أمير العمري يتذكر: إيليا سليمان والهولوكوست وشارون ستون!
أعود وأنا حبيس في العزل الصحي الاضطراري، إلى الذاكرة، أفتش في الماضي، وأتوقف أمام بعض التجارب التي خضتها وأسترجع الكثير من الأحداث، العامة والخاصة، ولا أجد في كثير من الأحيان، أي فارق جوهري فيما بينهما.
الآن أصبح من المستبعد تماما أن يقام مهرجان كان السينمائي، لا في مايو ولا في يوليو. ورغم تراجع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، عن قراره السابق بتمديد فترة الإغلاق الكلي للبلاد التي تشمل حظر التجمعات، إلى منتصف يوليو على الأقل، والتلويح بإمكانية الرفع التدريجي للحظر في 11 مايو، إلا أن من المستحيل عمليا إقامة دورة مهرجان كان في الصيف، فليس من الممكن تطبيق نظام “البساط الأحمر المكمم” كما قال المندوب العام للمهرجان تييري فريمو ساخرا، وليس من الممكن استقبال أفلام ووفود سينمائية من بلدان مثل الصين وكوريا وايران، بل وإيطاليا واسبانيا وبريطانيا والولايات المتحدة أيضا، وهي بلدان مازالت مغلقة ولا تسمح بالطيران، ربما يستمر هذا الحظر لأشهر قادمة.
أصبح مهرجان كان مجرد ذكرى، في الوقت الحالي على الأقل، لذلك فقد أخذت أسترجع في ذاكرتي الدورات التي حضرتها منذ أوائل التسعينات، كيف تغير المهرجان وتغير معه الكثير من الأمور، زادت أعداد الصحفيين زيادة مهولة لم تقابلها زيادة حقيقية في قاعات العرض المتوفرة، وهي أزمة حقيقية تضطر الصحفيين للوقوف مبكرا في صفوف طويلة وأحيانا في كتبة عشوائية، لأكثر من 40 دقيقة تحت أشعة الشمس الحارقة، حتى يضمن المرء مكانا مناسبا داخل قاعة العروض الصحفية التي تمتليء عن آخرها، ويحظر بعد ذلك الدخول، أي أنك إن لم تحضر مبكرا فستجد نفسك ممنوعا من الدخول. كانت هذه دائما مشكلة مهرجان كان.
وأنا أفتش في الذاكرة، عدت الى دورة مهرجان كان عام 2002. فقد كانت دورة حافلة بالأفلام والأحداث والمواقف. كنت أجلس يوميا في مكان مميز، خلف أعضاء لجنة التحكيم الرسمية، باعتباري عضوا في لجنة تحكيم أخرى خاصة بنقاد السينما أعضاء الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية (فيبريسي). كانت اللجنة الرسمية الكبيرة في تلك السنة برئاسة المخرج الأميركي المرموق ديفيد لينش، وكان من بين أعضائها النجمة الأميركية شارون ستون، والمخرج الدنماركي بيللي أوغوست، والمخرج الفرنسي كلود ميللر، والممثلة الاندونيسية كريستين حكيم.
كانت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في أوجها في تلك الفترة، وهي الانتفاضة التي اندلعت عام 2000 ولم تتوقف سوى في 2005. وكان الغضب العالمي قد تصاعد ضد السياسة الهمجية التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية في مواجهة الانتفاضة المشروعة. وكالعادة عندما تتصاعد الأصوات الناقدة، ولو على استحياء، في الغرب، ضد السياسة الإسرائيلية، تنبري الأبواق الصهيونية لتختلق ما يبعد الأنظار عن القضية، ويقلب المعادلة، ليصبح اليهود هم الذين يتعرضون للخطر، وأن من الواجب الوقوف مع إسرائيل وتأييدها، من يتقاعس يصبح تلقائيا “معاديا للسامية”. ففي الولايات المتحدة، أقام «المجلس اليهودي الأمريكي» الدنيا ولم يقعدها، فدعا ممثلي الصناعة السينمائية ونجوم هوليوود، إلى مقاطعة مهرجان كان. والسبب كما زعموا، أن الحكومة الفرنسية لا تشدد من إجراءاتها البوليسية بما فيه الكفاية لحماية ما تتعرض له ممتلكات اليهود في فرنسا من اعتداءات- حسب ما ورد في تصريحات رئيس المنظمة اليهودية المشار إليها.
