أطياف النص وذكاء التأويل في فيلم ” السقا مات”
I – مأساوية الوجود وحكمة الإنسان في رواية” السقا مات “
ترصد رواية “السقا مات” أطوار مسارة متمحورة حول فهم الموت والتحكم في الخوف منه ومحبة الحياة بلا هواجس ولا تزهد ولا توهم. ولا تخص المسارة السقاء شوشة فقط، بل تخص كذلك ابنه ووريثه في درب السقاية والحكمة: سيد.. ولذلك فالمسارة مزدوجة لا فردية في “السقا مات”، خلافا لقراءة كثير من النقاد.
يسلم السقاء مشعل الفهم والإدراك والحكمة-الموروثة عن مشيع الجنازات المحترف شحاتة أفندي والمحصلة بعد مكابدة قاسية للألم النفساني والوجودي -إلى ابنه سيد.
إن موت المعلم شوشة، واستمرار الحاجة زمزم في الحياة، تأكيد لاختلال جوهري في طبيعة ونظام الأشياء. وسيد مقتنع بعد مسارته الناجحة بضرورة قبول الواقع، مهما نأى عن موجبات العقل وعن الترتيب المفروض في نظام الأشياء والعلائق وعن الغايات الأخلاقية البعيدة.
وبما أن الحياة غير عادلة-حسب منظور الرواية -(غنى الحاجة زمزم واطمئنانها رغم شرها وبؤس وفقر وموت المعلم شوشة الخير والنبيل ) ولا تخضع بالضرورة لمقتضيات العق ل،والموت غير رحيم ( مقتل شوشة مردوما تحت التراب/ موت الأم الشابة أثناء الوضع / موت شحاتة أفندي في لحظات الابتهاج والتلهف على اللذة الحسية )، لا يبقى للإنسان إلا الحياة بكرامة ومحبة ونبل.
لا تتحقق محبة الحياة ونيل اللذات والمباهج، حسب منظور الرواية – دون معرفة حقيقية لحدود الإنسان من جهة وترويض ناجح للخوف من الموت من جهة أخرى.
1 – المسارة المنسية (مسارة سيد الدنك)
وبما أن الرواية ترصد مسارة شخصيتين مختلفتين من حيث السن والتكوين والتجربة ،فإن ما اعتبر تمهيدات أو مقدمات أو توطئات غير جوهرية (ما وقع لسيد في السراية الكبيرة) ،هي مواد درامية، كاشفة ،صراحة أو ضمنا ،عن ملازمة الشخصيتين للموت ورموزه ؛ ففضاء السراية ،حافل بالذكريات(ذكريات الزوجة المتوفاة )،وتكليف سيد بسقي شجرة التمر حنة (المزروعة من قبل الأم احتفاء بحبها للمعلم شوشة ) مقصود ومعبر .وحيث إن المسارة مزدوجة ،فإن الغوص في عالم سيد والإبانة عن أطوار تطور وعيه وإدراكه للإشكاليات الحافة بالموت وتقديم تفاصيل ضافية عن سلوكه ضروريان .كما أن التفاصيل المقدمة حول شغبه وتبريره لسرقاته الصغيرة ليست زوائد ، خلافا لما ذهب إليه غالي شكري.
(ولكني قصدت إلى أن هذا الموقف المتأزم كان البداية الفنية الحقيقية للرواية [عجز شحاتة أفندي عن دفع ثمن وجبة الطعام بمسمط الحاجة زمزم]. فكل ما سبقه وما تلاه لا يرتفع على مستوى الحواشي والذيول والزوائد التي كان يجدر بالفنان بترها حتى يستقيم بناء الأحداث.) (1)
إن مسارة سيد الدنك، جوهرية في الرواية، ولذلك أكثر الراوي من إيراد التفاصيل والدقائق والطرائف، لإظهار ملابسات التجول ومقدمات المسارة.
