“إيدا”: شخصيات على حافة الكبت القاسي والعدمية البائسة
التناقض الجمالي
في فيلم “أيدا”، للمخرج بافل باولكوفسكي نجد التشويش والتشوية الجمالي للصورة، يخلق عالماً بصريا جماليا أكثر جاذبية وإدهاشا للمشاهد، كيف لهذا التناقض أن يحدث؟ نجده يوجد بكل سهولة ويسر، وذلك عندما يتم كسر عرف التصوير السينمائي، لامبالاة واضحة في صنع الكادرات التقليدية، التناقض الجمالي يثبت نفسه، فاللقطات والكادرات مشوشة للغاية، حيث مساحات الوجوه والجسد غير متوازنة، واجزاء من الوجه غير موجودة في أحيان ليست قليلة.
رغم أن هذا القبح المتعمد يجعل المشاهد يشعر بالنفور وأن هناك شيئا غير صحيح، إلا أن الذائقة الجمالية للمتفرج تجعله يعتاد علي ذلك، وبشكل لاواعٍ يشعر بانبهار جمالي كبير، وذلك لأن هذا القبح له دلالات ومعاني مقصودة وكثير من عالم الرموز المبررة، فمساحات الفراغ في الكادرات وصغر حجم الوجوه والجسد تعني هامشية شخصيات الفيلم بشكل خاص، وهامشية الإنسان بشكل عام، أمام العالم المعاصر، وأمام صراعاته، ومنها صراع النازية مع اليهود احد محاور الفيلم، أو هناك مقاصد رمزية حول صراع قيمي، بين الحقد والكراهية، والتسامح والتعايش، فإيدا بطلة الفيلم وخالتها، تبدوان متسامحتين أمام كراهية النازية ضدهما.
دراما عنيفة
في هذا الفيلم، نجد تناقضا آخر، يتعلق بشخصيتين أنثويتين، الأولي بطلة الفيلم شخصية هادئة والأخري مشوشة، الهادئة هي راهبة مؤمنة دينيا، والأخرى ملحدة ضاربة بكل شئ عرض الحائط، وهي أيضا تشعر باللاجدوي. وهذا ما يتضح خلال سرد الفيلم، وايضا هناك حالة من السيطرة من جانب الخالة المشوشة علي شخصية إيدا بطلة الفيلم، فتأثيرها جعل الأخيرة تفعل مثلها، وتنتفح علي الحياة بعد حياة منغلقة، وتمارس حياة جنسية بكل حرية، وتشرب النبيذ، وترقص وتسمع الموسيقي مع رجال آخرين، هذا التحول المفاجئ، يعبر عن سيطرة في لاوعي إيدا جعلها تفعل ذلك.
اختيار العنصر الأنثوي له مقصد ورمز وذلك فيما يتعلق بهامشية شخصيات الفيلم أمام العالم، والذي قصده المخرج العظيم باولكوفسكي، في الكادرات غير المتوازنة وبعض السرد الحكائي للفيلم، فالأنثي خير معبر عن هذه الهامشية، فالمرأة دائما تعاني وتبحث عن حقوقها، وهذا مقصد درامي رائع عنيف وحاد، عدمية انثوية تكشر عن مكنونها الضعيف أمام ديناصورات الوجود الخاطفة للسلام والخير.
كبت قاسي ضد النازية
هذه الأنثوية الدرامية، رغم ضعفها أمام العالم، وعدميتها الواضحة، الا أنها تعبر عن قيم التسامح والتعايش حيث لم تظهر ملامح للانتقام والكراهية، ولكن ذلك يصاحبه كبت نفسي داخل الشخصيات، ويجعلها في حالة هوس وجودي ذاتي، لا ينعكس علي الخارج، ولكنه داخلي قاس. تنتحر الخالة في الفيلم بعد حياة فوضوية لا معني لها، فهي لم تستطع ان تتعايش داخليا مع ما حدث لابنها وشقيقها من اعدام علي يد متطرفين، فتذهب للموت باختيارها، حتي ترتاح من هذا القلق الوجودي والهوس النفسي القاسي.
إن حياتها فوضوية في كل شئ، فوضوية الجنس والاهتمامات الشخصية والمعيشية وطريقة الحديث، وميلها للوحدة، فهي معبر آخر عن الكبت تجاه النازية، هذه النازية التي ترسم ملامح الفيلم من الباطن، فهي ليست ظاهرة كعدو مباشر للضحايا، وايضا رد الفعل تجاهها مكبوت وغير ظاهر، هذا التعبير الشعري الباطني الرائع من المخرج، يؤكد قدرته علي استخدام المجاز السينمائي في المعني، وهو مجاز باطني طويل يحكم سردية الفيلم.
روح العدمية
رغم تناقض الشخصيتين في الفيلم ما بين متدينة وغير مؤمنة، فإن منحي وروح العدمية تربطهما، فالهادئة هي راهبة، صامتة، تعيش الحياة الدينية بدون اختيار منها، فهي دخلت حياة الرهبنة هربا وانقاذا من بطش النازية، وهي تعيش عالما داخليا لا تفهمه جيدا، تنفذ اوامر دينية بشكل اجباري، وعندما تخرج من الدير للبحث عن قرية اهلها وجثثهم، لا تندهش من تناقض عالمين تعيش فيهما، فمعني الاختلاف وملامحه ليس موجودا لديها، وهذا يعني أن طعم الحياة ورونقها لديها مختفى ايضا قبل ان تواجه اي شئ في هذا العالم الخارجي.
وخلال رحلتها في العالم خارج الدير، تتحول بشكل مفاجئ الي حياة فوضوية بكل حرية في كل شئ، كما ذكرنا، ثم تتحول مرة اخري الي حياة الرهبنة، هذا التحول السريع ونقيضه يتم بشكل بارد ومجازي للغاية، ويدل علي عدمية الفعل وعكسه في نفس الوقت، وبذلك يفتح المخرج باب التأويلات عبر هذا المجاز السردي والبصري لتحولات البطلة، ما هي الدوافع، لماذا لم تشعر بالسعادة عندما تحولت الي حياة الحرية، وأسئلة اخري تبحث عن اجابات.