“الإمبراطور” .. السينما تُواكب الواقع
يدور فيلم “الامبراطور” Emperor حول رجل من ذوي البشرة السوداء في الولايات المتحدة الأمريكيَّة زمن الحرب الأهليَّة (1865:1861)، وتحديدا قبلها بسنتَيْن عندما حاصر المناهضون للعبوديَّة حصن “هاربرز فيري” 1859. من خلال قصَّة “شيلدز جرين” الأسود الذي اشترك في قتال الحصن. يقدم لنا “مارك أمين” المنتج والمخرج من أصل إيرانيّ تجربته الإخراجيَّة الأولى للفيلم الطويل، عن قصة هذا العبد “شيلدز” الذي يهرب من مزرعته بعدما تورَّط في قتل أشخاص من ذوي البشرة البيضاء، ليستغلَّ هذه الحكاية في بثّ ما يريد إيصاله لنا.
استخدم المخرج أحد كلاسيكيات انحراف الأحداث -عن طريق تغيير مالك المزرعة- لتكون شرارة توليد الدراما في فيلمه. وقد اختار اللحظة الصائبة في إحداث التغيير؛ فأوجده بعد مشاهد قليلة تُرسي ظروف الأحداث بالنسبة للبطل، ثمَّ برشاقة تعرِّف المُشاهد بسرعة انعطاف الأحداث عن طريق شخصيَّة صاحب المزرعة السكِّير المُقامر الذي رغم هامشيَّة دوره كان أحد مولِّدات بناء الفيلم.
اعتمد الفيلم في بنائه على تعميق شخصية “شيلدز جرين” (قام بدوره دايو أوكيني)، لا من خلال بطولته وريادته للأحداث وحسب بل من خلال صُناعة تاريخ للشخصيَّة. منها رواية أنَّ أصله من ملوك “أفريقيا”، ومنها أنَّ اسمه يدلُّ على القوة والعنفوان بنفسه (اسمه يعني الدروع)، ومنها لقبه الذي تمَّ بناؤه على رواية أصله وهو عنوان الفيلم “الإمبراطور”. هكذا ومن خلال مشهد بسيط من الماضي استطاع المخرج تعميق الشخصيَّة، وبثّ تعاطف أو فلنقُلْ بعضًا من الاحترام على شخصيَّة بطله. كما أنَّ فيها إشارةً -إذا أخذتْ من جانب رمزيّ- إلى أنَّ هؤلاء السود ليسوا تراب الأرض الذي يمشي عليه البيض، بل لهم أصل وتاريخ كبير لكنَّنا مَن رأيناهم هكذا.
ولعلَّ التقسيم الثلاثيَّ واضح الأقسام قد أعطى الفيلم بعض السلاسة في سرد الأحداث. فالفصل الأول يستعرض بعض الأطُر العامَّة، وحياة المزرعة ومالكها، وتغيُّر الأحداث فيها، وينتهي بهروب “شيلدز” من مزرعته، والفصل الثاني يتناول مغامرات البطل على طريق هروبه خاصةً مع ظهور صائد الجوائز المُكلَّف بإعادته، حتى وصول “شيلدز” إلى حصن “هاربرز”. والفصل الثالث يتناول المعركة وما جرى فيها حتى نهاية الأحداث. ولمْ يعتمد المخرج إلا على مشهد قدَّمه من الاقتحام في مبدأ الفيلم للتشويق، ومشهد آخر بعد ثلاثة عقود ليربط الأحداث مع تأليف قصة الفيلم. وقد نجح المخرج في أنْ يسرد القصة؛ ولعلَّ سرَّ نجاحه يكمن في بساطة السرد واستوائه وعدم التجائه إلى أيَّة أساليب قد تصعِّب عليه مهمة السرد أصلاً.
يُهمُّنا في رؤية المخرج لأحداث فيلمه ولطريقة إدارته للمشاهد أنْ نتنبَّه إلى أنَّ الغرض الرئيس من عمله ليس إنتاج فيلم إثارة وحروب، بل فيلم سياسة مُقنَّع ينصبُّ همُّه الأوَّل على اطلاعنا على مشكلة السود الأمريكيين ماضيًا، توريةً للأحداث التي تجري على أرض الواقع حاليًا. ولا يحتاج التوصُّل إلى هذه النتيجة الكثير من إعمال الفكر، بل يحتاج إلى قليل من التدقيق فيما يُعرض.
تركيز المخرج على تغذية المُشاهد بخلفيات الأحداث وبالدراما أكثر من صناعة مشاهد للقتال والحركة. هنا قد تبدو أمامنا ملحوظتان الأولى أنَّه الفيلم الأول الطويل للمُخرج مما قد يرجِّح أنَّه لمْ يُرِد أن يدخل في نوعيَّة مشاهد أكبر من خبرته الإخراجيَّة؛ فإدارة مشاهد المعارك عمليَّة في غاية الصعوبة، خاصّةً إذا امتلأتْ بـ”المجاميع” أيْ الممثلون لأدوار المُقاتلين. وعند النظر إلى مشاهد القتال في الفيلم نجد أنَّها الأضعف من حيث بنائيَّة المشهد، ومن حيث إدارة المشهد.
