الاتجاه التوثيقي في النقد السينمائي المغربي
يشار في أدبيات البحث العلمي وأصوله إلى أن التوثيق هو مسلك في الدراسة يعنى بتقديم الحقائق والوقائع عبر ثلاث آليات رئيسية هي الجمع والتحقيق والتأريخ. وغالبا ما يتم ذلك عن طريق استقراء مادة البحث، وتصنيفها وإعادة تركيبها. ولأن آلية التحقيق غائبة لحد الساعة عن المتابعات النقدية التي أنجزت بصدد المنجز السينمائي المغربي، ونظرا لضآلة المنتج النقدي الذي يتخذ من تاريخ السينما المغربية موضوعا للبحث والتقصي، فإن ما يعنينا في الاتجاه التوثيقي داخل النقد السينمائي المغربي هو تلك الأبحاث التي أنجزها النقاد السينمائيون المغاربة حول المسار الإبداعي لشخصية سينمائية مغربية وتقدموا بها على شكل أوراق خلال ملتقيات أو عروض أو ندوات، أو هيأوها خصيصا للنشر، وكان الهدف من ورائها أساسا توثيق التجربة الإبداعية للشخصية السينمائية المراد دراستها أو الاحتفاء بها، وحفظ المادة العلمية التي وثقت لهذه التجربة.
انسجاما مع التعريف السابق فإننا صنفنا ضمن إطار الاتجاه التوثيقي في النقد السينمائي المغربي مجمل المؤلفات التي أصدرها نقاد سينمائيون مغاربة خصيصا للحديث عن رمز من رموز السينما المغربية، أو أصدرتها هيئات أو مؤسسات أو جمعيات من أجل توثيق تجارب سينمائية أو فنية لمجموعة من الفاعلين السينمائيين المغاربة وساهم في إنجازها دارسون مهتمون بحقل السينما بالمغرب.
نستحضر في هذا المقام مؤلفات سهر على إعدادها نقاد مغاربة من قبيل : بصمات من الذاكرة الرمادية – محمد الركاب – لإدريس الجعيدي، ومحمد مزيان سينمائي وحيد ومتفرد لأحمد سجلماسي، ومن أجل بصطاوي لخالد الخضري. كما نستحضر أيضا بعض المؤلفات التي كانت وراءها جهود جماعية كالعربي الدغمي إبداع مغربي أصيل، وسينما داود أولاد السيد المرتكزات والخصوصية، والتجربة السينمائية لعبد القادر لقطع، والمكونات الجمالية والفكرية لسينما محمد عبد الرحمان التازي، والتجربة السينمائية لسعد الشرايبي، ومومن السميحي قلق التجريب وفاعلية التأسيس النظري، وسينما أحمد المعنوني الانسياب الواقعي والبعد الجمالي، وسينما سعد الشرايبي بنياتها ودلالاتها.
ورأينا أن نختار من هذه المؤلفات كمتن للاستدلال على حضور الاتجاه التوثيقي في النقد السينمائي المغربي ثلاثة كتب هي: سينما داود أولاد السيد المرتكزات والخصوصية، وفوزي بنسعيدي سينما مغايرة، وسينما مومن السميحي قلق التجريب وفاعلية التأسيس.
سينما داود أولاد السيد
يعد هذا الكتاب ثمرة من ثمرات الملتقى السينمائي الثاني الذي نظمته جمعية القبس للسينما والثقافة بمدينة الرشيدية في محور مرتكزات التجربة السينمائية لداود أولاد السيد. وقد كان الهدف من هذا الملتقى توثيق الجهود التي تقوم بها الجمعية، والتعريف بالتجربة السينمائية لأحد أبرز وجوه الإخراج السينمائي بالمغرب.
ويتضمن هذا الكتاب مجموعة من الدراسات والأبحاث التي همت التجربة السينمائية لداود أولاد السيد والتي أنجزها نقاد سينمائيون مغاربة، ويتعلق الأمر بفيلموغرافيا داود أولاد السيد، وداود أولاد السيد يتحدث عن سينماه لأحمد سجلماسي والخصوصية والمرتكزات في أفلام داود أولاد السيد لمولاي إدريس الجعيدي، وثلاثية الحنين في سينما داود أولاد السيد لعبد اللطيف البازي، وجماليات الخراب في أفلام داود أولاد السيد لحميد تباتو، والسينمائي والفوتوغرافي في سينما داود أولاد السيد لمحمد شويكة، والشعرية الجمالية في أفلام داود أولاد السيد لنور الدين محقق، والامتداد الفني والفن الفوتوغرافي في سينما داود أولاد السيد لعامر الشركي، والحنين إلى الماضي في فيلم عود الريح لبوبكر الحيحي، ومحطات ثلاث في حياة أولاد السيد الفنية لفؤاد سويبة. ويتضمن هذا المؤلف أيضا حوارا ساءل فيه حميد تباتو داود أولاد السيد حول مسيرته المهنية والإبداعية.