كان المقصود هو ما تصفه عادة أبواق الدعاية الصهيونية «الوحش الضاري» الذي عاد إلى الظهور، والمقصود تجدد موجة «العداء للسامية». وقد اختاروا التوجه بأنظارهم هذه المرة إلى فرنسا تحديدا، بسبب ما حققه حزب «الجبهة الوطنية» بزعامة جان ماريه لوبان وقتذاك، من نجاح ملفت في الانتخابات البرلمانية. وكانت الدعوة إلى مقاطعة «كان» ترجع إلى حصول الجبهة الوطنية في الجنوب الفرنسي (بما في ذلك مدينة كان) على نسبة عالية من الأصوات.
دعوة للمقاطعة
لم ألمح في «كان» في تلك السنة، أي مظاهر لما يسمى بـ«العداء للسامية» اللهم إلا لافتة تأييد للجبهة الوطنية تتدلى من شرفة في منزل بشارع أنتيب الشهير في وسط مدينة كان. لم تكن هناك مظاهرات معادية ليهود السينما الذين يملأون كان تقليديا بأعداد غفيرة، ولم يعترض أحد من أصحاب المطاعم والفنادق والمقاهي العديدة على توافد اليهود والاسرائيليين عليهم بالمئات، ولا على تخصيص جناح لهم في السوق الدولية للأفلام.
ومازلت أحتفظ حتى الآن بالمقال الذي كتبه الصحفي البريطاني أندرو بولفر (وهو نفسه يهودي) في التنديد بموقف المجلس اليهودي الأمريكي والسخرية منه في صحيفة «الغارديان» بتاريخ 17 مايو، وقد نُشر تحت عنوان “مقاطعة سخيفة” A ridiculous boycott ويقول فيه إن المهرجان الشهير قدم الكثير في تاريخه لليهود، وأن هذا العام (2002) تحديدا، شهد عرض أفلام لسينمائيين يهود كثيرين من أمثال: وودي ألن وفريريك وايزمان ومايك لي وكلود ليلوش ورومان بولانسكي وغيرهم. ومضى الكاتب يقول إن الجبهة الوطنية توجه عداءها العنصري أساسا، تجاه العرب والأفارقة المهاجرين في فرنسا الذين تتجاوز أعدادهم كثيرا عدد اليهود الفرنسيين.
كان من أهم الأفلام التي عرضت في تلك الدورة فيلم “يد إلهية” للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان، وكان عملا جريئا، جديدا في صياغته وأسلوبه الذي سيتميز به فيما بعد مخرجه في أفلامه التالية. وكنت متحمسا كثيرا للفيلم، ليس بسبب موضوعه السياسي، بل أساسا بسبب تميزه الفني الكبير، وكان قد قوبل في العرض الصحفي الخاص الذي حضره المئات، بعاصفة من التصفيق. وكان يُتوقع أن ينافس بقوة على “السعفة الذهبية” بل وقج رشحه نقاد فرنسا لهذه الجائزة.
كان مشهد تحليق بالون رسمت عليه صورة ياسر عرفات، فوق الحواجز الإسرائيلية التي تفصل القدس عن الضفة الغربية، وعجز الجنود الإسرائيليين عن التعامل مع هذا البالون الذي اخترق الحواجز التي أقاموها، ثم الفتاة الفلسطينية الجريئة الجميلة التي أقدمت على الحاجز الأمني وأذهلت الجنود الإسرائيليين بفتنتها فعجزوا عن التصدي لها، وانهار الحاجز تحت وطأة فتنتها، ثم هناك أيضا مشهدا لا ينسى عندما يتناول إيليا سليمان داخل سيارته إحدى ثمار المشمش ثم يلقي بعفوية بذرة المشمش على دبابة إسرائيلية تمر الى جوار سيارته بالصدفة، فتنفجر الدبابة. لقد جعل نواة المشمش تصبح قنبلة. كل هذا في خياله بالطبع.