(… إن الذي يهمنا فعلا هو ذلك الصبي “السقا” الذي حمل القربة على ظهره و أخذ يصب مياهها حول شجرة ” تمر حنة ” عالية مورقة .. هي كل ما تبقى من أثر الحديقة البائدة.. التي كانت تشغل الفناء. )(2)
إن سيد محاط بذيول المأساة ومخلفات الموت والحزن أنى ذهب (حزن الأب والجدة أم آمنة). ولئن غفل عن هذه الحقيقة، واستغرق في اللعب واصطناع المقالب والشغب (حادث الحريق المزعوم في المدرسة -الكتاب /وتحطيم زجاج إحدى غرف السراية/والاستمتاع بفرجات المولد/ خيال الظل …)، فإنه سيصطدم تدريجيا، بفكرة الموت بعد موت شحاتة أفندي وانخراط أبيه في تشييع الجنازات. ولم يعرف الخفي والمحجوب والمسكوت عنه (حزن أبيه وجدته وإصرار الأب على سقي شجرة التمر حنة وظروف تعلق وزواج أبيه بأمه وموتها المفاجئ)، إلا بعد المحادثة /المسارة في الحمام. وقد تلقى أثناء هذه المحادثة الهامة، خلاصة رأي أبيه –المتأثر بحكمة الحكيم الأبيقوري شحاتة-في الموت وترويضه والاحتفال بالحياة. والدليل على نجاح مسار المسارة، تماهيه التام مع أبيه حين ارتدى البدلة السوداء وتقدم موكب جنازة أبيه.
أظهر سيد في محطات كثيرة قدرته على التفكير” المتزن” وعلى المجادلة وحاول تبرير سرقاته الصغيرة بالاستناد إلى البداهة، ناسيا أن نظام العلاقات الاجتماعية لا يحتكم إلى العقل فقط بل كذلك إلى القوة والرمز والهوى والمصلحة والغلبة واللامعقول.
(…. لأنك سرقت الجوافة من الشجرة، وأول رأسمال السقا .. هي الأمانة.
– ولكن ما فعلته ليست سرقة.
– ما هي السرقة إذا؟
– هي أن تأخذ ما للمحتاج لغير المحتاج.
– ما شاء الله .. من قال لك هذا؟
– شيء بالعقل.) (3)
سيكتشف سيد الدنك، بعد مسار حافل بالرضات والمفاجآت والصدمات، أن الحياة لا تخضع، بالضرورة، لمنطق العقل ومقتضى البداهة وموجب العدالة.
(أأبوه حقا هو الذي هدم البيت عليه.. فمزق جسده إربا؟ وجاد؟ والحاجة زمزم؟ ألم يهدم عليهما شيء؟ ألم ينقض عليهما حجر؟ أما زالا يرتعان في بحبوحة من السفالة والظلم والخسة والحطة والدناءة؟) (4)
وفيما يستغرق في المرح والتفنن في الشغب واللهو، فإنه يكتشف المخبوء ويطل على مظاهر المأساة الإنسانية>لقد فزع سيد الدنك من حديث وحال شحاتة أفندي وهو يتحدث بطرافة ومرح ممزوجين بالسخرية عن مهنته الجنائزية المهيبة.
(وكان “سيد” قد انتهى من أكل آخر “كفتاية” وبدت على وجهه عدوى الفزع من رجل الأموات الذي يتشدق بذكر الموت والحانوتية، وغير ذلك من الأشياء المروعة، وكأنه يتحدث عن البلي والترنجيلة.)(5)
وكما اكتشف المعلم شوشة الموت بعد موت زوجته آمنة، فإن سيد عاش تجربة الخوف من الموت بعد حلول أبيه محل شحاتة أفندي بخاصة، وإصراره على ارتداء البدلة السوداء وحمل القمقم وتشييع الموتى، لقهر خوفه المزمن والاستحواذي من الموت.
2- المسارة النموذجية (مسارة المعلم شوشة)
غرق المعلم شوشة في التساؤل والألم والتأمل الحارق بعد موت زوجته الشابة أثناء الوضع.لم يجد أي عزاء لا في التأمل ولا في التفكير ولا في التصبر والتأسي.
(-أمك. ياما سهرت الليالي أسألك نفسي، وأسأل السما والنجوم، وربنا: ماتت ليه! وعشان إيه؟ لكن ما كنتش بلاقي جواب. ما كنتش بلاقي سبب. غير أن الموت بلا سبب. زي الحيا. ليه بنتولد ؟. وليه بنموت ؟ مين يعرف!) (6)
لقد هز الموت المفاجئ والقاصم، شوشة الدنك مثلما هز جلجامش حين مات خله وصديقه أنكيدو:
(…فأفزعني الموت، حتى همت على وجهي في البراري.