فقد علمنا من مشاهد الفيلم -مثال مشهد القتال في الكنيسة- أنَّ رُقاقات الأخشاب تقي من الرصاص! فبمجرد احتماء البطل بها يكون في أمان، في الوقت نفسه الذي نرى اللقطة تبرز ثقبًا ضخمًا في هذا اللوح الخشبيّ من أثر الرصاصة نفسها. ونرى اضطرابًا في إدارة الجموع وتحركاتها القتاليَّة، وسذاجة في تلقِّي الرصاص، وأخرى في التحرُّك داخل المشهد. وها هو البطل مرَّةً يتأثَّر بالرصاص ومرَّةً يقف بعدها مُقاتلاً.
ممَّا يصل بنا إلى الملحوظة الثانية؛ وهي أنَّ المخرج عندما كرَّس تركيزه على المشاهد الدراميَّة استطاع إدارة الأمر بشكل أوفق وأكثر أناقةً واعتدالاً. فهو أولاً غذَّى المُشاهد بكل خلفيات الأحداث من خلال ثنايا الحوارات، لا حوارات كاملة يُنشئها ليقول لنا: ها هي مبادئ الأحداث ومُحرِّكاتها. بل أنطق الحوارات بما يحتاجه المُشاهد ليكمل متابعة الفيلم من غير تعمُّد. وهو بهذا يصل إلى أبرع ما قدَّمه؛ فمناقشة قضيَّة كتلك في ظروف آنيَّة كهذه التي تعيشها الولايات المتحدة مسألة تحتاج لبعض التأنِّي، ولعدم تصدير مبدأ الاستعداء. خاصةً وهو في خضم صراعات ما زالت بعد مرور قرون كما هي، والشارع المُتلقِّي مُحتقن كفايةً لا يحتاج إلى شحن جديد.
لكنَّه بذكاء مرَّر ما يريد تمريره؛ فمن خلال مشهد بسيط لابن البطل بعد جلده لأنَّه يقرأ -كان السود ممنوعين من التعلُّم- تسير دمعة من عين الطفل على خدِّه لتبرر لنا ما سيحدث من البطل. ومن خلال منشور مُعلَّق ومشهد تعريفيّ بشخصية “لوك مكابي” (صائد الجوائز قام به بِن روبنسون) يدخلنا في صراع لوك مع البطل. ومن خلال محاورات أخرى بسيطة يبثّ لنا ما يريد.
حتى إنَّه كرَّر -قولاً أقصد، وهي أفكار معروفة في هذا الصراع الأمريكيّ الدائم- ما فعله المتظاهرون حاليًا من إحراق وهدم لبعض تماثيل مؤسسي الولايات المتحدة في حوار قيل فيه إنّ “توماس جيفرسون” وهو أحد المؤسسين والذي أعلن بيان الاستقلال بأنَّه كان مُستعبدًا للسود أيضًا. حتى هذا استطاع أنْ يبثَّه في حوار هادئ دون أنْ يُدخل السياق في عنتريَّة مُفتعلة. وفي حوار آخر أورد الرأي القائل إنَّ الولايات الشماليَّة -التي تناهض الاستعباد- تريد إنهاء الاستعباد لأنَّها تريد هؤلاء في مصانعها -كانت الولايات الشماليَّة صناعيَّة، والجنوبيَّة زراعيَّة- لا أنْ يكونوا في مزارع الجنوب.
أورد كل هذه الآراء ليدلَّ على مدى ما في قضيَّة السود من تناقضات جذريَّة بين ما يقول الأمريكيُّون للعالَم وما يعتبرون أنفسهم حارسين له، وما يفعل الأمريكيُّون على أرض الواقع والذي هو مخالف تمامًا للادعاء. ولعلَّ هذا يذكِّرنا بكلمات الباحث الفلسفيّ الكبير “د/ فؤاد زكريا” في كتابه “العرب والنموذج الأمريكيّ”: “ولستُ في حاجة إلى أنْ أذكِّر القارئ ببشاعة الأساليب التي كان يلجأ إليها تجَّار الرقيق لجلب آدميين مُسالمين من مواطنهم الأصليَّة في أفريقيا لكي يعاملوا مُعاملة أسوأ من مُعاملة الحيوانات في البلد الجديد. في نفس الوقت الذي كان فيه هذا البلد يُقدِّم إلى العالَم “وثيقة حقوق الإنسان” .. الأبيض بالطبع”.