“إخناتون”.. حلم شادي عبد السلام الذي لم يتحقق
أي عظمة وأي شموخ وأية تراجيديا لعبقري مصري“
أفلتناه من أيدينا، نحن أنفسنا الذين نحمل وزر دمه المسفوح على كواهلنا جميعا “
الناقد سامي السلاموني متحدثا عن شادي عبد السلام
أظهرت إحصائية سينمائية فرنسية أن سيناريو واحد من أصل أربعة، يصل إلى مرحلة التنفيذ، فيما ينتهي الباقي إلى سلة المهملات، لذلك لن نغالي إذا اعتبرنا أن مشاريع الأفلام التي لم تر النور في تاريخ السينما العالمية أكثر من تلك التي أنجزت فعليا.
وعلى خلاف ما قد يعتقد البعض من أن هذه الظاهرة، إنما طالت صغار المخرجين والمبتدئين منهم، يعجب الباحث حين يكتشف بأنها مست أيضا كبار مبدعي الفن السابع أمثال شارلي شابلن وسيرجي إيزنشتاين وأورسون ويلز وستانلي كوبريك وأليخاندرو خودروفسكي، وغيرهم .
في صناعة يحكمها الشك والمخاطر، يعود فشل مشاريع الأفلام في الأغلب الأعم إلى أسباب مادية صرف، ترجع إلى التمويل، ذلك أن الرأسمال السينمائي مثل غيره، جبان، وغالبا ما يقيس هامش مخاطرته بالمردودية المتوقعة من وراء كل مشروع يدخله، لكن الفشل الذي طال جانبا لا بأس به من مشاريع الأفلام يعود أيضا إلى التناطح بين المنتجين والمخرجين بسبب تمسك الأخيرين بالاستقلالية التامة والرغبة في تحقيق الرؤية الفنية دون تقييد.
عانت السينما العربية من جانبها من معضلة المشاريع السينمائية غير المكتملة، لكن من كل المشاريع التي لم تر النور لم يسل مشروع فيلم المداد مثلما أساله مشروع فيلم ” مأساة البيت الكبير” لشادي عبد السلام عن قصة فرعون الأسرة الثامنة عشرة المثير للجدل ” اخناتون”.
لن نٌسم بالمبالغة إذا أدرجنا المشروع ضمن المشاريع الأكثر إثارة للجدل في تاريخ الفن السينمائي في العالم كله. لكن ما الذي يشفع للكاتب في الكتابة عن مشروع لم ير النور؟
لا شك أن التأريخ للسينما، لا يتوقف عند المنجز، فما لم ينجز، قد يكون درسا للباحثين ولصناع السينما لتلمس معضلات الإنتاج ومعوقات الإبداع في المجال، على أن حالة مشروع فيلم “اخناتون” تظل فريدة، فقد طال أمد إعداده، ورفع مخرجه السقف، وانبرت مجموعة من المثقفين والنقاد لإصباغ هالة من المظلومية على المشروع وعلى مخرجه.
يقول المثل الانجليزي السائر “لا يجدي البكاء على اللبن المسكوب”، غير أنه وإلى اليوم لايزال كثيرون يعضون أصابعهم على تحفة ضاعت من السينما المصرية، وهم في ذلك إنما يبنون توقعاتهم على حصيلة فيلم “المومياء”، متغافلين عن حقيقة تكاد تكون قاعدة؛ وهي أن كثيرا من كبار السينمائيين العالميين، أعقبوا تحفهم السينمائية بأفلام عادية، وارتقاء فيلم “اخناتون” إلى مستوى ” المومياء” أو حتى تجاوزه، يظل مجرد احتمال قد يتحقق وقد لا يتحقق. لقد وصلت الانتظارات من المشروع حدا من الحماس جعل ناقدا من قامة الراحل سمير فريد يكتب بأسلوب لا يخلو من مبالغة ” كان من الممكن أن يكون أحد روائع السينما في كل البلاد وكل العصور “!
من “المومياء ” إلى “اخناتون”
يعد فيلم “المومياء” الفيلم الطويل الوحيد في مسيرة مخرجه، وهو من الحالات القليلة في تاريخ السينما العالمية التي أصبغ فيه العمل الوحيد هالة أسطورية على صانعه؛ نال فيلم “المومياء” 16 جائزة عالمية، وحظي باستقبال نقدي منقطع النظير، وظل إلى اليوم على رأس أفضل ما أنتجته السينما المصرية في تاريخها الطويل.