إن النازلة التي حلت بصاحبي تقض مضجعي.
آه، لقد صار صاحبي الذي أحببت ترابا !
وأنا سأضطجع مثله، فلا أقوم أبد الآبدين!
فيا صاحبة الحانة، أيكون في وسعي ألا أرى الموت الذي أخشاه، وأرهبه؟) (7)
ولم يجد السلوى في الصبر ولا العزاء في التأسي، وبقي حبيس مأزق وجودي،لا يعرف كيف ينعتق من إساره.
(وحاولت أنا الصبر والتجلد واستعنت بالصلاة وبالقرآن ووضعت آيات الصبر نصب عيني أقرؤها في كل غدوة وروحة، ولكن الصبر كان متعذرا والوجيعة جاثمة على القلب تأبى فراقه.) (8)
ومهما تأسى وتصبر، فإنه لا يسلم من الحيرة والتيه والذهول؛ ولم يشرع في إدراك الحقائق وتقبل الحكمة العملية إلا بعد احتكاكه ومحادثاته وتأثره بشحاتة أفند ي.ولم يكتف بالتقبل النظري لحكمة شيخه، بل انبرى – حتى بعد ترقيه الاجتماعي بعد تكليفه بإدارة كشك الماء –لاختبار قدرته على مجابهة الموت، من خلال المشاركة في تشييع الجنازات والمشاركة في التغسيل والتكفين والدفن.
وكما كان موت شحاتة أفندي، المبتهج والمحتفل بالحيا ة،”مفاجئا”، فقد كان موت المعلم شوشة الدنك ،المصر بعد فهم الموت وترويض خوفه المزمن منه على الابتهاج وتجاوز أعطابه الوجودية ومخاوفه الميتافيزيقية ، مفاجئا من منظور المتأمل المحايد طبعا .
3- قناعات الحكيم الأبيقوري (شحاتة أفندي)
كان شحاتة أفندي، مرشد المعلم شوشة وموجهه في درب الإشكاليات الوجودية الكبرى. فخلافا للمعلم شوشة الموزع للماء وهو مسكون بالموت وهواجسه، كان شحاتة أفندي، الأبيقوري العاشق للحسن والجمال والمقبل على اللذات الحسية، والمفتون بقوى الحياة، يحترف تشييع الجنازات.
وفيما يظهر المعلم شوشة كثيرا من الضيق والجزع من أخبار الموت والموتى، فإن شحاتة أفندي، المتمرس بالجنازات وفضاءات الجبانات وطقوس الدفن، يبدي كثيرا من المرح الساخر حين يخبر المعلم شوشة بمهنته وخبرته الجنائزية.
(الواحد منا يلبس البدله الرسمي اللي حيلته ويلبس الفوطة الحمرة اللي زي فوط بتوع العرقسوس على وسطه.. ويمسك في ايده المنقد أو القمقم ..ونزف المرحوم لغاية التربة .. يعني بالعربي تقدر تعتبرني زي صبي العالمة.. بس هيه بتزف الذي لن يرحم، و أنا بزف المرحوم، هيه بتزفه لقلبة الدماغ.. وأنا بزفه لراحة البال .. ) (9)
من شروط الحكمة –حسب شحاتة أفندي التخلي عن الأوهام (الغرور والتوهمات والمقام الاجتماعي والعجرفة) وتحرير الذات من الارتهان إلى الآخرين، وترويض الموت، والتمتع دون الإساءة إلى الآخر، وتقدير وتثمين القيم الكبرى (الصداقة والنبل والمروءة) والاحتفاء بالجسد.
(وهو [يقصد الإنسان] لذلك يكره الموت ويأبى قبوله كنهاية محتمة ويأبى إلا إحاطته بأوهام كريهة .. ويرفض تعوده، وترويض نفسه عليه.
إنها مسألة ترويض وتعويد لا أكثر ولا أقل.) (10)
وخلافا لشوشة المتزهد بعد رجة الموت، فإن شحاتة أفندي يحتفي بالجسد ولذاته، ويحتفل بالمتع الحسية احتفالا كبيرا.
