افتتاح مهرجان كان: كوميديا تخلو من المتعة والعمق
أمير العمري- كان
شاهدت فيلم الافتتاح في قاعة “بازان”، لا في القاعة الرئيسية للصحفيين، حتى لا أضطر للجلوس لمدة ساعة على الأقل، لمشاهدة وصول النجوم إلى قصر المهرجان، على شاشة كبير للعرض قبل أن يبدأ عرض الفيلم، وهو ما أجده أمرا مرهقا، فهدفي هو مشاهدة كيف سيكون الفيلم الفرنسي الذي اختاره المهرجان هذا العام لافتتاح دورته السابعة والسبعين.
كانت هناك مجموعة صغيرة من الحاضرين من الصحفيين، يجلسون في أقصى اليسار، مجموعة لا تتجاوز 20 في المائة من مجموع الحضور، وكانوا يضحكون كثيرا على أشياء في الحوار لا يعتقد باقي الحاضرين أنها مضحكة، فلم يكن أحد في باقي أرداء القاعة يضحك بل كان الوجوم مخيم على الغالبية. وكنت شخصيا أتساءل عما يضحكهم، وكان استنتاجي أنهم من الفرنسيين، ولابد أن يكون الحوار بالفرنسية له مغزى ما عندهم، وهو ما لم يصل للآخرين، لكن الملاحظة الأكثر قوة هي أنهم كانوا يضحكون أيضا على أشياء تتميز بالسخف والقبح اللفظي بل وعلى مواقف لا يجب أن تضحك أحدا، منها مثلا كيف يستجدي شاب عشيقه الذي يقيم معه (الذي سنعرف بعد قليل أنه شخصية رئيسية في الفيلم) لكي يسمح له بالحصول على كلب بينما يصر صاحبنا على الرفض، ويتكرر الحوار مرارا وتكرارا من دون أن يتسم بالطرافة!
إننا أمام عمل كوميدي من نوع الميتا- سينما (الفيلم داخل الفيلم)، للمخرج الفرنسي العابث الجامح كوينتين دوبيو (شاهدنا له العام الماضي في كان فيلما طريفا عن سلفادور دالي وكتبت عنه على هذا الموقع). والفيلم الجديد بعنوان “الفصل الثاني” حيث لا يوجد فصل أول ولا ثاني، بل هو اسم مطعم في الطريق إليه أبطال الفيلم الأربعة: أولا الثنائي الشاب “ديفيد” (لوي غاريل)، و”ويللي” (رافاييل كينار). وفي مشهد طويل يمتليء بالحوار، يقول ديفيد لصديقه إنه سيقابل حبيبته “فلورانس” (ليا سيدوكس) التي يصفها بأنها خارقة الجمال والجاذبية والأنوثة إلا أنه رغم ذلك لا يحبها بل يشعر بالقرف والتقزز منها، ولا يمكنه بالتالي مطارحتها الغرام، والخدمة التي يطلبها من صديقه الآن، هي أن يتولى هو أمرها، أي يجذبها إليه.
ويللي يتساءل ما إذا كانت فلورنس متحولة جنسيا ويصف المتحولات جنسيا وصفا يغضب ديفيد، ثم يغضبه تعليق آخر عن المثليين، ولكن ويللي لا يجد غضاضة فيما يقوله بحجة أن ميل غيبسون سبق أن أثار ضجة في هوليوود عندما هاجم اليهود (هذا التعليق أثار ضحكا صاخبا من جانب جماعة يسار القاعة!).
المشهد طويل ومليء بالثرثرة ولكن هذا هو طابع الفيلم كله، كما في المشهد التالي الذي يدور بين “فلورنس” ووالدها “غليوم” (فنسنت لندون)، فهي تريد أن تقدمه لحبيبها “ديفيد” دون أن تعرف أنه يريد التخلص منها، والرجل يوافق لكنه أيضا لديه أسبابه للتحفظ. وسيردد هو الآخر فيما بعد، عبارات مسيئة للمثليين، إلى أن نكتشف أنه مثلي الجنس. لكن هذا كله يأتي في سياق الخلط بين الحقيقة والخيال، بين واقع هذه الشخصيات وحقيقة أنها تشترك بالتمثيل في فيلم هو أول فيلم يكتبه ويخرجه شخصية من الشخصيات المبتكرة بواسطة الذكاء الاصطناعي. وما يريد أن يوصله إلينا دوبيو هو أن حقيقة الممثلين داخل التمثيل تختلف كلية عن حقيقتهم في الواقع. فهل هي إدانة للممثلين أم لصناعة السينما أم للواقع نفسه؟
المشكلة أن الفارق بين الحقيقة والفيلم من داخل الفيلم لا يمكن ملاحظته، فالشخصيات تدخل وتخرج في أي وقت، ثم تدخل مجددا، من دون أن نعرف كيف نفرق بين هذا الجانب وذاك، وهو أسلوب مقصود بالطبع، فالفيلم العاطفي الكوميدي الساذج الذي يشتركون بالتمثيل فيه، هو تعليق من جانب دوبيو على تدهور السينما الفرنسية، وغليوم الذي يلعب دور والد فلورنس، يعترض على أسلوب الإخراج، ويحاول مناقشة مخرج الذكاء الاصطناعي الذي يظهر لهم بين حين وآخر عبر شاشة كومبيوتر محمول يحمله شاب من العاملين في الفيلم ويأتيهم به في موقع التصوير، لكن المخرج الافتراضي يرفض ويكرر أن رأي غليوم غير مقبول. وحتى عندما تمتدح فلورنس الفيلم يكرر نفس الرد.