كان بإمكان هذا العمل أن لا يرى النور، لولا أنه كان فيلم المفارقات بامتياز، فقد حظي مشروعا برعاية عرابين كبيرين هما؛ الكبير روبرتو روسيليني رائد الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية، وثروت عكاشة الذي يقدم إلى اليوم كأفضل وزير ثقافة في تاريخ مصر الحديث؛ وبسبب رعاية الأخير، كان الفيلم من إنتاج وزارة الثقافة، استفاد من سخاء في التمويل في زمن التقشف المطبوع بإكراهات حرب الاستنزاف وتوقف عجلة الإنتاج السينمائي، قُدر له أيضا أن يُجاز إنتاجه رغم إعلائه من الهوية الفرعونية في زمن لا صوت يعلو فيه على صوت القومية العربية بالبصمة الناصرية.
عندما فرغ شادي عبد السلام من فيلم ” المومياء”، تولدت لديه رغبة في صنع فيلم يدور في قلب الحضارة الفرعونية لا على هامشها كما في فيلم ” المومياء” الذي دارت أحداثه حول ظاهرة بيع الآثار الفرعونية عبر قصة خبيئة الأقصر الشهيرة التي تفجرت أحداثها في أواخر القرن التاسع عشر.
لو كان مخرج آخر مكان شادي عبد السلام لاختار سيناريو يكون محوره أحد الفراعنة العظام من أمثال الغازي تحتمس الثالث، أو الباني أمنحتب الثالث أو العظيم رمسيس الثاني، لكن شادي عبد السلام أعرض عن كل هؤلاء وعن غيرهم، واختار فرعونا مثيرا للجدل، لم يترك منشآت عمرانية عملاقة، ولم يفتح مدننا أو أقاليم، ولم تكن صولات وجولات مع أعداء مصر على غرار الفراعنة الكبار، وإنما بصم تاريخ الفكر في بلاده.
كان اخناتون (روح أتون) فيلسوفا ومفكرا بمنقبتين كبيرتين؛ فقد كان أول من دعا لديانة التوحيد، وأول حاكم في التاريخ يتمرد على المنظومة القائمة في بلاده، ففي شجاعة نادرة اهتدى اخناتون إلى استبدال عبادة إله المصريين الأزلي “أمون رع ” بإله توحدت فيه سائر الآلهة، كان “أتون” هو القوة الخارقة الكامنة وراء قرص الشمس؛ الإشعاع الذي يشرق كل صباح، ليمنح مع النيل الحياة لمصر.
أقدم اخناتون على مغامرة ثالثة، فقد هجر طيبة مركز الحضارة ومهد الأجداد إلى تل العمارنة ليقيم عاصمة ملكه “أخيتاتون“(أفق أتون) وسط الصحراء، وكأنما أراد من تشييد مدينة من الصفر، أن يخص معبوده بمكان لم يسبق أن عُبد فيه إله غيره.
من المظاهر التي جعلت هذا الفرعون سابقا لعصره، تجريده للفنون الجميلة من المسحة الكلاسيكية التي تتوخى تجسيد الكمال، لتقترب من الواقع، بدا ذلك من التماثيل التي جسدت الجماجم الآدمية بتشوهاتها الخلقية، حاول أيضا أن يقترب من الشعب بتبنيه هيروغليفية تقترب من لغة الفلاحين وتبتعد عن ارستقراطية لغة الكهنة، نأى بنفسه أيضا عن الحروب بشكل جعله داعية سلام عالمي في عهده.
غير أن حكمه تميز بسلبيات منها تمزيق الإمبراطورية المصرية في الخارج، وانقسام الجبهة الداخلية نتيجة الصراع الديني، وفساد معاونيه الذي جعل مناط اختيارهم هو الولاء وليست الكفاءة.
عندما مات “اختاتون”، ارتد خلفه عن ديانة أتون تحث ضغط كهنة أمون، وغير اسمه من توت عنخ أتون إلى توت عنخ أمون، وعاد إلى طيبة هاجرا عاصمة أبيه ” أخيتاتون” التي هدم كهنة أمون آثارها وطمسوا كل ما يذكر فيها وفي طيبة باخناتون.
لم تتوقف الحملة ضد “اخناتون” عند هذا الحد، فقد انخرط كهنة أمون في تشويه ذكراه لدرجة اختلاق شائعة مغرضة وصلت إلى رميه بالشذوذ الجنسي، ثم أزيل اسمه من كافة المنشآت والمعابد، حتى إن اسمه اقتص من تابوته الذي يرقد اليوم بسلام في المتحف المصري بالقاهرة.