جدل في اجتماع لجنة التحكيم
في اجتماع لجنة تحكيم النقاد، دارت مناقشة طويلة استغرقت نحو أربع ساعات. كان رئيس اللجنة هو الناقد البريطاني رونالد بيرغان Ronald Bergan وهو أحد أروع من قابلت من الشخصيات الأوروبية والبريطانية بوجه خاص. فهو مثقف ثقافة رفيعة، ومنفتح على الثقافات الأخرى، وكان يتمتع بروح المرح وخفة الظل، ومن ذلك النوع الذي نقول عنه أنه “يفهم بالإشارة”، وهو فضلا عن ذلك، “ناقد من العيار الثقيل” فهو محاضر في السينما، ولديه مجموعة من الكتب المهمة. وقد اتضح من البداية أننا على نفس الموجة. كان مزاجنا واحد، ونوعية الأفلام التي نفضلها واحدة. ولكننا وجدنا أنفسنا وحدين، داخل لجنة مكونة من 11 عضوا، في اعجابنا بالفيلم الفلسطيني. ولم نيأس أو نكل، فقمنا أولا باستبعاد من لم يشاهدوا الفيلم من التصويت، ثم طلب هو ترشيح 5 أفضل أفلام بشكل سري، ثم 4 أفلام ثم 3 أفلام، ثم أخذ يدعو للتصويت عليهم واحدا واحدا، ثم أعاد الكرة مرة ومرتين. وكان الإصرار لايزال موجودا على عدم منح الجائزة للفيلم. وفي مرحلة تالية بعد مناقشات حامية، كان رونالد يغمز لي خلالها بما يعنى أنه يؤيدني لكنه يحاول أن يتظاهر بالحيادية، نجحنا بفضل ذكاء رونالد وحنكته، في أن نجعل النقاد ينقسمون حول الأفلام الأخرى بحيث يصب هذا الانقسام لصالح “فيلمنا”- كما أطلقت عليه. وكنت أشعر بالدهشة الشديدة فكيف لهذا الجمع من نقاد السينما، أن يتجاهل عملا مدهشا مثيرا للفكر والخيال على هذا النحو الغريب.
مشكلة إيليا سليمان
كان الواضح أن العامل السياسي هو الذي يتحكم في الموقف. وعلى سبيل المثال، كان معنا في اللجنة ناقد من بنغلاديش يدعى “ أحمد جمال” وكان اسمه مكتوبا “زمال” بدلا من جمال. كان هذا الشخص مترددا مرتعدا دون سبب واضح وقد رفض أن يصوت لصالح الفيلم الفلسطيني. ولكن المفاجأة أننا تمكنا عن طريق المناقشة وإعادة المناقشة من الحصول أخيرا على أغلبية الأصوات لصالح فيلم إيليا سليمان كأحسن فيلم في المسابقة. هل يعرف إيليا سليمان هذا؟ لقد كانت هذه أول جائزة يحصل عليها في مهرجان كان، وقد أُعلنت في حفل بسيط أقيم على شاطئ الكروازيت قبل يوم من اعلان الجوائز الرسمية، ولكن إيليا سليمان لم يحضر، فقد غادر كان في الليلة السابقة بعدما علم أن لجنة التحكيم الرسمية لم تمنح فيلمه الجائزة الكبرى ولا التالية ولا حتى جائزة أفضل مخرج ولا أفضل سيناريو، بل منحته جائزة صغيرة هي “جائزة لجنة التحكيم” وهي غير “الجائزة الكبرى للجنة التحكيم” التي تلي في قيمتها السعفة الذهبية مباشرة.