(إن كيان الإنسان وتصرفه ومشاعره ورغباته وملذاته وآلامه .. منعكسة من الجسد ،هو يشتهي لأن جسده يشتهي ،وهو ينعم بالملذات لأن جسده يرغبها،وهو يعشق لأن جزءا من جسده أبصر جزءا من جسد آخر.. )(11)
تنص حكمة شحاتة على الابتهاج واقتناص اللذات دون الإضرار بالآخر، وتثبيت أولوية الحياة في الذهن والوجدان والشعور، وقبول سريان الموت دون مساجلات مطولة عن المعنى أو الجدوى. إن حكمة شحاتة أفندي حكمة عملية في المقام الأول، لا تستغرق في التفكير في شروط الإمكان ومسوغات الفعل بقدر ما تحض على العمل أي على الابتهاج بلا تحسر ولا تململ ولا أمل.
-II ذكاء التأويل وإشراق الرؤية في فيلم السقا مات-1977
كيف قرأ السيناريست محسن زايد و أول رواية “السقا مات “؟هل أفلح في صياغة أفكارها وإيحاءاتها، سينمائيا ونقل عالمها المحزن والمأساوي تارة والفرح والجذلان والساخر تارة أخرى إلى فضاء السينما الوسيع ؟هل تمكن المخرج صلاح أبو سيف ، من إيجاد المعادلات البصرية لإشارات وأبعاد الرواية، نظير ما صنع في ” القاهرة 30″ ؟
كيف استثمر الإفادات والمعطيات الإثنوغرافية والأنثروبولوجية والوثائقية الواردة في الرواية؟ هل تمكن من استثمار ما يحبل به نص الرواية من مفارقات (التفكير في العشق والغرام أثناء تشييع الجنازة ) وطرافة ( طرافة الشيخ سيد الخولي، مخزن المخدرات المتحرك / تفكير شحاتة في طبخ المخاصي وإعداد البهريز والعطارة وبقية التحابيش أثناء انتقال موكب الأفندية إلى مدفن المجاورين) وفكاهة وسخرية (سخرية من الذات بخاصة ومن عنجهية وغرور الإنسان بعامة ) ؟
قدم السيناريست محسن زايد، بكل تأكيد، تأويلا متناسقا ومتماسكا لرواية ” السقا مات”؛ وتركز هذا التأويل على تمكن السقاء شوشة الدنك /عزت العلايلي من التحرر من سطوة وهيبة وانبهام الموت، ومن أطياف الذاكرة وإقباله مجددا على الحياة. وقد تمكن من استنقاذ نفسه من هواجس الموت ومن قبضة الأسئلة الميتافيزيقية عن معنى وعدالة وجدوى الموت، بفضل تشربه حكم شحاتة أفندي/ فريد شوقي، وحرصه على الاحتكاك المباشر من خلال مسارة شاقة، نفسانيا ووجدانيا وذهنيا، بعالم الموت والموتى.
قدم السيناريست محسن زايد، إذن، تأويلا ذكيا ومتماسكا لرواية” السقا مات”؛ ويقوم هذا التأويل على أربعة مرتكزات:
1- إعادة ترتيب الأحداث
قام السيناريست محسن زايد بإعادة ترتيب الأحداث ،لإبراز السمات المميزة للشخصيات وتأجيج حدة الصراع الدرامي وتحقيق انسجام المادة الدرامية المختارة .فمن البين ، إذن ،أنه عمل على استبعاد كثيرا من التوصيفات والإفادات والمعطيات الأنثروبولوجية والتاريخية والإثنوغرافية وبعض الأحداث ( زيارة شوشة الدنك و شحاتة أفندي للمولد وما تخلل ذلك من مشاهدات وانتقادات للذهنية العرفانية الشعبية ومشاركتهما في طقوس الذكر/ إهداء شحاتة الناي لسيد /تنظيم المدرسة – الكتاب / حكاية الحريق المزعوم في المدرسة -الكتاب / فرجات المولد/ طقوس الحمام …إلخ ).