إن ما تقدم، هو كل ما ثبت تاريخيا حتى كتابة هذه السطور من علم المصريات ومن الاكتشافات العلمية الأخيرة ، لكن إلى مدى كان مشروع شادي عبد السلام وافيا لتاريخ اخناتون ؟
اخناتون شادي عبد السلام
اشتهر مشروع شادي عبد السلام وشاع باسم “إخناتون”، غير أن سيناريو الفيلم ظل يحمل في كافة نسخه المنقحة عنوانا بمدلول تراجيدي بَيِّن “مأساة البيت الكبير”، من الوهلة يحيل العنوان على مأساة بيت الحكم الفرعوني مجسدا في أسرة أمنحتوب الثالث من الأسرة الثامنة عشرة على عهد ابنه “اخناتون”، إلا أن البيت الكبير سرعان ما يتجاوز أسرة حاكمة بعينها، ليمتد مدلول البيت الكبير إلى مصر بأسرها.
عادة يصعب تقييم أي مشروع لم ينجز، إلا أن ما يسمح بخوض هذه المغامرة في حالتنا، أن سيناريو الفيلم نُقح من طرف مؤلفه عشرات المرات ليستقر على نسخته النهائية التي اكتملت في سنة 1985 شهور قليلة قبل وفاة المؤلف، ومن حسنات محبيه أنهم عرفوا بالسيناريو، بل إن بعضهم قدم قراءات لهذا العمل؛ لعل أبرزها قراءة الناقد سمير فريد الموسومة بـ” قراءة في سيناريو مأساة البيت الكبير“ المنشورة بمجلة “القاهرة” عدد 159 لسنة 1996 صفحة 146 وما بعدها.
يعكس اختيار شادي عبد السلام “اخناتون” محورا لعمله، خلفيته الفكرية، فالرجل من دعاة العودة للفرعونية، وعُرف عنه بأنه قارئ نهم للتاريخ المصري القديم، وقد وقف بإطلاعه الواسع على خصوبة سيرة اخناتون وقابليتها لأن تتحول إلى فيلم سينمائي، فالفراعنة العظام على قيمتهم ليس في سيرهم ما يغري سينمائيا، إذ غالبا ما يكتب المؤرخون بأن الفرعون الفلاني وحد مصر العليا والسفلى، واهتم بتشييد المعابد والمنشآت ، ودانت له البلاد الأسيوية المتاخمة ، وكانت له صولات وجولات مع الأعداء المتربصين بمصر، وشهدت مصر تحث حكمه عهد رخاء ازدهرت فيه العلوم والفنون والعمارة، أما “اخناتون” ، فقد كان على النقيض من ذلك فرعونا تراجيديا عاش في عالمه الروحي الخاص تاركا الإمبراطورية المصرية تتهاوى أمام عينيه .
بالطبع حكمت المشروع دوافع موضوعية منها الرغبة في إحياء الحضارة الفرعونية من خلال عرض عصر من أبهى عصورها ، ألا وهو عهد الأسرة الثامنة عشرة التي يجمع المؤرخون بأن الحضارة المصرية بلغت أوجها في عهد هذه الأسرة الحاكمة.
