أوراق مهرجان القاهرة: “من القاهرة” و”أبو صدام”
يمكن القول بثقة أن الدورة الـ 43 من مهرجان القاهرة السينمائي (26 نوفمبر- 5 ديسمبر)، كانت دون شك، دورة أفلام “انتقام المرأة” من الرجل، فهناك عدد كبير من الأفلام، العربية والأجنبية، التي تركز على العلاقة المعقدة بين الرجل والمرأة، وكيف أن المرأة، التي تظهر من البداية كضحية للرجل، تنتفض وتستعيد قوتها ثم تتمكن أيضا من توجيه لطمة قوية للرجل، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
هذا الموضوع واضح تماما- على سبيل المثال- في فيلم “خلية النحل” Hive من كوسوفو للمخرجة بليرتا باشوللي: امرأة قتل زوجها في الصراع المسلح الذي نشب في الإقليم في أواخر التسعينيات، تعتقد هي أنه مفقود وتنتظر عودته، ولكن غيابه فرض عليها أن ترعى بمفردها، عائلتها الصغيرة، وتقوم ببعض الأعمال البسيطة: جمع العسل من المنحل و”تخليل” الفلفل الأحمر.. وغير ذلك. ولكنها تتعرض للتحرش من جانب الرجل، كما تتعرض لكثير من الإساءات المتكررة من جانب رجال القرية الذين يشيعون أنها عاهرة لرفضها مسايرتهم والخضوع لقوانينهم، فهي لا ترتدي الحجاب، ولا تجلس في البيت بل تعمل بمفردها، تشتري سيارة تقودها بنفسها وهو ما يجدونه غريبا على امرأة قروية، وتنتظر عودة زوجها المفقود الذي ستعرف في النهاية أنه قتل وأن عليها مواصلة الحياة من دون الرجل.
من القاهرة
الموضوع نفسه واضح بقوة أيضا في الفيلم التسجيلي المصري “من القاهرة” لهالة جلال. فهي تتوقف أمام سيدتين مصريتين، أصبحتا يعتمدان تماما على أنفسهما من دون الرجل بعد تجربتهما المريرة معه بالطبع، ومن البداية تتضامن وتتعاطف معهما المخرجة التي ترغب في توجيه رسالة قوية من خلال تلك الصورة المتحدية للمرأة المصرية، ضد التحرش وضد الثقافة الذكورية السائدة، طارحة نموذجين لامرأتين نجحتا في الصمود، وتحقيق الذات رغم قسوة المجتمع الذكوري. طبعا في الفيلم مشاكل كثيرة تتعلق بالاستطرادات والتكرار والإطالة والتعليق الصوتي المليء بالثرثرة والذي يخلو من الشاعرية، وكلها عوامل تخل بالإيقاع العام للفيلم وتجعله يفتقد التماسك الفني، الى جانب- بالطبع- غياب الهارموني أو التجانس أو حتى صلة الوصل بين الشخصيتين النسائيتين اللتين اختارتهما المخرجة لفيلمها.
هناك أيضا ارتباك في البناء وعدم انسجام في السياق السينمائي الذي بدا عشوائيا يسير من دون خطة محددة محكمة، وهذا ناتج عن الرغبة في حشو الفيلم بلقطات ومشاهد متنافرة والاستطراد في مشاهد أخرى كثيرة لا تضيف شيئا (مثلا: الأم وهي تردد على ابنتها كلمات باللغة الإنجليزية لكي تتعلمها.. الخ)، والانتقالات غير الموفقة بين شخصيتين لا يجمعهما شيء في الواقع!
ومع ذلك، يمكن اعتبار الفيلم فيلما عن المخرجة نفسها، عن محاولتها لفهم ذاتها- كما تقول هي في الفيلم- من خلال الاقتراب من هاتين الشخصيتين اللتين وجدت فيهما ما يشبهها. ولكن رغم كل ما ذكرته، إلا أن في الفيلم الكثير من المشاهد والأفكار الجميلة التي تتمتع بالتلقائية والبساطة، وبعض العلاقات البصرية الموحية بين الصور، ولمحات لا تخلو من الامتاع.
أبو صدام
لنذهب الآن إلى العمل الذي كان منتظرا من المخرجة نادين خان، التي لم تقدم فيلما جديدا منذ فيلمها الأول “هرج ومرج” قبل نحو عشر سنوات.