وقد جرى الحوار الطريف والدال-في الرواية -بين شوشة وسيد عن الأمانة والسرقة والعدل والنعم أمام باب” السراية الكبيرة”، قبل تعرفهما على شحاتة أفندي في مسمط الحاجة زمزم. أما في الفيلم، فقد جرى ذلك الحوار بينهما أثناء زيارة شحاتة أفندي إلى بيت شوشة لرد الدين.
توفق السيناريست في اختيار الفضاء المناسب لتقديم صرخة المعلم شوشة/عزت العلايلي ضد الموت والخوف منه. فقد اختار فضاء الجبانة، وأوان دفن شحاتة أفندي، لتقديم صرخة شوشة/عزت العلايلي المكلوم ضد جبن الموت واحتياله في اختطاف الحيوات في غفلة من الناس، الغافلين عن الحقائق الكيانية الكبرى. والواقع أن تأملات شوشة الصارخة، لم تكن-في الرواية -إلا هواجس داخلية، استعرت في دواخله وهو يرقب النجوم، وينتظر حلول النهار لدفن جثة شحاتة أفندي.
(أيها الموت .. أنت نذل جبان .. لا تأخذ إلا على غرة .. تبدو بعيدا نائيا .. وأنت كامن وراء تلك السكين أو هذه العصا،أو أسفل هذه النافذة ،أو في تلك اللقمة.) (12)
وقد ساعد الفضاء بقتامته ووساعته ورمزيته ،على شحن صرخة المعلم شوشة/ عزت العلايلي بقوة تعبيرية ونفس درامي ، لا يوفرهما فضاء البيت المعزول في الرواية .
(ماله يعبث بنا كل هذا العبث؟! ماله لا ينقض فيريحنا من عناء الانتظار!! ماله يتركنا حيارى ضالين نحس به ولا نراه، نوقن من وجوده. ولا نوقن من حدوثه!! ماله يبدو كالشبح أو الوهم .. وهو حقيقة واقعة !! ماله يقبل متخفيا مستترا فلا نراه إلا وقد أطبق علينا، وهو أبعد ما نتوقع!) (13)
وهكذا تحولت الهواجس الداخلية، والصرخة الوجودية المكتومة في الحنايا، إلى صرخة مدوية في رحاب الجبانة، وتطهر -ولو مؤقت -من ألم وحس فجائعي، سكنا دخيلة المعلم شوشة / عزت العلايلي منذ عشر سنوات.
خلافا للرواية، تم استحضار علاقة شوشة بحبيبته وزوجته آمنة/ ناهد جبر وموتها، عن طريق الفلاش باك في مفاصل درامية كثيرة. ففيما باح المعلم شوشة بمكنونه لسيد في الحمام في سياق مسارة مكتملة، فإن الفيلم أكثر عبر الفلاش باك، من استحضار الماضي العاطفي لشوشة / عزت العلايلي ودواعي ارتباطه الوجداني القوي بآمنة/ناهد جبر. كان اختيار الفلاش باك، ضروريا،لتوضيح المساقات والسياقات النفسانية والاجتماعية للسرد،ولشحن الحالة ( التأملات والانفعالات والمجابهات) بنفس درامي قوي ومؤثر. وكان التأكيد على قوة الحب المصحوب بالتضحية والبذل والعطاء وتحدي المثبطات الاجتماعية ( إشراف آمنة على تطبيب شوشة /طردها من السراية /تكفلها بإمداد المنازل بالماء في أوان مرضه .. إلخ)، ضروريا لتسويغ تمسك المعلم شوشة -بعد موت المحبوبة -بعزلته وانقطاعه عن تفاعلات وتجاذبات الحياة.
وقد استوجبت إعادة الترتيب، إحداث بعض التغييرات اللازمة لتماسك وتناسق البناء الدرامي المعتمد.
وفي هذا السياق، تم حذف كثير من الوقائع والمواقف، غير المتناسقة مع مجرى السرد الدرامي، أو غير المتوافقة مع الرؤية المعتمدة في سبر واستكشاف عالم الرواية.
وقد ارتدى المعلم شوشة – في الرواية – بدلة وفوطة شحاتة أفندي وحمل المجمرة، وتقمص دوره كاملا، من باب التكريم والتعظيم، قبل أن يحتك بالأفندية، مشيعي الجنازات.
