أليخاندرو خودوروفسكي والتأويل الشعري للواقع
أليخاندرو خودوروفسكي ممثل، كاتب، شاعر، مخرج مسرحي وسينمائي.
وُلد في 1929، في تشيلي، من أبوين أوكرانيين. طفولته المبكرة كانت موسومة بالحياة العائلية المضطربة، وإحساسه بأنه لامنتمٍ.
أظهر موهبة في كتابة الشعر، ونشر قصائده مع بلوغه عامه السادس عشر. أبدى نزوعاً إلى الحركة الفوضوية. ودرس علم النفس والفلسفة في الكلية. بعد ذلك، اراد أن يعمّق ولعه بالمسرح، فانتقل إلى باريس ودرس فن الأداء الصامت على يد مارسيل مارسو. وهناك تعرّف على السورياليين، ومع فرناندو أرابال خلق حركة الرعب في المسرح.
في 1957 أخرج أول أفلامه “رؤوس مقطوعة”، وهو قصير. وفي 1968 حقّق فيلمه الطويل “فاندو وليزا” المعد عن مسرحية لفرناندو أرابال. لكنه نال شهرة عالمية مع فيلمه التالي “الخلْد” El Topo (1970). بعد ذلك أخرج “الجبل المقدّس” (1973). ثم “ناب” (1980) وهو عمل مخصص للأطفال، صوّره في الهند. بعد عشر سنوات حقق “الدم المقدّس” ثم “لص قوس قزح” مع عمر الشريف (1990).
إلى جانب العمل السينمائي، أصدر خودوروفسكي عدداً من الروايات وكتب في الفلسفة وعلم النفس والرسوم الهزلية.
قوة أفلامه تكمن في صورها الشعرية، المبتكرة، التحريضية، المجازية.
أعماله، الحافلة بالشعر، مزيج من الصور أو الحالات السوريالية.
مع أفلامه، يوجّه خودوروفسكي طاقته لخلق فيلم قادر أن يخدم كوسيلة لإيقاظ الوعي.
مهمته في الحياة، في الشعر، كما يقول، أن يحطم الستار بين حواسنا والعالم، وبين ذواتنا وحواسنا، لتحقيق نوع من نقاء الوجود المطلق.
من أفلامه الأخيرة: رقصة الواقع، شعر لانهائي،
في فيلمه “شعر لانهائي” Endless Poetry يكشف المخرج التشيلي- الفرنسي عن طاقة الشعر الكامنة في الصورة السينمائية وفي الرؤية العميقة للذات والعالم.
الفيلم ليس سيرة ذاتية واقعية، بل هو تأويل شعري للواقع مشحون بالعناصر السوريالية والواقعية السحرية، والتصاميم الفنتازية، والسرد الذي يحطم باستمرار الحائط الرابع، والحبكة التي يحكمها المنطق الشعري.
هنا نرى خودوروفسكي الشاب وهو يخفي عشقه للشعر عن والده الذي يرغب في أن يرى ابنه طبيباً أو تاجراً. لكن الشاب يدرك أنه بإرضائه لأبيه وجعله سعيداً فإنه سوف يدمّر نفسه. بكبحه لموهبته فإنه يخنق مبرّر وجوده وينكر حقيقته الباطنية وما يعطي لحياته معنى.
لذلك يبدأ الشاب في التمرد على أبويه، والسعي لتحقيق حلمه بأن يكون شاعراً. ينتقل إلى باريس. يكوّن صداقات وعلاقات حب. يختلط بالفنانين والراقصين والمهرجين.