على أن كاتب هذه السطور، لا يستبعد حضور عوامل ذاتية في اختيارات شادي عبد السلام، فالرجل إن كان من مواليد الإسكندرية، إلا أنه لم يكن يُفوت فرصة للتذكير والاعتزاز بأصوله العائدة إلى المنيا، فهل يشكل اختيار اخناتون محاولة للتذكير بماضي وأمجاد موطن جذوره يوم كانت المنيا ممثلة في تل العمارنة عاصمة لمصر وللعالم القديم؟
لعل من نافلة القول التذكير بأن السينمائي ليس بمؤرخ، وحين يختار الماضي، فلكي يسقطه على الحاضر أو بعبارة أخرى ليقرأ الحاضر بأدوات الماضي، هنا ثمة من ربط بين اختيار شادي عبد السلام سيرة فرعون قديم لتقاطعها مع فرعون العصر الحديث الذي عاصره حكمه لمصر ما بين 1954 و 1970، فهل أراد بفيلمه إقامة تماثل بين فشل مشروع اخناتون و فشل المشروع الناصري؟
لم يقرأ كاتب هذه السطور عن وجود ميول ناصرية عند شادي عبد السلام ، إلا أن في السيناريو إشارات تقارب بين أخطاء اخناتون وأخطاء جمال عبد الناصر في كثير من المواطن منها على سبيل التمثيل لا الحصر قول أحد الفلاحين لزوجته في السيناريو “ارفعي صوتك حتى تسمع الملكة، أخبريها أن هؤلاء الحراس الجدد يجمعون الضرائب لحسابهم، وأنهم لا يعرفون المحصول من القطيع من الإنسان”، أليس في هذا إيحاء ببعض انحرافات رجال ثورة يوليو؟
ومما يقوي هذا التأويل في اعتقادنا تغيير حقيقة تاريخية ثابتة في السيناريو، ففي التاريخ هنالك إجماع لدى المؤرخين بأن اخناتون ظل في الملك حتى مات شابا يافعا إما مقتولا أو متأثرا بوباء قد يكون اجتاح مصر، أما في سيناريو الفيلم، فإن اخناتون يظل حيا حين ينتقل الملك لمن يليه كأنما أراد المؤلف أن يشهد فشل مشروعه التحديثي، كما شهد عبد الناصر فشل مشروعه الثوري عندما رأى بأم عينيه نكسة 1967، وقد كان المصريون القدماء يسمون اخناتون بـ”مهزوم العمارنة”، فهل قصد شادي عبد السلام بفيلمه أن يُحاكم تجربة “مهزوم 5 يونيو”؟ .
في قراءته الجميلة لسيناريو “مأساة البيت الكبير”، ينتهي سمير فريد إلى إبراز الرسالة التي أراد شادي عبد السلام إيصالها عبر فيلمه “نهاية السيناريو بعودة عبادة أمون ليست موقفا من أمون ضد أتون، أو مع تعدد الألهة ضد التوحيد، وإنما مع ضرورة وجود القوة التي تحمي الحق، وضد التغيير الجذري السريع الذي يقطع مع الماضي، لأنه لا يتلاءم مع طبيعة الشعب المصري الميال للمحافظة التي تفضل الإصلاح البطيء…” المرجع السابق ص 156 .
عندما تقرأ أحداث سيناريو” مأساة البيت الكبير “اليوم بعد الاكتشافات الأخيرة في علم المصريات، تكتشف أن كثير من الحقائق التاريخية ليست كما أثبتها شادي عبد السلام، لكن حسُب الرجل أنه أراد أن يقدم التاريخ وفق نظرته الفنية الخاصة المستقاة من واقع قراءته للتاريخ المصري القديم مقاربة من منظور القضايا الكبرى التي تشغل مصر الحديثة.
عزيمة وحماس
بدأ اشتغال شادي عبد السلام على إعداد فيلمه فور الانتهاء من فيلم المومياء مباشرة، وفي بدايات العام 1971 كانت النسخة الأولية من السيناريو جاهزة، ومكن تعطل المشروع شادي من مراجعة السيناريو وتنقيحه عدة مرات، حتى إن التعديلات التي أدخلت على المسودة في الفترة مابين 1975 و 1985 لم تعد تحصى حسب تلامذته. ذكر الفنان محمد صبحي في أحد لقاءاته أن شادي عبد السلام أخبره أن توقيع مصر اتفاقية كامب ديفيد ستفرض عليه مراجعة السيناريو لأخذ هذا المستجد بعين الاعتبار في صيرورة الأحداث، مما يؤكد بالملموس الصفة التي أصبغناها على الفيلم من أنه قراءة للحاضر بعين الماضي.
حتى قبل إيجاد التمويل، بدأ شادي في أشغال الديكور والإكسسوارات مع فريقه التقني المصغر الذي ضم صلاح مرعي مكلفا بالديكور وتصميم الحلي والاكسسوارات، وأنسي أبو سيف مكلفا بتصميم الملابس، فيما تفرغ هو لإعداد مختلف الرسوم لصور التقطيع التقني من لوحات القصة واسكتشات وغيرها، ولشدة الحماس للعمل تم تنفيذ أجزاء عديدة من الديكور بكيفية فعلية.
بعدها جاءت عمليات الكاستينغ، وفي سعي لتحقيق الكمال الفني، ظل الهم الرئيسي للمخرج هو البحث عن وجوه تُطابق قسماتها وجوه الشخصيات التاريخية كما وصلتنا من التماثيل والرسوم على جدران المعابد والمقابر.