وفلورنس هي الوحيدة التي ترى مستقبلا لهذا النوع من السينما في حين يتطلع غليوم للعمل في السينما الأمريكية، ويتيه فخرا وسعادة عندما يأتيه اتصال مفاده أن المخرج الأمريكي بول توماس أندرسون يطلبه للعمل في فيلمه، وهو ما يثير غضب ديفيد الذي يتظاهر برفض السينما الأمريكية، ثم يذهب ويتآمر للحصول على الدور لنفسه!
وبينما يتمرد الممثلون على أدوارهم ويعبرون عن هذا التمرد طوال الوقت وهم يخرجون عن السياق التمثيلي، يشتبكون ويتشاجرون معا بعنف (غليوم مثل يضرب رأس ويللي في المائدة فينزف بغزارة وهو ما يجده البعض مثيرا للضحك!!)، تشعر فلورنس بأهمية التمثيل رغم أن والدتها تعتبرها ممثلة فاشلة (الأم طبيبة جراحة تخاطبها عبر سكايب من غرفة العمليات، وتصفها بالممثلة الفاشلة، ثم تخاطبها ابنتها عبر سكايب أيضا وتتحدث إليها كما لو كانت روبوت من دون أي مشاعر!) وربما يكون هذا تعليقا آخر على ما فعلته التكنولوجيا الجديدة بالعلاقات الإنسانية!
فلورنس تصف الممثلين بأنهم يشبهون عازفي الموسيقى في فيلم “تايتانيك” الذين ظلوا يواصلون العزف بينما كانت السفينة تغرق، وهو ما يرفضه غليوم ويسخر منه باعتباره من خيالات فيلم جيمس كاميرون.
هناك نقاط كثيرة غامضة في الفيلم مثل موقف دوبيو نفسه من التغيير الذي طرأ على صناعة السينما مع ظهور حركة Me too (أنا أيضا) النسائية، التي أصبحت تمثل سيفا على جميع الرجال العاملين في الصناعة، ففي أحد المشاهد يحاول ويللي تقبيل فلورنس، إلا أنها تصده بقوة وتهدده بفضح أمره للصحافة وأنه قد يفقد عمله في السينما، فيكون تعليقه: “وهل أنا اغتصبتك مثلا”؟ وهناك التعليقات الخاصة بالمثليين والمتحولين جنسيا التي لا نعرف أيضا هل هي تعبر عن موقف دوبيو أم انه يستهجنها.
سنعرف أن غليوم الذي كان يرفض المثلية ويستنكرها هو نفسه مثلي الجنس وعلى علاقة بشاب ترك من أجله العيش في منزل كبير في الريف الفرنسي وارتضى العيش معه في شقته الضيقة في باريس، وهو يريده الآن أن يضحي من طرفه ويقبل أن يأتي بكلب للعيش معهما وهو ما يرفضه غليوم بشدة!
وهناك شخصية الممثل الثانوي “ستيفان” الذي يلعب دور الساقي في مطعم “الفصل الثاني” ولكنه يرتبك ويشعر بالاضطراب الشديد فلا يستطيع أن يصب الخمر في كؤوس الأربعة الحاضرين فيسخرون منه كما أنه ينال عقابا من المخرج الافتراضي الذي يحرمه من جانب من أجره بسبب إفراطه في البدانة، وعندما يتكرر فشله في صب الخمر، يطلق الرصاص على رأسه في سيارته، لكننا سنكتشف أنه أيضا مشهد من الفيلم، وهو ما يتناقض تماما مع ما يصفونه به من أنه ممثل ثانوي التحق بالعمل في الفيلم (من داخل الفيلم للمرة الأولى!!) كما أنه سيعود في النهاية لكي يطلق الرصاص وينتحر فعلا وهو ما يوحي بأنه كان عاجزا بالفعل عن صب الخمر وأن شعوره بالإحباط والفشل دفعه لهذا المصير المأساوي (وكلها مجرد افتراضات بالطبع).
عموما، لا أحد يعرف، ولا أظن أن من المهم أن نعرف. فالفيلم بأكمله، يعاني من الاستطرادات، والحوارات الطويلة المرهقة التي لا تتميز بالطرافة بل بالغلظة أحيانا، مع المبالغة الشديدة في الأداء المسرحي الطابع، من جانب الممثلين الأربعة الكبار الذين يبدون غريبين وسط هذا العمل المرتبك، ولكن وجودهم كان ضروريا بهدف التسويق والترويج للفيلم.
افتتاح مخيب للآمال دون شك، لمهرجان كبير، ولكن المهم أن النجوم الأربعة كانوا حاضرين، والتصفيق المجامل الاحتفالي المجامل كان لابد أن يحظى به فريق الفيلم مع مخرجه، فنحن في فرنسا، وهذا ما يمكن للسينما الفرنسية أن تقدمه في الوقت الراهن، لكن لننتظر ونرى ماذا سيكشف عنه لنا المهرجان في هذه الدورة المليئة بالأسماء البارزة في عالم الإخراج.