وقد لامس النقاد المساهمون في هذا المؤلف المسار الفني لداود أولاد السيد، وكذا مجمل العناصر المشكلة لتجربته السينمائية سواء على مستوى المضامين التي طرحتها أفلامه الروائية الطويلة، أو على مستوى لغتها السينمائية. ففي المؤلف إشارات وافية إلى المراحل الأولى لولوج داود أولاد السيد عالم الإخراج السينمائي، والعوامل التي أثرت في تجربته السينمائية، والمميزات العامة لهذه التجربة، بالإضافة إلى العوائق التي صادفتها. كما يتضمن هذا المؤلف معطيات رقمية عن المنجز السينمائي لداود أولاد السيد، ومعلومات دقيقة عن الطاقم الفني الذي كان يشتغل معه. وفي المؤلف أيضا رصد للعوالم الدلالية التي استهوت داود أولاد السيد فاشتغل عليها، كالخيال والذات والهامش والحنين والانتظار. وفي المؤلف كذلك عرض لخصوصيات الإبداع السينمائي عند داود أولاد السيد كالبعد الفوتوغرافي، والإيقاع البطيء، واللقطة العامة.
داود أولاد السيد
والملاحظ أن هذه الدراسات قد توزعت بين التأريخ لتجربة داود أولاد السيد السينمائية، وتأمل منتج هذه التجربة. ففي الوقت الذي اعتنت فيه بعض الدراسات بالحديث عن المسار الفني الذي قطعه داود أولاد السيد، وما أفرزه هذا المسار من أفلام قصيرة وطويلة، ركزت فيه دراسات أخرى على مرتكزات هذا المسار وخصوصياته الفكرية والجمالية. وفي هذا الإطار وجهت بعض البحوث اهتمامها نحو مقاربة تجربة داود أولاد السيد في وجهها العام، في حين ولت بحوث أخرى وجهها شطر منتج من منتجات هذه التجربة فتولت تأمله تأملا فكريا وفنيا.
سينما فوزي بنسعيدي
ينتسب هذا المؤلف إلى الاتجاه التوثيقي في النقد السينمائي المغربي باعتبار العوامل التي كانت وراء ولادته. فمحتوياته في الأصل كانت عبارة عن مداخلات شارك بها مجموعة من المهتمين بالشأن السينمائي المغربي في لقاء نظمته الجمعية المغربية لنقاد السينما بالمغرب حول التجربة السينمائية لفوزي بنسعيدي. وعلى هذا الأساس فإنه يمكن اعتبار هذا المؤلف بمثابة توثيق لمساهمات المتدخلين في اللقاء، وتأريخ لتجربة فوزي بنسعيدي السينمائية.
يتضمن هذا المؤلف الدراسات التالية : وظائف اللقطة في أفلام فوزي بنسعيدي لمحمد اشويكة، والسينما المغربية وشعرية التوالد السردي، قراءة في فيلم ألف شهر لنور الدين محقق، وقراءة في بنية فيلم ألف شهر الرمزية والدلالية لمحمد البوعيادي، وآليات السلطة والتحول المجتمعي في سينما فوزي بنسعيدي لرشدي المانيرة، وفيلم يا له من عالم جميل في قلب الحداثة المعمارية لرشيد نعيم، والجمالية ولعبة الإطارات في فيلم موت للبيع لعبد الخالق صباح، والسينما كبلاغة وصفية في فيلم الحافة لبوشتى فرقزيد.