(وقال” شوشة” مفسرا عمله:
-لا مؤاخذة يا جماعة لازم نكرم الراجل شوية.. دا طول عمره واخد على الجنازات الأبهة .. وطباخ السم بيدوقه.. يا للا بينا) (14)
لقد ارتدى شوشة بدلة شحاتة أفندي، تكريما للمتوفى. وقد قبل اقتراح هلال خلف الله هلال بالمشاركة في تشييع جنازة ،لا للحصول على المال كما أغراه الأفندي بذلك ،بل لقهر خوفه من الموت ،بعد انهياره المفاجئ حين اصطدم بالجمجمة في المقبرة.
(كان يفكر فيها على أنها فرصة أخرى لدخول معركة ثانية مع الموت ورهبته.. لقد خسر الجولة الأولى، وها هي تسنح له الفرصة لجولة ثانية وثالثة ورابعة … إن الزمن معه وهو لا شك منتصر.) (15)
مما لا شك فيه، أن التأويل المعتمد، أستبعد كثيرا من تفاصيل ومعاني وأبعاد مسارة المعلم شوشة الجنائزية. ويرجع هذا الاستبعاد المقصود إلى ثلاثة اعتبارات:
-اعتبار إنتاجي –تداولي: لا يمكن من منظور إنتاجي وتداولي، الإكثار من التفاصيل حول الموت والتكفين والدفن ومنظر الجثث بعد التحلل، في أوان إنتاج وتوزيع الفيلم. ومن المحقق، أن الذائقة العامة، لا تقبل بيسر أفلمة إشكاليات ودقائق الموت وعالم الجنائز. وفيما تنفتح على عوالم الميلودراما، فإنها لا ترحب -كثيرا-بالمنظور المأساوي والحس التراجيدي العالي.
-اعتبار تأويلي –فكري: لا يتسق التوسع في وصف تطور خبرة المعلم شوشة الجنائزية، مع التأويل المعتمد في الفيلم؛ وهو تأويل خاص لا يتبنى منظور الرواية الكلي ولا رؤيتها الفكرية – الفلسفية الكلية.
-اعتبار تقني: يفرض الاستكشاف البصري لعالم الجنازات والجبانات، خبرات وقدرات ومهارات تقنية خاصة ،تتيح التقاط الجوهري دون خلق حالة رعب لدى التقني أو الممثل( تهرب فريد شوقي من تصوير أحد المشاهد الجنائزية في الجبانة في فيلم ” السقا مات ” ،حسب ما أورده عزت العلايلي ) أو المتلقي بعد ذلك.
وقد حصر التأويل المعتمد سيد/شريف صلاح الدين في عالم الطفولة الغافلة عن المأساة، والمندمجة بسلاسة في إيقاع الحياة الشعبية (العبارات والصياغات المسكوكة، والشغب الطفولي، والمقالب، واللعب، والولع بالأكل، والمناكفات والمنافسات والمكايدات والمرددات الجماعية… إلخ). ولم يدرك، حتى في لحظات الارتجاج (موت شحاتة / ومكاشفة الحمام)، جوهر المأساة، خلافا لسيد المحاط من كل جانب بالموت ورموزه وألغازه وتحدياته في الرواية.
لقد أبدى سيد/شريف صلاح الدين في الفيلم، تشاؤمه الكبير من بدلة شحاتة وقام بإحراقها، في إعلان صريح عن استقالة وانقطاع الأب الكلي عن تشييع الجنازات، فيما قام سيد في الرواية –بارتداء البدلة السوداء، تكريما لأبيه، وإظهارا لنجاح مسارة الحمام.
ليس الحمام مجرد فضاء للتطهر والنظافة الفيزيقية بل هو كذلك فضاء مثالي للتطهر الفكري والروحي وإنجاح المسارة في الرواية. ولايرتقي بوح وكشف المعلم شوشة/عزت العلايلي عن تفاصيل علاقته بآمنة / ناهد جبر وظروف موتها وولادة سيد في الفيلم ،إلى منزلة المسارة. إن المسارة مشروطة في العمق ، بإدراك معنى المأساة ،و معرفة الترياق الشافي من هواجس الخوف. و الحال أن سيد / شريف صلاح الدين ،بقي مغمورا في عالم الطفولة والسقاية ولم يتشرب قط حكمة شحاتة أفندي،أي مأساوية الحياة ودونية الإنسان وقبول الموت دون التخلي عن المتع.