الغريب أنني قرأت لإيليا سليمان بعد ذلك تصريحات غريبة، يدعي فيها أن النقاد العرب لم يهتموا بأفلامه ولم يفهموها ولم يقفوا معه. وأعتقد أن السبب بسيط: هو أن إيليا سليمان لا يقرأ ما يكتبه “النقاد” العرب، ولا يبحث عنه لأنه يكتفي بما يكتبه “الخواجات”، ولا يقدر قيمة النقاد الذين يكتبون بالعربية حتى لو كانت كتاباتهم أعمق من كتابات “الخواجات”. ومشكلة إيليا سليمان أنه يعتبر نفسه فوق السينمائيين والنقاد العرب وربما الجمهور العربي أيضا، وهو مثل كثير من المخرجين ومسؤولي المهرجانات السينمائية العرب، الذين يغرمون بكل ما ينشر عنهم في المطبوعات الأجنبية ولكنهم لا يكترثون لما ينشر من كتابات جادة في المطبوعات العربية، وهي مشكلة أخرى ليس هنا مجال تحليلها!
قلت إن الأجواء كانت في ذلك العام، مشحونة كثيرا، وكان وجود الإسرائيليين كثيفا في المهرجان. وعندما وقفت على المنصة الصغيرة مع باقي أعضاء لجنة التحكيم. كان يقف على مقربة الناقد الإسرائيلي دان فينارو وزوجته التي تصحبه دائما. ولم يكن باديا عليهما السرور فلابد ان فينارو الذي كان يرتبط بعلاقة جيدة مع “فيبريسي” كان قد علم بالنتيجة أي ذهاب جائزة النقاد الدولية في كان، إلى فيلم فلسطيني يحتفي بصورة ياسر عرفات ويسخر من الاحتلال الإسرائيلي.
كان يقف إلى جواري الناقد البنغلاديشي أحمد جمال. وكان يرتعد خوفا، ولم يكن راضيا عن نتيجة التصويت. وهمس في أذني: أنظر الى اليهود الموجودين. هذا سيغضبهم. فقلت: ولكني لا أكترث. فماذا يمكنهم أن يفعلوا لنا؟ كان خوفه قائما فيما يبدو، على ما يتردد عادة عن النفوذ اليهودي والصهيوني على مهرجانات السينما بل وعلى الصحافة السينمائية في الغرب أيضا. وكان جمال (أو زمال) هذا، قد أعلن عن ترأس أول مهرجان سينمائي في بنغلاديش. وربما كان حريصا على نيل رضا يهود الصناعة.
في تلك الدورة، بدا أن الحملة الصهيونية قد نجحت في الضغط على لجنة تحكيم ديفيد لينش، فمنحت السعفة الذهبية لفيلم “عازف البيانو” The Pianist لرومان بولانسكي الذي يواصل فيه تكرار الأنين اليهودي المعتاد على ايقاع “الهولوكوست”، وهو في رأيي عمل متوسط المستوى لا يقدم جديدا. وجدير بالذكر أيضا أن الأعضاء الأحد عشر للجنة تحكيم الاتحاد الدولي للنقاد كانوا قد اتفقوا- دون تردد- على استبعاده من المناقشات.
إلا أنني شاهدت شارون ستون وهي لا تكف عن البكاء أثناء عرض «عازف البيانو». وعندما ذكرت هذا لرونالد، علق ساخرا: لعلها اكتشفت هنا فقط أن هناك أفلاما عن الهولوكوست.. يبدو أنها لا تشاهد الأفلام!
دموع شارون ستون، وتهديدات المجلس اليهودي، ضمنوا الجائزة لبولانسكي الذي لا يستحقها، بدلا من أن تذهب إلى فيلم إيليا سليمان المدهش «يد إلهية»، أو إلى فيلم كوريسماكي الفنلندي «رجل بدون ماضٍ». ولعل كوريسماكي كان يعبر عن احتجاجه عندما قال وهو يتسلم الجائزة الكبرى للجنة التحكيم: أولا وقبل كل شيء.. أود أن أشكر نفسي!