وضمن هذه الدراسات تتكشف بوضوح جملة من العناصر البانية لتجربة فوزي بنسعيدي السينمائية سواء من خلال أفلامه الطويلة ألف شهر، وموت للبيع،ويا له من عالم جميل، أو من خلال أفلامه القصيرة الحافة، الحيط الحيط، خيط الشتا. ويمكن التمييز في هذه العناصر بين ما له صلة بالجانب الدلالي وما له صلة باللغة السينمائية. فقد ركز محمد اشويكة على أنواع اللقطات والوظائف التي أدتها من خلال ثلاثة أفلام قصيرة هي الحافة والحيط الحيط وخيط الشتا، وكشف محمد البوعيادي عن الرموز الثاوية خلف حكاية فيلم ألف شهر، وأشار نور الدين محقق إلى ظاهرة تعدد الحكايات الفرعية وانصهارها في الحكاية الأم في فيلم ألف شهر. وتوقف رشدي المانيرة عند مظاهر حضور السياسي والاجتماعي في سينما فوزي بنسعيدي. واهتم رشيد نعيم بإظهار ملامح ما بعد الحداثة في النسيج الحضري للمدينة المغربية من خلال فيلم يا له من عالم جميل. ورصد بوشتى فرقزيد مظاهر البلاغة الوصفية في سينما فوزي بنسعيدي سواء على مستوى الألوان أو الشخوص أو الفضاء.
فوزي بن سعيدي
والواضح من خلال هذه الدراسات أن اهتمام الباحثين كان موزعا بين رصد العوالم الدلالية لسينما فوزي بنسعيدي من جهة، وبين الكشف عن مقوماتها الجمالية والتقنية من جهة أخرى. فقد تكفلت بعض الدراسات بالنبش في دلالات هذه السينما فوقفت عند مجموعة من المظاهر الاجتماعية والأنساق السياسية والتيمات النفسية، في حين اهتمت دراسات أخرى برصد التحققات الفنية لهذه السينما فوقفت عند أنواع اللقطات، وبنية المحكي الفيلمي، وبلاغة الصورة السينمائية.
سينما مومن السميحي
مؤلف سينما مومن السميحي، قلق التجريب وفاعلية التأسيس النظري عبارة عن وثيقة تضم بين دفتيها مجموعة من البحوث التي أنجزها مجموعة من النقاد السينمائيين المغاربة من أجل تأمل المنجز السينمائي لمومن السميحي. وقد كانت في الأصل عبارة عن مداخلات أسهم بها أصحابها في أشغال ملتقى سينمائي نظمته جمعية القبس للسينما والثقافة بمدينة الرشيدية للاحتفاء بالتجربة السينمائية لمومن السميحي.
وتحتوي هذه الوثيقة على مجموعة من المقاربات النقدية من ضمنها مقاربة أحمد سجلماسي حول خصوصيات التجربة السينمائية لدى مومن السميحي، ومقاربة حميد تباتو حول مظاهر النزعة التجريبية في أفلام مومن السميحي، ومقاربة عثمان بيضاني حول نخبوية المنتج السينمائي عند مومن السميحي، ومقاربة محمد اشويكة حول الملامح الجمالية في أفلام مومن السميحي.
وقد أبانت هذه المقاربات خصوصيات التجربة السينمائية لمومن السميحي، وتتمثل أبرز هذه الخصوصيات في المزاوجة بين البعدين الروائي والوثائقي، والاعتماد على تقنيين أجانب، والجمع بين ممثلين محترفين وآخرين هواة، والانطلاق من أرضية فكرية، وخلخلة الجاهز، وإرباك المتلقي، وتوظيف الصور الثابتة، واستخدام اللقطات العامة. ولم تكتف هذه المقاربات بالوقوف عند هذه الخصوصيات، بل تجاوزت ذلك إلى قراءة تأويلية بشأنها بغاية تحديد دلالاتها ووظائفها.
والملاحظ أيضا أن هذه المقاربات قد وزعت اهتمامها بين الاشتغال على فيلم بعينه، وبين ملامسة التجربة في وجهها العام. وسواء تعلق الأمر بالمستوى الأول أو المستوى الثاني، فإن أصحاب هذه المقاربات قد سعوا إلى تغطية مختلف جوانب المتن المدروس فوقفوا عند مكوناته الدلالية وما يرتبط بها من موضوعات وهواجس ومواقف، كما اقتربوا من مفرداته الجمالية وما يتصل بها من أساليب في صياغة الصورة، وطرق في بناء الحكاية.
إن ما يجمع المؤلفات التي تنتسب إلى الاتجاه التوثيقي في النقد السينمائي المغربي هو تقاطعها في الأهداف والمرامي والغايات. فغالبا ما تضع الجهات المسؤولة على إخراج هذه المؤلفات للوجود نصب أعينها حفظ المكتوب النقدي من التلف والضياع أولا، وتوثيق التجارب السينمائية التي تولاها هذا المكتوب بالدرس والتحليل ثانيا. إنها احتفاء في نفس الوقت بالكتابة وبموضوع هذه الكتابة، وسعي لترسيخهما في الوجدان الفردي والذاكرة الجماعية.