وتذكرنا حكمة شحاتة أفندي، ولو جزئيا، بفكر باروخ سبينوزا.
(فالإنسان الحر، أي الذي يعيش حسب أمر العقل وحده، لا يقوده الخوف من الموت (حسب القضية 63)، لكنه يرغب في الخير مباشرة (حسب لازمة القضية نفسها)، أي يرغب (حسب القضية 24) في الفعل والحياة والحفاظ على وجوده حسب المبدإ القائل بوجود البحث عما هو نافع لنفسه، وبالتالي فهو لا يفكر في شيء أقل من التفكير في الموت؛ لكن حكمته هي تأمل الحياة.) (16)
2- التركيز على مسارة السقاء شوشة
ركز السيناريست محسن زايد على مسارة السقاء شوشة الدنك /عزت العلايلي، و انتقاله الصعب ، نفسانيا وفكريا ووجدانيا ، من دوائر العزلة والوحدة و الحيرة الوجودية ،إلى دوائر الفرح والابتهاج ومحبة الحياة .وكان لقاؤه غير المنتظر بشحاتة أفندي/فريد شوقي ،فرصة لمراجعة الذات، وإعادة النظر في عزلته واعتزاله الحياتي ،والخروج من إسار فواجع ومأسي الماضي.ولم يكتف بتمثل تأملات وأفكار وتجارب شحاتة أفندي ،حول الموت ومعناه ،بل حرص كذلك على تشييع الجنازات رفقة مشيعيين محترفين ،والتمرن –عمليا –على قهر الخوف وتحقيق الاطمئنان النفاسي والسكينة الوجدانية والمصالحة الذهنية مع العالم والحياة.
من البين، أن السيناريست محسن زايد ألغى كليا، مسارة الطفل سيد/ شريف صلاح الدين، وما ترتب عنها من تحولات شعورية وفكرية ونفسانية.
لقد خبر سيد الدنك الخوف من الموت-في الرواية-، وخاف من تحقق نبوءة أقرانه من الصبية.
(-بخاف عليك .. أنا بقالي جمعة والولاد في الكتاب كل ما يشوفوني يتلموا علي ويقولوا لي: أبوك السقا مات ،بيمشي في الجنازات ،حايحصل الأموات . ) (17)
كان من الضروري، إعادة توظيف بعض مفاتيح الرواية، بحيث تتفق مع المنظور الجديد المتبنى. وهكذا، أدمجت بعض مرددات الصبية ضمن الشغب الهادف لإغاظة واستثارة سيد/ شريف صلاح الدين؛ والحال أنها مفاتيح / توقعات وظيفية ذات بعد تنبئي في الرواية.
( أبوك السقا مات
بيمشي في الجنازات
ويوصل الأموات
أبوك السقا مات .) (18)
إن موت السقاء شوشة حتمي من منظور الرواية، للاعتبارات التالية.
– اعتبار البعد المأساوي بعدا مركزيا في الحياة الإنسانية. فحيث إن الموت غير قابل للتعليل (موت الأم الشابة أثناء الوضع / وموت شوشة بعد تهدم البيت في أوان احتفائه بالحياة /موت شحاتة أفندي ساعات قبل تحقق الوصال بالغانية المعشوقة عزيزة نوفل)، والشروط الاجتماعية للعدالة غائبة (سطوة المعلم علي دنجل والحاجة زمزم)، والإنسان مسكون -عمقيا-بالأوهام والغرور (مآل الرجل الكبير بعد الموت)، فلا محيد عن التمييز بين الممكن والمستحيل، واختيار الابتهاج والمتعية بديلين وجوديين.
-إنجاح مسارة سيد الدنك .لا يمكن أن تنجح مسارة سيد ،دون أن يستبطن ويستدمج ويتبى منظور أبيه شوشة للموت ،وأن يتجاوز إطار البداهة والغفلة الوجودية ،وأن يقتنع بالبعد المأساوي لحياة الإنسان (ارتداؤه الحلة السوداء وترديده لكلام أبيه عن الموت وكيفية ترويضه).
