أوراق مهرجان القاهرة: في الفيلم التونسي “غدوة”.. كل أخطاء البدايات

من الأفلام التي تعرض مسابقة مهرجان القاهرة السينمائي الـ43، الفيلم التونسي “غدوة” الذي عرض عرضا عالميا أول بالمهرجان مساء الخميس، لصاحبه الممثل ظافر العابدي الذي يقدم هنا تجربته الأولى في جال الإخراج السينمائي إلى جانب التمثيل.

من المشاكل المتكررة في أفلام البدايات الأولى أي الأفلام الأولى التي يصنعها السينمائيون العرب، أنهم يختارون عادة مواضيع لا تكفي لعمل أفلام روائية طويلة، بل يمكن أن تصنع أفلاما قصيرة محدودة المكان والزمان والمساحة الدرامية.

هذا ما يمكن أن يتضح من خلال مشاهدة فيلم “غدوة” الذي يحاول أن يستنهض الروح الوطنية في تونس من خلال فيلمه هذا المصمم من البداية بشكل قصدي لتمرير رسالة سياسية مباشرة على نحو يذكرنا بأفلام الماضي البعيد، أفلام الشعارات والهتافات والصراخ والاحتجاج المباشر الصارخ.

في هذا الفيلم لدينا شخص واحد هو بطل الفيلم أو ما يمكن تسميته “البطل المأزوم” (كبديل عن “البطل المهزوم”)، كونه بالفعل مأزوما، فهو يعاني من مرض شبيه بالبارانويا، ولكن البارانويا أو جنون الاضطهاد الذي يصور له أن هناك من يتجسسون عليه ويراقبونه ويريدون التخلص منه عن طريق تسميمه، هي حالة نتجت عما مر به من متاعب لا يتعمق الفيلم في تصويرها أو تسليط الأضواء عليها مكتفيا بأن يطلعنا عليها من البداية بطريقة مباشرة دون ادنى محاولة للعودة إلى الماضي لتقريب الحالة، من خلال الصور والمشاهد في بناء جدلي مركب، بل من خلال ما نسمعه على شريط الصوت.

هذا الرجل الذي يدعى “حبيب” (يقوم بالدور ظافر العابدين نفسه) منفصل عن زوجته، ويعيش مع ابنه الوحيد “أحمد” الذي يخشى عليه من تدهور حالته الصحية. إنه محامي من المدافعين عن حقوق الإنسان، يفترض أنه شهد الكثير قبل وأثناء الثورة التونسية، فأصبح لا يثق في الحاضر، فمن جهة هو يعتقد ان نظام زين العابدين بن علي مازال قائما، بل ويصل في أحد المشاهد إلى إعلان الغضب والدعوة إلى الثورة، وهو ما يقابله الناس الذي يشاهدونه ويستمعون الى مونولوجه الهستيري في احدى وسائل النقل العام، بلا مبالاة، ثم يحاول الوصول إلى مكتب النائب العام لكي يشكو إليه ما يمرس من تعذيب للثوار.. ولكن الشرطة تحول بينه وبين الوصول إلى هدفه.

هل هو يعيش حقا في الماضي بعد أن أصبح أسيرا له بفعل الخلل النفسي الذي وقع له؟ أم أنه عاجز عن التأقلم مع الحاضر لأنه يشعر أن لا شيء تغير في تونس بعد الثورة وأن الفساد والقمع وغياب الحقوق والعدالة.. مازالت كلها مستمرة؟  

المشكلة الأولى أن هذا الموضوع الذي كان يمكن أن يعالج في 15 أو 20 دقيقة، يمتد لأكثر من 90 دقيقة دون أن يقع أي تطور درامي، سواء في بناء الشخصية أو في حبكة الفيلم. وتبدو شخصية “حبيب” شخصية أحادية وسطحية تماما: أحيانا تشعر أنه مختل، وأحيانا تشعر أنه يدرك سبب ما يعانيه، ولكن الفيلم يحسم أمره في النهاية عندما يقطع بأنه مختل نفسيا، ولكن بعد ان يقتنع بالعودة إلى المستشفى، يقع ما لم يكن في الانتظار، فالواقع يهجم عليه ليفترسه. لكنها نهاية مصطنعة تصل بالفيلم إلى ذروة الميلودراما، المخلوطة بالصراخ والنداء والهستيريا المألوفة في الأفلام العربية التي لا يستطيع مخرجوها سوى نادرا- أن يسيطروا على المشاعر المتأججة، ويعبروا من خلال الصورة والحركة والصمت.

