ابراهيم شدّاد: عرّاب السينما السودانية

حسن أبومازن
لم أكن أكثر حظًا من أبناء جيلي من محبي السينما ممن عانوا من ندرة المعلومات المتاحة عن السينما السودانية حتى في عصر المعلوماتية، فلم يصلنا من الكتابات عن صناعة السينما في السودان إلا القليل، فبداية معرفتي بـ “إبراهيم شداد” كانت عن طريق بعد السطور القليلة المكتوبة عنه في كتاب “السينما في الوطن العربي” للكاتب السوري “جان ألكسان”، والذي تحدث في عجالة عن بعض المخرجين السودانيين وكان منهم بالطبع “شداد” أو “شنات” كما سطره المؤلف سهواً في كتابه, وتوثقت معرفتي به بعد مشاهدة الفيلم الرائع “الحديث عن الأشجار” للمخرج صهيب قسم الباري والذي كان إبراهيم شداد أحد أبطاله بجانب منار الحلو وسليمان إبراهيم والطيب مهدي، وهو الفيلم الذي لفت الانتباه بشدة للسينما السودانية والتي لم نكن نعرف عنها إلا القليل.
تاريخ السينما السودانية
يعود تاريخ السينما في السودان لبدايات القرن العشرين؛ حيث أقيم أول عرض سينمائي عام 1924 بمناسبة زيارة الملك جورج الخامس ملك بريطانيا العظمى لافتتاح خط سكك حديدية هناك، وأقيمت أول دار عرض سينمائي بـ “عطبرة” تحت اسم “النجم الأحمر” عام 1934، أتبعها تأسيس أول دار عرض بالخرطوم عام 1935 وهي سينما “كوليزيوم” الشهيرة، أما عن الإنتاج السينمائي فقد تم إنشاء أول وحدة لإنتاج الأفلام بالسودان سنة 1949 عرفت باسم مكتب الاتصالات العام للتصوير السينمائي وكانت تتبع سلطات الاحتلال البريطاني واقتصر دورها على إنتاج الأفلام الدعائية وجريدة سينمائية نصف شهرية.
بعد استقلال السودان عام 1956 اهتمت الحكومة السودانية بالسينما باعتبارها أداة لنشر الوعي بين الجماهير، حيث تم إنتاج مجموعة من الأفلام الوثائقية نذكر منها “الطفولة المشردة” لـ كمال محمد إبراهيم، و”المنكوب” لـ جاد الله جبارة، كذلك تم إنشاء مؤسسة الدولة للسينما والتابعة لوزارة الإعلام عام 1970، كذلك اهتمت الحكومة بإرسال مبتعثيها لدراسة فنون السينما بالخارج، فعلى سبيل المثال درس المخرج سليمان النور في معهد السينما بموسكو، ودرس كل من منار الحلو ومهدي الطيب التصوير السينمائي في رومانيا، أما عن المخرج إبراهيم شداد فقد درس السينما في الكلية الألمانية لفنون السينما والتليفزيون في ألمانيا الشرقية وأنجز هناك فيلمه القصير الأول “حفلة صيد” في عام 1964.
نظرة على مسيرة شداد الفنية