الفيلم يتدفق كالقصيدة
هنا، يتحدث خودوروفسكي عن تجربته مع الشعر والفن والسينما:
“في تشيلي، في الأربعينيات، كنت في الرابعة والعشرين من العمر. كانت فترة رائعة. الحرب مندلعة في كل مكان على هذا الكوكب باستثناء تشيلي. كأنها جزيرة وحيدة ونائية. ربما لأنها تقع بين الجبال والمحيط. لا حرب في تشيلي لأننا بعيدون ومنفصلون عن العالم: لا تلفزيون، فقط جبال ومحيط وسلام. وراديو. والنبيذ كان أرخص من الحليب. لذلك كان الجميع يسكر في تشيلي. ولا أعرف لماذا تشيلي كلها كانت تعجب بالشعر. كانت الحياة مسالمة وآمنة. كانت جميلة. بعدئذ حدثت المعجزة: الشعر جاء إلى البلاد. شعراء عظام بدأوا في كتابة قصائد رائعة ومدهشة. اثنان منهم حازا على جائزة نوبل: بابلو نيرودا وغابرييلا ميسترال، أبونا وأمنا. آنذاك كل شيء صار شعراُ. عشنا مراهقتنا في هذا الوضع: شعر في كل مكان. شعراء كثيرون في تشيلي. المعجزة الغريبة: حضور الشعر. السكارى شكّلوا جوقات تردّد أشعار نيرودا. الشعر صار موضع احترام وتقدير. أن تكون شاعراً في تشيلي فتلك هي مهنتك. لا تحتاج أن تفعل شيئاً آخر، لا تحتاج أن تمتهن وظيفة أخرى. أنت شاعر. لقد كانت حياة فيها اكتشفنا الحرية.
في مراهقتي، كان مهماً عندي أن اكتشف نفسي. تحرّرت من عائلتي، واكتشفت الكثير من الأمور. عندما تكون في العشرين، كل التجارب تغدو مهمة. وأدركت حينذاك أنني أرغب في أن أكون شاعراً.
أبي كان شيوعياً، ستالينياً، وبالنسبة له، كل شاعر هو شاذ جنسياً. والمثلية في نظره أمر رهيب. عبر الإذاعة سمعت قصيدة للوركا، وحينذاك لم يكن شاعراً كبيراً، إنما كان شاعراً شعبياً. لكنني اكتشفت ذلك من خلال لص تسلل إلى محل أبي وأضاع كتابه في المحل، وكان للوركا. يبدو الأمر سوريالياً. الشعر فتح لي باب الخروج من الحالة السوقية، المبتذلة. الشعر أنقذ حياتي.
لقد آثرت لوركا على نيرودا لأن نيرودا كان شاعراً وسياسياً. كان شاعراً مهماً، ومثقفاً جداً. لكنه اكتشف أن باستطاعته أن يحصل على شعبية هائلة إن هو أصبح شيوعياً. وما إن تحوّل إلى الشيوعية حتى فقدَ طاقته الشعرية. صار مشهوراً في البلاد وفي العالم. صار مهرّجاً، صار رجل أعمال. كان يؤمن بستالين، وأراد أن يصبح رئيساً على البلاد. كانت ذاته متضخمة جداً. كنا مراهقين، فوضويين تقريباً. نيرودا كان البوذا. ونحن لم نرد للشاعر أن يكون بوذا. على الشاعر أن يكون شيئاً آخر، روحياً أكثر.
كنت باستمرار أكتب القصائد، لكنني كنت أشعر بالخجل. لذلك لم أعرضها على أحد. ذات مرة حضرت مؤتمراً، لقاءً شعرياً. أخيراً قلت لهم: “أريد أن أقرأ قصيدة كتبتها”. سمحوا لي بذلك. كان شعوراً رائعاً وعظيماً. بعد ذلك نشروا قصائدي.
وبدأنا نبحث عن الفعل الشعري. كيف سيكون الأمر لو عشنا مع الجمال. كيف سيكون لو عشنا في العقل: أحراراً. في القلب: في اتحاد مع العالم. في الجنس: في إبداع تام.
كيف تخلق الفعل الشعري من أجل اكتشاف جمال الحياة؟ في ذلك الزمن، الشعر كان موجوداً هناك. البشر كانوا هناك. كان لدينا الحب، لدينا مجموعة من الفنانين، واكتشفنا كل ضروب الفن.
كل ذلك اختفى فجأة. حين كنت في الرابعة والعشرين، غادرت ذلك الفردوس. سافرت إلى أوروبا حيث العالم وهْم أو تحرّر من الوهم.. لا تدري.
لكن الآن أريد أن أعرض ما يكونه الفردوس الروحي: شخص شاب يبحث عن جمال الشعر. ذلك هو كل ما أريده. أريد أن أعبّر عن كيف أنني مدين إلى هذا الماضي.. لأنني كنت أعرف ماذا يعني أن تعيش في الشعر. وقد أردت أن أًظهر للعالم أن ذلك ممكن. ممكن أن تتذكّر نفسك. ممكن أن تفتح عقلك. ممكن أن تفتح قلبك. ممكن أن تفتح إبداعك. أن تعيش في تقشف، لكن أن تعيش بشكل جيد. هذا ما أرغب فيه. شعر بلا نهاية. شعر لا نهائي. ذلك ما سأفعله.