الفيلم الجديد “أبو صدام”، ولا علاقة له بالطبع بصدام حسين ولا بأبيه وأبنائه، ولكن للعنوان دون شك، دلالة في السياق، هي أننا أمام بطل آخر مأزوم، هو سائق شاحنة (أو ما يسمونه تريلا) ضخم الجثة، يطلقون عليه “أبو صدام” رغم أننا سنعرف أنه لم ينجب أطفالا، وبسبب انكساره الداخلي لهذا السبب وغيره، فهو فظ، غليظ، صدامي، عنيف، يقول عن نفسه إنه “ملك الطريق”، وهو بالتالي أقرب إلى “البلطجي”.
الواضح أن هذا البطل الوحيد في الفيلم (يقوم بدوره محمد ممدوح) غادر السجن مؤخرا بعد أن قضى فيه فترة، عقابا على جريمة لا يتطرق الفيلم الى تفاصيلها، وإن كان أبو صدام نفسه يقول للشاب الصغير الذي التحق به في اليوم الأول للعمل كـ”تباع” أي كمساعد له، أنه كان يعمل على ميكرباص (غالبا للتهرب من ذكر مسألة السجن).
والفيلم كله يدور في يوم وليلة، وهو من أفلام الطريق، أي أننا نقطع مع سائق الشاحنة ومساعده الصغير، رحلة طويلة في شمال البلاد، من الدلنجات إلى العلمين في الساحل الشمالي لمصر. وصاحبنا متوجه لحضور زفاف قريبة للعائلة وتوصيل أشياء لا نفهمها بالضبط، ربما مبلغ من المال موجود في حقيبة صغيرة، وقد ترك الرجل زوجته خلفه في البيت وحظر عليها الخروج ومنعها من الذهاب لزيارة قريبتها التي تتزوج، وظل طول الفيلم يتصل تليفونيا بزوجته فقط لكي يسبها بأقذع لألفاظ ويوجه لها من الكثير من الاهانات والتهديدات والتحذيرات.
تقتضي أفلام الطريق عادة، سياقا أو بناء دراميا قويا يمكنه أن يستولي على انتباه الجمهور لمدة ساعة نصف، مع حبكة قوية، وتداعيات تضيف الى الحبكة، وتعمق من فهمنا للشخصية خصوصا وان فيلمنا هذا هو عبارة عن “دراسة لشخصية”، كيف ولماذا أصبح هذا الشخص على ما هو عليه.. إلا أننا لا نعرف عنه الكثير سوى أنه غليظ وعنيف.. هكذا من دون سبب. هل هو غاضب لكونه لا ينجب؟ أم لأنه يعاني رغم قوته العضلية الهائلة، من الضعف الجنسي كما سنرى في أحد المشاهد. كما تقتضي أفلام الطريق أيضا وجود أحداث ومواقف درامية قوية تحدث خلال الرحلة على الطريق. وهذا ما يفتقده الفيلم بكل أسف.
نادين خان لديها صور جميلة من ابداع عبد السلام موسى، بدت أحيانا، كبطاقات سياحية مدهشة. ولكن لا بأس. فنحن في حاجة لتغيير الصورة الكئيبة الشاحبة الباهتة التي نراها في كثير من الأفلام “المستقلة” المسلوقة. وإخراج نادين خان لكثير من المشاهد، وتمكنها من السيطرة على التصوير داخل الشاحنة من زوايا صعبة، وانتقالاتها من الليل للنهار، ومن الداخل إلى الخارج، كلها تؤكد أنها تمتلك أدواتها التقنية.
اما مشكلة الفيلم فتكمن تحديدا في السيناريو الذي كتبه محود عزت، والذي يقتبس من أفلام أجنبية مماثلة كثيرا في الحبكة، ولكنه لا يطور السياق ولا يتوقف بنا خلال الطريق أمام ما يمكنه أن يصبح صورة للواقع الذي تسير في قلبه هذه الشاحنة. فالهدف الأساسي بل والوحيد، هو أن نرى كيف أن أبو صدام هذا، عنيف شرس، فهو يكاد يفتك بسيارة تقودها فتاة لمجرد أنها أرادت أن تتجاوزه ونجحت في ذلك بصعوبة، ثم يفتك بالفعل بسيارة خرى ويحطمها تماما بعد أن يفقد أعصابه قرب النهاية، ولكننا لا نعرف مصير الذين كانوا داخل السيارة، فكاميرا نادين خان لم تتوقف لحظة واحدة لترصد لنا ماذا حدث، بل اكتفت بالمرور على المشهد سريعا.. وهو أيضا لا يتورع عن محاولة الاعتداء على ضابط شرطة أوقفه بعد أن استخدمت صاحبة السيارة التي تجاوزته نفوذ أقاربها غالبا، وأبلغت عنه. والحقيقة أن صورة الشرطة في الفيلم صورة مثالية، فأمين الشرطة يقوم بتطبيق الإجراءات بكل صرامة (لا يمد يده قط لقبض رشوة!)، والضابط يتغاضى عن محاولة الاعتداء الفظ عليه ويترك أبو صدام يرحل بشاحنته بعد أن تأكد من انه لم يكن سكرانا أو متعاطيا للمخدرات!
