“البرّ التانى”.. السرد على طريقة الكلمات المتقاطعة!
لا تحتاج إلى أن تكون دارسا للسينما لكى تشعر بالتململ والذهول، وأنت تشاهد فيلم «البرّ التانى» الذى كتبته زينب عزيز، وأخرجه على إدريس، وأنتجه وقام ببطولته محمد على، واشترك الفيلم (مع الأسف) فى المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائى. التململ لأنك تشعر وكأنك قد عدت لتجلس بالبيجامة على مقعدك أمام التليفزيون بالمنزل، حيث تتوالى أمامك مشاهد مسلسل أقرب إلى حلقات «سرّ الأرض» التعليمية، بل لعل حلقات «سر الأرض» كانت تمتلك شخصيات طريفة، وابتسامات ظريفة، لن تجدها لا على «البر التانى»، ولا على«البرّ الأول».
أما الذهول، فسببه أن هناك من لا يزال يصنع أفلاما بهذا الترهل والسطحية، ويكلفها الملايين، بينما نشاهد أفلام الهجرة والمهاجرين الممتازة والمؤثرة، بكل لغات العالم تقريبا، وبكثير من الأفكار اللامعة. ألم يشاهد صناع «البر التانى» فيلما واحدا من هذه الأفلام فيقلدوه أو ينقلوه بدلا من هذا السرد العجيب؟ ألم يشاهدوا مثلا فيلم «أمريكا شيكا بيكا» لخيرى بشارة، فيتعبوا قليلا فى البحث عن شخصيات تبقى معك، بدلا من أن تنساها أو تتمنى غرقها لتتخلص منها؟
ويستكمل الذهول أن يتم إهداء الفيلم إلى روح وعالم محمد خان السينمائى، فكأنهم لم يتعلموا شيئا من طريقته المكثفة المدهشة فى السرد، ولا من طريقته فى تقديم شخصياته فى أقل عدد من الدقائق، ولا استوعبوا قدرته الفذّة على وضع البشر فى المكان، ولا استطاعوا أن يقلدوه فى بناء الموقف العاطفى المؤثر بدون مبالغات أو صراخ أو موسيقى صاخبة، ربما كان الإهداء المناسب أكثر هو لطريقة أسئلة الكلمات المتقاطعة المباشرة، وليس لعالم محمد خان، إذ إن الفارق كبير بين أن تصنع فيلما عن المهمشين والغلابة، وبين أن تأخذ مجرد عناوين عن حياتهم.
لا يعقل أبدا أن تنفرد كل شخصية بأخرى، لتسألها مثلا: «هو أنت مهاجر ليه إيطاليا؟» فترد الشخصية الأخرى: «البلد ما فيهاش شغل، وعليّا أقساط.. وانت مهاجر ليه؟» فترد الشخصية الأخرى:«البلد ما فيهاش شغل.. وعليّا أقساط».
ليس هذا هو نصّ الحوار، ولكنه تقريبا مضمون الثرثرة المتواصلة للشخصيات سواء فى قريتهم التى يعمل أهلها فى «تقميع البامية»، أو عندما ركبوا السفينة، فواصلوا الثرثرة من جديد. أظن أن الناس تودع ذويها عادة بالدموع، وبالكلمات المؤثرة، وبالتالى فإننا لا نفترض أن يعيد الفيلم ويزيد فى لحظات الوداع.
كنا ننتظر أن نرى بدلا من ذلك رؤية وتحليلا ودراسة أكثر للتفاصيل، وليس مجرد حركة ورغبة فى السفر، بل لعلنا كنا فى حاجة أيضا لكى نتوقف لتعميق شخصية منظم الهجرة (بيومى فؤاد)، وشخصية قائد السفينة الشرس، ولكن من قال أصلا إن «البر التانى» قد كتب بمنطق الدراما الحقيقية؟ لقد كتب مع الأسف بمنطق صفحات الحوادث، وإحصائيات وزارة شئون الهجرة، وربما أيضا بمنطق دراسة حالات تستحق المساعدة والتعويض من وزارة التضامن الاجتماعى!