عالمنا يعاني من غياب مدمّر للشعر. بسذاجة نحن أحياناً نرجو أن نعيد الاتصال به من خلال الفيلم. لكن صناعة الفيلم القائمة على الجشع، بعد أن استعمرت هذا الشكل الفني الرائع والعظيم، بذلت كل ما بوسعها لتجريده من طاقته الشعرية.
بالنسبة لي، الفن الرئيسي هو الشعر. لقد وُلدت بين مجموعة من الشعراء. وصرت شاعراً وأنا شاب. ومازلت أكتب. كتبت العديد من القصائد القصيرة. الشعر يهبني القوة لفعل أشياء أخرى.
أرغب في أن أملأ العالم شعراً.
نقطة انطلاقي هو الشعر. أيّاً كان الشكل الذي تتّخذه أفكاري، تجد هناك تجليات شعرية. الحقيقة المطلقة للشعر، للفن، هي البحث عن الجمال. لكن الجمال، أو الصدق، شيء يستحيل إحرازه، لأنك لا تستطيع أن تحصل على الحقيقة باستخدام اللغة. الحقيقة شيء يستحيل على البشر امتلاكه.
نحن نود الإمساك بالمطلق، اللامتناهي، الأزلي، الشيء الذي لا يبدأ ولا ينتهي، لكننا لا نستطيع. أقصى ما يستطيع دماغنا أسره هو الجمال. باستخدام الشعر، أحاول أن أجد ما يكون بداخلي وله قيمة، ليس لكي أعرضه، وإنما لأظهر جماله للآخرين: الجمهور، القراء. إنه أشبه بالقول: أنا هنا لأعرض عليكم الجمال الذي تمتلكونه، الإيجابي، البنّاء، الشيء المدهش في أن تكون إنساناً. تلك هي مهمتي. هناك طرق عديدة لفعل ذلك. أنا أستخدم الأعمال التصويرية، الأعمال الهزلية، بالصور الثابتة والرموز. الفيلم يفعل الشيء ذاته لكن بالحركة.
سانتياغو تغيّرت لأنه لم يعد هناك شعر. كما الحال في كل أنحاء العالم، لم يعد الشعر يوجد هناك. هو يوجد فقط داخل الشبان. المشكلة أن صناعة الكتب لا تريد الشعر لأن غالبية القراء لا يشترون الكتب الشعرية. هي غير رائجة. بالتالي لا نجد مطبوعات شعرية جديدة. أنجح كتاب شعري لا يتجاوز 600 نسخة. في الماضي كان الشاعر في منزلة الطبيب أو المعماري.
من واجبنا أن نمكّن كل المساعي لمحاربة القوى التي تصر على خفض مكانة السينما لتكون مجرد نتاج في السوق التجارية.
أنا فنان. بالنسبة لي، الفيلم أشبه بقصيدة. حين تخلق فناً، فإن هذا لا يأتي من موضع فكري، بل يأتي من الجزء الأعمق من لاوعيك، من روحك. وتكون في حالة شبيهة بالمسّ، حيث تعمل أي شيء للحصول على البصري. تصبح شخصاً آخر. تصبح فناناً في حركة. وعندئذ تأتي الكثير من المعجزات. الكثير من الاكتشاف. إنه شيء معقّد جداً.
في الوقت الحاضر، السينما صناعة، ويتمنى المرء لو يعرف حقاً ما الذي بقى للمخرج. المخرج في الواقع هو قلب صناعة الفيلم. هو الشاعر، الفنان، الذي يخلق عمله. يتوجب عليّ أن أقول، إنني عندما كنت أصوّر فيلمي “رقصة الواقع”، كان العمل شيئاً فوق فهمي. أنا لم أخلقه، بل تلقيته.. لأنني أظن أن ذلك هو ما يحدث. وما تلقيته هو في الواقع مقدّس، ولهذا السبب حققت الفيلم، ولهذا السبب أيضاً مضى الممثلون إلى مدى أبعد مما يفعله أي ممثل آخر.. ذلك لأنهم يحاولون أن يكتشفوا أنفسهم أيضاً.
الموهبة لا يمكن فرضها عنوةً، لكن يمكن تغذيتها.