بعد حيرة في الوجه الذي سيجسد اخناتون، صافحت أعين شادي عبد السلام في إحدى المطبوعات صورة معيد في المعهد العالي الفنون المسرحية يؤدي دور هاملت في مسرحية ، فأصر على الانتقال رفقة لويس عوض ونادية لطفي لمعاينته عن قرب، بعد أن جلس إلى المعني بالأمر الذي لم يكن سوى الفنان محمد صبحي ظل برمقه طويلا قبل أن يبادره بالقول ” أنا مغرم بوجهك “.
كانت نادية لطفي المرشحة الأولى لدور نفرتيتي زوجة أخناتون الأولى والمفضلة، إلا أنه مع تعثر المشروع وتوالي السنوات، لم يعد عامل السن في مصلحتها، فأقنعها شادي عبد السلام بقبول دور رئيسي آخر هو دور الملكة القوية “تي” زوجة الفرعون أمنحوتب الثالث وأم اخناتون.
في نهاية السبعينات عثر شادي عبد السلام على الممثلة المثالية لدور نفرتيتي، كانت سوزان بدر الدين- تحول اسمها بعد ذلك إلى سوسن بدر- طالبة بمعهد الفنون المسرحية حين اكتشفها شادي عبد السلام، وهاله الشبه الكبير لقسمات وجهها مع التماثل النصفي لنفرتيتي المتواجد بمتحف برلين، تحكي الأسطورة أنه مازحها بدعابته المعهودة قائلا ” يخرب بيتك دي إنت هاربانة من معبد فرعوني قديم “.
لم يحتفظ شادي عبد السلام من فريق عمل “المومياء” بنادية لطفي فقط، فقد رشح بطل فيلم “المومياء” أحمد مرعي لدور رئيسي مهم هو دور “حور محب” قائد جيوش أخناتون.
سافر شادي رفقة أعضاء فريق عمله، لاختيار مواقع التصوير في المنيا والأقصر، ثم بدأت بعض البروفات بين نادية لطفي ومحمد صبحي الذي أجرى تجارب بالماكياج والملابس على الشخصية مقدما نموذجا لما كان سيظهر على الشاشة.
أما المخرج، فقد ظل يجيب عندما يُسئل عن الفيلم، بأنه يحفظ عمله عن ظهر قلب، وأن الفيلم مرسوم في ذهنه مشهدا مشهد ولقطة لقطة، وهو ينتظر فقط التمويل ليبدأ بالتنفيذ.
15 سنة من الانتظار القاتل
بلغت الميزانية التقديرية للفيلم سنة 1971 ما يناهز نصف مليون جنيه مصري، وكانت ميزانية فلكية بالمقارنة بما كان يكلفه أضخم إنتاج مصري حينها، وكما هي العادة في السينما، فكلما مر الوقت كلما تضاعفت الميزانية، مع توالي السنين، أصبح شادي عبد السلام يرى أمام أعينه ميزانية مشروعه تتزايد بنفس مقدار الميزانية التقديرية الأولية، لتستقر في العام 1975 على 2500000 (مليوني وخمسمائة ألف) جنيه مصري.
كان خطأ شادي عبد السلام، أن راهن على الدولة وقطاعها العام لإنتاج فيلمه، ولم يقرأ المشهد الجديد، فقد تغيرت الظروف السياسية، وحتمت سياسة الانفتاح على الدولة الانسحاب من الإنتاج السينمائي، كما تغير الأشخاص، فلم يكن يوسف السباعي وأنور السادات مثل ثروت عكاشة وجمال عبد الناصر.
لقد أضاع مخرجنا الكثير من الوقت في وهم التمويل العمومي، ونقل عن كثيرين ممن كانوا قريبين منه، ترديده بأن فيلم أخناتون لن يُنجز إلا بأموال مصرية، وأن العمل مشروع قومي لن يقبل أن يٌضمن جنريكه أسماء أجنبية.
رغم وجود تقليد نسبة الأعمال السينمائية لبلدان مخرجيها، إلا أن ولاء السينمائي الأخير هو للسينما، وعلى سبيل المقابلة، وخلال نفس الفترة التي كان فيها شادي عبد السلام يحاول جاهدا أن ينتج فيلمه، لم يكن يوسف شاهين لينجز مجمل أعماله لولا الإنتاج المشترك. لقد بات مسلما بأن أفلام الفن والتجريب المكلفة لا يمكن أن ترى النور إلا بطريق الإنتاج المشترك أو بالتمويل الأجنبي التام.
يختلط الحقيقي والأسطوري في تمويل مشروع فيلم “اخناتون”، فقد نُقل أن مستثمرين إسرائليين عرضوا تمويل المشروع، إلا أن المخرج رفض مناقشة العرض، ربما حتى لا يمنحهم ادعاء فضل إنجاز الفيلم كما ادعوا بناء الأهرام.