مرة أخرى نحن أمام عمل يبدو وكأنه عادة بنا إلى الوراء، إلى زمن الفيلم السياسي الصارخ البدائي، الذي يهتم بالإدانة والصراخ ضد “الظلم وغياب العدالة”، ولكنه لا يبرز أصلا ما يدعم هذه الفكرة فنحن لا نعرف كيف غابت العدالة، ولا كيف أن الفساد مازال قائما، إلا لو اعتبرنا ما يتردد عبر شريط الصوت مذاعا من التليفزيون، عن غلاء الأسعار ومعاناة المواطنين، كافيا لوصم مجتمع ما بعد ثورة الياسمين، بالفساد والظلم وغياب العدالة.

جميع الشخصيات الأخرى المساندة لشخصية البطل المأزوم: ابنه التلميذ الذي يمر بالامتحانات في المدرسة دون مبالاة لأنه مشغول بحالة أبيه، وزوجته السابقة العنيفة التي تريد رده إلى الواقع الجديد دون جدوى، وجارته الشابة التي تتودد إليه بطريقة مكشوفة ومقززة كما لو كانت تعرض نفسها عليه، وجاره الذي يشفق عليه ويتعهد له برعاية أزهاره بعد عدته للمستشقى، وكلها شخصيات لا تؤدي دورا دراميا حقيقيا في الفيلم بل مجرد “وظيفة” محددة سلفا، لا تضيف ولا تعمق من السياق الدرامي..

هذا فيلم شخصية رئيسية وحيدة تعيش في متاهة عقلية كما لو كانت ضحية من ضحايا العهد القديم الذي يريد الفيلم أن يقول لنا إنه هو نفسه العهد الجديد وأن لا شيء تغير في تونس، فما هو هذا الهدف العظيم الذي كان يمكن صياغته في خمس دقائق بل وه ما يقال ويتردد يوميا على ألسنة المعارضين في تونس؟!

ولأن شخصية هذا الرجل المأزوم “حبيب” شخصية سطحية لا أبعاد لها، فقد جاء أداء ظافر العابدين للدور، نمطيا، مع تعبير واحد ثابت على وجهه في محاولة يائسة لتجسيد حالة البارانويا، دون أي نجاح يذكر لأن مثل هذه الحالة في الواقع، تكون عادة، أكثر تعقيدا مما رأينا، وأما باقي الممثلين فأداؤهم بارد وتقليدي ولا يخرج عن الكتاب المدرسي، في حالة الشخصيات المساندة الثانوية التي لو غاب أحدها لما تغير شيء جوهري في الفيلم.

“غدوة” فيلم مدرسي يصلح لتلاميذ المدارس لتحميسهم وإبلاغهم رسالة بأنهم الجيل الجديد الذي سينطلق غدا لتحقيق ما عجزت الثورة عن تحقيقه، وأنهم بناة الغد كما تقول لنا النهاية الخطابية السخيفة. ومخرجه يريد أن يقول شيئا كبيرا إلا أنه بحكم محدودية طموحه السينمائي، يقوله في سياق فيلم صغير، ومن خلال إخراج تقليدي بارد يفتقد للخيال وللطموح بل وللرغبة في الخروج خارج دائرة المباشر والخطابي والصارخ!

إن هذا النوع من الأفلام التي تصرخ بالرسالة المباشرة، ينتمي إلى سينما عفا عليها الدهر، كانت تصلح في الخمسينيات والستينيات، في مرحلة النضال الوطني ضد الاستعمار. أما اليوم فقد أصبحت السينما فنا أكثر تعقيدا وتركيبا وثراء، في الصورة، وفي الصوت، في الاهتمام بالرؤية التي تنبع من بناء مركب وشخصيات تتفاعل معا بشكل أكثر حميمية وإقناعا، لا من خلال الشعارات التي تصل في أحد المشاهد إلى أن نرى البطل في منتصف الطريق، يردد أبيات من قصيدة أبي القاسم الشابي (إذا الشعب يوما الحياة..) التي أصبحت “كليشيها” مكررا لم يعد يثير سوى السخري!

Visited 43 times, 1 visit(s) today