أنا أريد الموهبة الباطنية. الموهبة شيء فطري، تملكها أو لا تملكها. عن نفسي، أنا وحش مخيلتي. لا أستطيع أن أدعو مخيلتي إلى عملي. عندما كنت في الجامعة، كان أمامي طريقان: الفكر وملَكة الخيال. اخترت ملكة الخيال. لم أرد أن أكون مفكراً. أنا ذكي، متّقد الذهن جداً. لكن كان عليّ أن أروّض ذكائي لأني أردت أن أنمّي مخيلتي. أنا أعمل بجد واجتهاد من أجل أن أفتح مخيلتي.
الأمر لا يتعلق بالمعالجة بل بالأفكار.
الفنان، الفنان الحقيقي، ليس لديه معالجة خلاقة. ينبغي أن يكون عمله أشبه بحلم. وهل هناك معالجة لصناعة الأحلام؟ أنا لا أصنع أحلاماً، عندي أحلام. أنا لا أصنع أفكاراً، عندي أفكار. أتلقى في ذهني الأفكار. آتي وأنفّذ ما أشعره. غير إني لا أحضّر للمعالجة. العِلم يفعل ذلك، وأنا لست عالِماً.
أعمالي السينمائية بمثابة نضال شاق في محاولةٍ لتحقيق أفلام مضادة لصناعة السينما. هذه الصناعة ترى أن الأفلام مصنوعة، قبل أي شيء آخر، لتحقيق الكسب المادي. إنها صناعة اقتصادية وليست فنية.
لكي تحقق فيلماً تجريبياً، مثل الشعر، مثل أي عمل فني، يتعيّن عليك أن تتخلص من الصناعة، أن تجعلها تختفي. وأن تحقق فيلماً مغايراً يعني أن تخسر أموالك، طالما أن من العار اعتبار الفن سلعة إن هو كسب مالاً.
من المهم تذكير أنفسنا بأن السينما فن. أنت تروي القصة ليس فقط لأجل الحوار، لكن لديك المعجم الذي هو بصري جداً، وثري جداً. الألوان، المواد. ونحن نستخدم الألوان بطريقة شعرية، كما في اللوحة، وذلك لأن الألوان ليست محايدة. ثمة معنى وطاقة في الألوان.
انتقلنا من توكوبيلا إلى سانتياغو. أبي كان يمتلك محلاً في منطقة عمالية.
فيلمي “شعر لانهائي” يروي قصة خروجي من هناك، وكيف كتبت قصيدتي الأولى، وكيف أني بفضل تلك القصيدة خرجت من تلك البيئة التجارية. لقد أردت أن أحكي كيف وجدت نفسي تدريجياً، وأنا محاط بأولئك الفنانين والشعراء، وكيف حرّرني الفن.
كنت أعيش قبالة خط سكة الحديد. كل يوم سبت، كان أحد العمال السكارى يلقى حتفه تحت عجلات القطار أثناء عبوره السكة الحديدية.
لو لم أصبح فناناً لقتلت نفسي. كنت أعيش وسط عمال، لصوص، مومسات، رقص، مخدرات، كل ما تظنه حياةً حقيقية بينما هي ليست حياة حقيقية. حين كتبت قصيدتي الأولى، تغيّرت حياتي. لقد أردت أن أكون شاعراً، أردت أن أكون حراً من كل تلك الأشياء التي كانت تحاصرني. ومن تلك القصيدة، وجدت الأصدقاء، وجدت عالمي الحقيقي. وبعد عام، وجدت نفسي.
نحتاج أن نفكر في ما يكونه الشعر. ما هو الشعر؟ ما هو الفن؟
بالنسبة لي، الفن يعني أن تكتشف الجمال والصدق والحنان في داخلك. إنك تكتشف نوعاً من الكنز البشري الذي تريد أن تعرضه على الآخرين لأن الآخرين يمتلكون الشيء نفسه. كل ما تستطيع اكتشافه في ذاتك، يمتلكه الآخرون، لكنهم لا يعلمون. الشيء المهم: اكتشف نفسك، كن نفسك.
أنا شاعر. لست عاملاً. أحتاج أن أكون حراً.
المصادر:
حوار مع خودوروفسكي، مجلة Filmmaker، 17 يونيه 2013
حوار مع خودوروفسكي، أجراه نويل موراي، يناير 2011
حوار مع خودوروفسكي أجرته إليانا كان، 8 مارس 2018
حوار مع خودوروفسكي أجرته كاميلو سالاس، 17 مارس 2015