برغم البداية المبشرة لـ إبراهيم شداد، فقد تأثرت ميسرته الفنية مثله مثل العديد من أبناء جيله من الفنانين السودانيين نظراً لما عاصرته البلاد من حقب غير مستقرة سياسياً، فقد شهدت تلك الفترة من تاريخ السودان العديد من الانقلابات العسكرية وغياب المناخ المناسب لإنتاج عمل فني خصوصاً وأن أفلام إبراهيم شداد المعروفة لنا كلها بلا استثناء تتماس مع المحظورات السياسية أو الدينية سواء بشكل صريح أو بشكل رمزي.
فيلمه القصير الأول “حفلة صيد” والذي كان مشروعه تخرجه من الأكاديمية في ألمانيا الشرقية، تناول موضوع العنصرية ضد السود ذلك الموضوع الذي كان سبب أرق دائم لكل العالم في وقته وحتى في الزمن الحالي، مطاردة لفتى أسود خلال غابات ألمانيا ومصادقته لشخص أبيض في طريق هروبه، وتلك العلاقة الإنسانية التي نمت بين الإثنين على نقيض ما يؤمن به المجتمع الذي ينتمي له “جلين” –الرجل الأبيض- في تلك الحقبة الزمنية والذي يضعه في معضلة أخلاقية، هل يدع الفتى يهرب أم يشارك مجتمعه الصغير في حفلتهم لاصطياد الفتى الهارب.
لم ينجز شداد فيلمه التالي إلا بعد سنوات طويلة، تحديداً في عام 1981 ظهر فيلمه الروائي القصير التالي “جمل” والذي يرصد حياة جمل يعمل في عصارة قديمة لاستخراج زيت السمسم، يدمج شداد من خلال عدسته ما بين حياة الجمل في كدحه اليومي وبين وجوهٍ آدمية، فنراه يصور الجمل مرتدياً نظارة.. غطاء رأس وغيره لإطفاء لمسة سيريالية تربط بين كدح جمل العصارة والإنسان السوداني البسيط وفي الخلفية يأن صوت صرير الأخشاب القديمة للعصارة، تشابه فيلمه الثاني مع الأول في اعتماد شداد على شريط الأبيض والأسود لكلا الفيلمين.

قدم “إبراهيم شداد” فيلمه الثالث “الحبل” في عام 1984 وهو يحكي بشكل غير مباشر عن الحملة التركية التأدبية للقرى السودانية عام 1822 وما تلاها من مجازر في حق السودانيين، يصور الفيلم رحلة رجلين مكفوفين مع حمار مربوط بحبل في عمق الصحراء هرباً من المذابح القريبة منهما والتي يرصدانها من خلال الأصوات المحيطة بهما, وحيدان في قلب الصحراء تارة يقودهما الحمار وتارة أخرى يوجهانه وسط صمت الصحراء وأصوات الطيور الجارحة، لينتهي بهما المطاف عائدين من حيث أتوا من مخبأهم بكهفٍ جبلي لكي يتخفوا عن عيون جنود الحملة، وقد استطاع شداد بحرفية أن ينقل من خلال الصوت والصورة حالة الترصد والتوتر المصاحبة للشخصين طوال أحداث الفيلم القصيرة.

في عام 1994 قدم شداد فيلمه القصير الرابع “انسان” والمأخوذ عن قصة بعنوان المياه السوداء للكاتب “أحمد قباني”، وفيه دمج شداد ما بين حدثين مهمين في تاريخ السودان المعاصر؛ الجفاف الذي ضرب مناطق غرب السودان وتطبيق الشريعة الإسلامية في الحكم على يد الرئيس الأسبق “جعفر النميري” في بداية ثمانينيات القرن العشرين، يصور الفيلم معاناة انسان سوداني هرباً من الجفاف بصحبة زوجته وقطيع ماشيته نحو أم درمان، وفي الطريق تموت زوجته وتهلك ماشيته عدا بقرة واحدة تصادرها البلدية منه بعد ذلك، وحين يفكر في استعادتها يحاكم بتهمة السرقة وتقطع يده، وكعادة إبراهيم شداد في أغلب أفلامه لا يرتكز الفيلم على حوار مكتوب وإنما يعتمد على الصورة مطرزة بموسيقى شعبية تصدح في الخلفية، ويختم فيلمه بصرخة ذلك المواطن الذي يرفع يده المقطوعة لأعلى.
تلك كانت نظرة موجزة وسريعة على مسيرة مخرج مهم في تاريخ السينما السودانية التي تحمل تاريخاً ليس بالهين وتخطو بوتيرة متسارعة في الفترات الأخيرة نحو مستقبل مبشر.
المصادر:
– جان ألكسان، “تاريخ السينما في الوطن العربي”، سلسلة “عالم المعرفة”.
– د/ منى سعيد الحديدي، “أسس الفيلم التسجيلي”، دار الفكر العربي.