل الذي استمتعت بقراءته فكان بعنوان “بُعْد الفراغ في الفن المعاصر” للكاتبة ناديا بارينتوس.
وهنا أود أن أشير إلى ما قاله الفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي عن عدم قدرتنا على اختراق الفراغ. وأن الفراغ هو الذي يخترقنا، ينفذ من خلالنا، ويخلّف وراءه الفراغ. الفراغ يعني، في الواقع، الامتلاء. ثمة قول صيني مأثور: الفراغ والامتلاء.. يتمّم أحدهما الآخر. ولا يوجد أحدهما من دون الآخر.
في مقدمة الكتاب، يشير محرّره جولدبرغ إلى أن الرؤية الأوسع للفراغ كموضوع، في حدّ ذاته، أنه ليس ظاهرة حديثة. بالأحرى، الفراغ كان دائماً موجوداً هناك، لكن الظروف الخارجية، مثل السرعة المتزايدة لحياتنا، تجعلنا واعين أكثر لوجود النقيض: البطء، العدم، الفراغ. إنه يشبه بحثك عن شيء لتفعله بينما أنت ضجر. العدم يفسح مجالاً للامتلاء، والعكس صحيح.
في مقالة عن الفراغ في الفن، يشير أندريه رووي إلى أن للفن فرصة وضع نفسه بعيداً عن كل الصور القائمة بالوساطة في عالم حافل بالصور وذلك بوضع الفراغ (أو العدم) في مركزها. ويضيف أن الميديا محكوم عليها بأن تكون سريعة طوال الوقت، فهي تريد اختطاف المتلقي عبر احراز السبق الصحفي بشأن القضايا والأحداث المهمة. لكن الفن قادر أن يعمل كترياق لهذه السرعة المتزايدة دوماً والتي تعمل الميديا على جعلها طبيعية.
اعتقد أن ما يتصدّى بقوة مع السينما البطيئة هو ما أشار إليه نورمان مكلارين إلى كون الفراغ جزءاً رئيسياً من الفن، وقال مكلارين أن ما هو مهم ليس الصورة لكن ما يمكن العثور عليه بين الصور. إنه ليس عن الإظهار بل عن الإيحاء. ومن أجل الإيحاء بشيء ما على الشاشة، يتعيّن عليك أن تستخدم العدم. يتعيّن عليك استخدام ما هو بعيد، شيء ليس موجوداً، شيء لا يسهل الإمساك به في بادئ الأمر. عدد كبير من مخرجي الفيلم البطيء يستخدمون هذه الاستراتيجية في سبيل إشراك المتفرج في قصص أفلامهم.
إن تحدثت عن استخدام الغياب فسوف أفكر حتماً في المخرج لاف دياز
وتوظيفه الرائع لحالة الركود من أجل الإيحاء بالصدمة، وخلق تعاقب بطيء الحركة تقريباً للسرد. لكن استخدام العدم (أو الغياب) يجعل المتفرج “المكيّف” يواجه مشكلة، وهو الذي اعتاد أن يتلقى كل شيء على طبق من فضة، بحيث يستمتع بالفيلم عوضاً عن الاضطرار إلى بذل الجهد لفهمه. هذا التكييف هو أيضاً السبب في رفض الأفلام البطيئة لأنها لا تطابق ما اعتاد عليه المتفرج. في الأخير، كما يؤكد جولدبرغ، هذا موقف غربي بامتياز: لا أصدّق إلا ما أراه. أحياناً اللامرئي لا يؤخذ بعين الاعتبار، وغير جدير بالذكر.
البطء/ الفراغ يمكن أن يكون ترياقاً للقلق الذي تُحدثه عوامل خارجية. في الفصل الرائع عن جماليات الغياب في الفن المعاصر، تكتب ناديا بارينتوس عن الغياب الذي يرغمنا على تحويل انتباهنا إلى شيء فلَت منا سابقاً وغاب عن ذاكرتنا. الغياب يعمل كتذكير بشيء كان منسياً سابقاً، وليُظهر لنا هذا الشيء في ضوء جديد. الغياب يعمل مثل الصمت، الذي غالباً ما يُستخدم لتعزيز ما قيل أو ما ينبغي أن يُقال.
للعدم، أو الفراغ، كما يُظهر هذا الكتاب، معنى ذو مدى رحيب. ما يبرز في كل فصول الكتاب، الفكرة التي تقول أن اللاشيء لا يعني لا شيء، بل على العكس، اللاشيء دوماً يمثّل شيئاً، ويساعد في إلقاء الضوء على هذا الشيء الخاص. إن استخدام الفراغ/ الغياب هو وسيلة لإشراك المتفرج، للتفكير ملياً في ثيمات رئيسية وهامة. يمكن للعدم أن يسبّب القلق أو يهدئ ويسكّن. ويمكن له أن يكون مركز العمل الفني، أو يمكن أن يكون واحداً من صفات مميزة عديدة. يمكن للعدم أن يكون هناك من البداية، أو يمكن للعمل الفني أن يختفي أمام بصر المتفرج. هذا “العدم” متعدّد الأوجه، وأكثر من مجرد “لا شيء”.