هذا هو سر طريقة الكلمات المتقاطعة فى الفيلم، والتى قدمت لنا بكثير من الترهل حكايات ثلاثة من المهاجرين: سعيد (محمد على) الذى كان يعمل فى القاهرة، ثم طرد من عمله، فقرر أن يهاجر، ولكن ليس قبل أن نراه مع أمه الفلاحة (عفاف شعيب)، ووالده الضرير (عبدالعزيز مخيون)، وليس قبل أن نراه وهو يغازل حبيبته ويطلب منها بوسة، وحكاية عماد (عمرو القاضى) الذى ستنجب زوجته طفلا، ولكنه يقرر السفر، فقد أبى أن يهاجر قبل أن يترك لأمه ولزوجته طفلا من «ريحته»، وحكاية مجدى (محمد مهران) الذى قرر الهجرة، بعد أن طرد من عمله فى مجال النجارة، كما أنه يعانى من الحماية الزائدة التى تطارده بها أمه (حنان سيلمان)، حتى فى الطريق إلى مركب الرحلة.
من العجيب حقا أن يبدأ فيلم عن الهجرة بعودة الشاب سعيد من القاهرة، ولا يبدأ مباشرة من مشهد التجمع أمام السفينة، لقد اختاروا ذلك لأن الثرثرة ستطيل مدة الفيلم، بينما التكثيف بالحذف أمر أصعب بكثير، وهكذا انكشف تدريجيا فقر الدراما على المركب مثلما انكشف على البرّ، حيث سيتواصل السؤال والجواب بين الشخصيات على المركب أيضا، ولن يجد الفيلم سوى اصطناع معارك ساذجة بالمطاوى، وتهديدات من قبطان مثير للضحك، وعملية تفتيش هزيلة من حرس السواحل الإيطالى تنتهى برشوتهم بدولارات المصريين المهاجرين، ولم يكن ينقص قائد الحرس الإيطالى إلا أن يقول للمهاجرين طلبا للإكرامية: «كل سنة وانت طيب يا خبيبى.. الرجالة بتوع الأنا آيزين فلوس الساى والكهوة».
الآن لم يعد باقيا إلا مشهد غرق السفينة بسبب إهمال القبطان فى علاج ثغرة فى جسم السفينة قبل إبحارها، وعلى الرغم من أن هذا المشهد هو أفضل مشاهد الفيلم تنفيذا، فإنه مشهد متوقع، لا تسانده دراما قوية، ولا شخصيات مكتوبة بعناية، ولا يضيف المشهد الكثير إلى ما ننتظره، بل لعله يطلق أسئلة مهمة أساسية مثل: ما هو موقف الفيلم أصلا من قضية إنفاق آلاف الجنيهات فى سبيل الهروب من ظروف سيئة ولا أمل فى تغييرها؟
ماذا لو كان القبطان قد فحص سفينته قبل الإبحار بها؟ وماذا لو أن المهاجرين قد وصلوا سالمين؟ هل الهجرة مثل الجريمة لا تفيد؟ أم أنها مغامرة ومقامرة ضرورية وشرّ لا بد منه مهما كانت النتائج؟، ألم يفكر صناع الفيلم ــ ولو للحظة مثلا ــ فى أن إنهاء الفيلم فى موقف الخطر والصراخ لا الغرق والموت أكثر بلاغة فى نقل حيرة السؤال إلى المشاهد؟ طبعا لن تجد أى إجابة، لأن الحكاية كلها لم تدرس إلا من السطح.
تواصلت حركة بدنية مستمرة طوال الوقت، ولكنها فشلت فى أن تكون بديلا عن حركة الدراما والتعبير، وعملت فى الوقت نفسه ضد كل الممثلين، فوقع مخيون، وكذا عفاف شعيب وحنان سليمان، فى فخ المبالغة، وظهر محمد على باهتا تماما، بينما لفت نظرى بقوة فى فيلم «المعدية»، وتاه محمد مهران، وأخذ الممثل الذى لعب دور القبطان فى الصراخ، وكأنه يمثل على «المسرح العائم»، ولم يبق فى الذاكرة سوى الأداء الهادئ الواثق لبيومى فؤاد، والوجه الوديع المعبّر لعمرو القاضى.
فى فيلم به ثلاثة مونتيرين، واثنان من مديرى التصوير، ظلت الكلمة العليا لحوارات مستمرة، فلم أجد شيئا لافتا إلا بعض مشاهد غرق السفينة، ولم أطمح إلا فى أن ينتهى الوقت سريعا، قبل أن أغرق فى طوفان البحر، وقبل أن تنتهى بى الفرجة على الأفلام إلى «تقميع البامية» فى مستشفى المجانين!
(عن جريدة الشروق المصرية بتاريخ 2 ديسمبر 2016)