كتب أيضا بأن دولا عربية كثيرة لها توجهات قومية معروفة، عرضت تمويل الفيلم منها ليبيا و العراق وسوريا، وإذا كان رفض التمويل الاسرائيلي يبدو مبررا، فإن التساؤل يبقى مطروحا عن سبب تنحية المخرج عروض هذه الدول خاصة أمام تخاذل القطاع العام في مصر؟
يجيب من عايشوا الرجل، بأن كل هذه العروض كانت لها شروطها الخاصة التي لم يكن شادي ليقبل بها، كأن يستعين مثلا بعدد من الممثلين والفنيين من مواطني هذه الدول، ووصلت الملهاة ذروتها حين اشترط أحد هذه العروض الذي يٌرجح أن يكون ليبيا ، إبراز عروبة اخناتون، منتج مستقل من أمريكا الشمالية هذه المرة ربط تمويل الفيلم بإسناد دور اخناتون لعمر الشريف وكان حينها كهلا في الخمسين، وهو ما اعتبره شادي عبد السلام عبثا، لأن اخناتون نفسه مات وهو دون الخامسة والعشرين.
انبرت أصوات عاقلة كثيرة داخل مصر مطالبة الدولة بحمل المشروع، حكى المخرج الكبير صلاح أبو سيف للناقد محمد الدهان، حين استضافه هذا الأخير في برنامجه “الشاشة الكبرى” على التلفزيون المغربي أواخر الثمانينات من القرن الماضي ، بأنه أخبر كثير من المسؤولين عن القطاع في مصر، بأن فيلم المومياء إن كان مكلفا، إلا أن الدعاية التي عادت بسببه على مصر لا تقدر بثمن، وأن من واجب الدولة أن تدعم كل سنة مشروع أو مشروعين من هذه العينة…” .
حكى بعض أفراد عائلة الفقيد، بأن جهات ما داخل الدولة أخبرت في مرض المخرج الأخير بأن الدولة كانت قد قررت تمويل الفيلم، إلا أن مرض المخرج جعلها تتراجع، لأنه لا يمكنها أن تغامر بميزانية ضخمة والداء اللعين يمكن أن يعصف بالمخرج في أي حين، والظاهر أن هذه الالتفاتة المزعومة تبقى مجرد “عزومة مراكبية ” كما يقول المصريون، وحتى إذا صحت، فتبقى محاولة ترضية خاطر في الوقت الميت من مباراة المخرج الكبير مع الداء اللعين.
من الثابت أن شادي عبد السلام، أضاع وقتا طويلا في استجداء التمويل العمومي، ولو توجه إلى بحث فرص الإنتاج المشترك، لخرج بفيلمه مع بعض التنازلات التي لن تمس جوهر الرؤية الفنية، وبالفعل اقتنع في الأخير بهذا الطريق بعد يأس من التمويل داخل بلده سواء من القطاعين العام أو الخاص.
بعد معاناة وطول انتظار توصل بعرضين جديين قدما له دون شروط إحداهما من المؤسسة العامة للسينما بالجرائر والثاني من إحدى الجهات الإنتاجية الفرنسية، إلا أنه مع الآسف لم يمهله القدر لينجز حلم حياته، ليسلم الروح بالقاهرة يوم 8 أكتوبر 1986 متأثرا بمضاعفات سرطان البروستاتا.
بعد رحيل صاحب المشروع، تحدث كثيرون عن إمكانية تنفيذ سيناريو فيلم “اخناتون”، ورشح الهواة والنقاد أكثر من مخرج، وأجمع المتحمسون بأن من ستسند إليه هذه المهمة لا ينبغي له أن يتجاهل رفاق المشوار الذين ساروا مع المخرج درب هذا الفيلم الطويل وبالأخص صلاح مرعي وأنسي أبو سيف.
يمكن لأي كان أن يُنجز فيلم “اخناتون”، ولكن بسيناريو شادي عبد السلام فقط، أما أسلوبه وروحه ورؤيته الفنية فقد ذهبت معه إلى قبره، تماما كما لا يمكن لأي شخص أن يدعي قدرته على إنجاز فيلم لفيلليني أو برغمان أو كوروساوا أو غيرهم من العباقرة الكبار بالاعتماد على مسودة سيناريو قد يكون أحد هؤلاء قد تركها في درج مكتبه بعد مماته.