عن الضجر
ثمة دراسة هامة ومفيدة أعدها جاكوب بوير عن الضجر ومشاهدة الأفلام البطيئة، في العام 2005. لقد لاحظت، على نحو يبعث على الأسى، دوران الباحثين في السينما البطيئة في حلقات متكررة وغير مجدية، من دون استخراج سوى الضئيل جداً من الأفكار الجديدة، المثيرة للاهتمام. إننا لا نزال نناقش، على نحو رئيسي، المسألة الذاتية بشأن الزمن “البطيء” وجذوره في الواقعية الإيطالية الجديدة (والذي هو غير صحيح).
دراسة بوير، ذات المنحى الفلسفي، هي استقصاء في مظهر الضجر، والذي غالباً ما يتم مناقشته في سياق السينما البطيئة. إنها تركّز على الجمهور. والسينما البطيئة هي أحدى أشكال السينما التي تحركها تجربة المشاهدة. شخصياً اعتقد أنك تخسر تجربة الأفلام البطيئة كلها إن حاولت أن تقرأها حصرياً من خلال عدسات نظريات الفيلم. كباحثين، نحن نضطر إلى فعل ذلك، لكنه ليس مفيداً دائماً. ربما (وهذا ما نرجوه) تنجح السينما البطيئة في تعليم الأكاديميين التنازل عن مطالبهم قليلاً، والتخفيف من بنية التفكير النظري.
تعريف البطء
ما هي السينما البطيئة؟ هل هي نوع، حركة؟ أم شيء آخر؟ في الواقع، أنا لم أحسم هذا الأمر، ولم أحدّد تعريفاً، لذلك لا تعنيني هذه المسألة كثيراً. قد يهتم بها الباحثون من أجل تصنيف هذه الأفلام ووضعها ضمن فئات قائمة ومعروفة. المتفرج على الأرجح لا يكترث بهذا ولا يضيّع دقيقة واحدة في محاولة معرفة هذه الأشياء. إن كان هناك شيء واحد تفعله السينما البطيئة فذلك أنها تبدي للعيان الاختلافات البالغة بين الأكاديمي والمتفرج، والأكاديمي غالباً ما ينسى أنه متفرج أيضاً.
ما لفت نظري في دراسة بوير افتراضه أن الأفلام البطيئة تخلق الضجر غيابياً، أي على نحو افتراضي. إنه يراعي التأثيرات الإيجابية للضجر، مثل خلق التأمل. لكن الأمر يبدو هنا كما لو أنه يتعيّن عليك أن تشعر بالضجر أولاً وبعدئذٍ، إذا سارت الأمور بشكل حسن وتحوّل الضجر ليصبح إيجابياً، فإنك تصل إلى حالة التأمل. التأمل هنا مرئي في سياق الضجر. ألا يمكن للمرء أن يتأمل فيلماً أو صورةً أو لوحةً من دون أن يكون ضجراً؟ لا اعتقد أن الأفلام البطيئة تحْدث الضجر بشكل افتراضي. لو كان الأمر كذلك فإنه يعني أن الناس لا يذهبون لمشاهدة تلك الأفلام إلا لأنهم يريدون أن يكونوا كسالى.
لكن ماذا عن المشاهدة الفعالة، النشطة؟ لا أظن أن شخصاً ضجراً يمكن له أن يتفاعل بحيوية مع الفيلم. لكي تشاهد الأفلام البطيئة تحتاج أن تكون مشاركاً بفعالية من أجل الإمساك بالمعنى، السرد، الانعطافات غير المتوقعة، التحولات.
بدلاً من أشكال مختلفة عديدة لحدث يجرى، فإن السينما البطيئة غالباً ما تصوّر حدثاً واحداً فقط. مع ذلك، ثمة الكثير مما يحدث لكن ليس بالضرورة على المحور الزمني. إنه يتصل أكثر بالعمق. الفنانة مايا ديرين تحدثت عن الشعر بكونه عمودياً (أكثر مما هو أفقي) لأنه يصف الثيمات ويستقصيها في العمق. بالنسبة لي، العمودي يعني العمق، والأفقي هو السطح. السينما البطيئة عمودية، وعليك أن تكون مشاركاً بفعالية من أجل أن تحفر طريقك نحو الفيلم. حتى التأمل يمكن أن يكون إلهاءً في بعض الحالات. عندما أجد نفسي إزاء لقطة في غاية الجمال فإنني أنسى السرد.
لا أعتقد أن دراسة الضجر يمكن تطبيقها على متفرجي الأفلام البطيئة. إنهم يرغبون في الذهاب في رحلة، وإذا كانت رحلتك مضجرة فلابد أنك ارتكبت خطأ ما.
المصدر:
موقع The Art(s) of Slow Cinema