لا بأس أيضا.. ولكن المشهد الرئيسي في الفيلم وهو مشهد حفل الزفاف، تستغرق المخرجة طويلا في تصويره بحيث يصبح مشهدا صاخبا يفوح بالفولكلور والمشهيات الجارية المألوفة (السائق يرقص مع الراقصة)، كما يبتعد عن الطابع الواقعي العام للفيلم، فليس من المعقول أن يرش أبو صدام الذي عاد لتوه للعمل، كمية كبيرة من الأوراق المالية على جسد الراقصة، ثم يلتقطها ويضاجعها ويفشل على ما يبدو في إرضائها، وعندما تريد أن تغادر الشاحنة يحاول اغتصابها بالقوة لكنها تلقنه درسا قاسيا وتصفعه “صفعة الفيلم” أو الرسالة التي أرادت نادين خان توجيهها، وهي مرة أخرى: أن الرجل قذر وعنيف عل الفاضي، وأن المرأة لا يجب أن تكون ضحية بل يجب أن تواجهه وتتصدى له وترد له الصاع صاعين أيضا!
حاولت نادين مرة واحدة فقط الخروج عن السياق الخارجي لفيلم الطريق بسبب فقر المادة الواقعية، فدفعت أبو صدام لاستدعاء الخيال عندما أخذ يقص على مساعده قصة مختلقة بالطبع، تعبر عن فحولته الجنسية وقدراته الخارقة. ولكن القصة كلها بتفاصيلها “الشعرية” عن الحورية الفاتنة التي تخرج له من البحر.. الخ، تتناقض تماما مع تركيبة أبو صدام المعادية للرومانسية أصلا. وربما كان يمكن أن تنسجم مع روح الفيلم لو جاءت القصة أكثر فجاجة وشهوانية وفظاظة.
هناك كثير من الاستطرادات والحشو لمليء الفراغ، مما أدى إلى ارتباك الرؤية والاستيعاب. وعلى سبيل المثال يحاول مساعد السائق- أو يقوم بالفعل- بسرقة المال الموجود في الشاحنة وينقله من حقيبة صغيرة الى حقيبة أخرى معه، ثم يهبط ويتصل بشخص لا نعرف من هو، لكنه يعود بعد قليل لكي يعيد المال مرة أخرى إلى حقيبة أبو صدام ثم يضع الحقيبة الصغيرة داخل الصندوق العلوي، ويتكرر هذا الأمر مرات عدة دون أن يكون هناك أي دلالة درامية، ولو حذفت مثل هذه المشاهد المتكررة من الفيلم لما أثرت سلبا عليه، بل ربما أنقذته من هبوط الإيقاع. لكن الفن اختيار بالطبع.
محمد ممدوح ملائم تماما للدور بتكوينه الجسدي امكانياته الصوتية. لكنه بدا في بعض المشاهد التي فرضت عليه، وهو يصرخ ويكرر الصراخ على زوجته عبر التليفون، وأن يبالغ بعض الشيء في الأداء.
نهاية الفيلم، رغم اللقطة البديعة التي ترتد فيها الكاميرا إلى الوراء وتصعد إلى أعلى تدريجيا الى أن تصبح الشاحنة نقطة صغيرة على الطريق، هي نهاية ضعيفة. صحيح أنها تترك الباب مفتوحا عل كافة التأويلات، لكن فيلما كهذا كان يحتاج إلى نهاية أكثر درامية. ولكن الفنان حر بالطبع في اختياراته الفنية.
في المقال القادم سأتوقف أمام أحد أفضل أفلام المسابقة وهو الفيلم الأردني “بنات عبد الرحمن” وكيف نجح مخرجه في توجيه صفعة أكثر بلاغة من المرأة إلى الرجل!