لقد تماهى سيد مع خطاب أبيه، وبرهن على يقظته الذهنية والوجدانية والفكرية بعد أن خاب أمله في العدل وسيادة العقل.
لم يبرز السيناريست محسن زايد بعمق دواعي انخراط شوشة في طقوس تشييع الجنازات، وإصراره رغم قساوة التجربة على تكرارها. والواقع أنه يصر رغم كل الإخفاقات على إتباع نهج شحاتة أفندي في فهم الموت وقهر الخوف منه. فلم يكتف في الرواية، بتشييع الجنازات وحمل المبخرة فقط بل نزل إلى المقبرة، وعاين تحلل الجثث، وحاول مرارا، تجاوز الهالات والتهويلات والهواجس الحافة بالموت في المخيلة الشعبية.
(..أزيلت عن عينيه غشاوة الوهم ..فنفذ ببصيرته إلى الحقيقة العارية .. وكشف عن روعته الزائفة وروض نفسه على قبوله، كأمر طبيعي.
لقد بات يحتقر الموت، ويحتقر –أكثر منه –الحياة.) (19)
3- إغناء المسارات الدرامية الفرعية
أبان السيناريست محسن زايد عن ارتهان المعلم شوشة الكامل إلى ذكرى زوجته آمنة/ ناهد جبر، وانطوائه على الذات، رغم محاولة عزيزة نوفل/شويكار استثارته وفتنه. كما أضاف رغبة زكية/ بلقيس، ابنة المعلم الخشت/ محمد أبو حشيش، في الاقتران به، وسعيه المقرون بسوء التفاهم إلى خطبتها، بعد اقتناعه –غب محاورة أولى مع أم آمنة / أمينة رزق ومحاورة ثانية مع شحاتة أفندي حول جدوى ومعنى العيش ولا جدوى الزهد –بالخروج من عزلته وانقطاعه عن الصلات والمباهج.
لقد أبرز السيناريست هنا، ارتهان المعلم شوشة/ عزت العلايلي الكلي إلى ذكرى زوجته ،ورفضه التام لبناء صلات متجددة ،رغم إعجاب نساء جميلات به ،قبل اقتناعه بتغيير مساره الحياتي بتأثير جلي من مشيع الجنازات البهيج .كما أبرز مفعول الزمان فيه ،وذهوله من فرط الانطواء على الذات عن أمارات التحول والانحدار( طمس معالم المرآة).كان الإخفاق التام في خطبة ابنة المعلم الخشت/ محمد أبو حشيش ،سببا في اكتشافه المتأخر ،لتسارع الزمان واتساع الفوارق بينه وبين الشباب المتمتع بالشباب والفتوة والكفاءة المادية ( إبراهيم ابن أحمد الفكهاني .)
4- تقديم رؤية متفائلة
وبما أن السيناريست محسن زايد ألغى مسارة الطفل سيد، وارتضى نهاية سعيدة للأحداث، فإنه أحدث تغييرا جوهريا في المنظور.لقد استلهم مسارة شوشة واستثمر بعض منعرجاتها وتحولاتها وقدم – ولو جزئيا بالطبع-رؤية شحاتة أفندي للموت والحياة والعلائق والصداقة؛ وألغى سياقها ومساقها ومسارها البعدي المتمثل في تجربة سيد مع الموت (موت شحاتة أفندي “المفاجئة” وموت أبيه المباغتة والمفجعة وخوفه من حديث شحاتة الطريف والفكاهي عن الموت والموتى ودور مشيع الجنازات) ورموزه ودلالاته.
لم يبرز التأويل السينمائي المقدم، جزع سيد من الموت ومن رموزه وعلاماته، وخشيته الفوبية من البدلة ومن مرددات الصبية.
(…ولكن لم تكد تصك أذنه كلمة” الجنازة” حتى استيقظت همومه ونكأت جراحه، واندفع إلى ذهنه في سرعة البرق معاكسة الصبية له وسخريتهم منه وأنشودتهم عن موت أبيه .. والصرة والحلة المشؤومة والقبور، وأحس بالدمع يصعد إلى مقلتيه كأنه مياه النافورة.) (20)
إن رؤية الرواية مأساوية في العمق (موت السقاء وصديقه المطيباتي)، وتراجيدية مادامت تقر باستحالة إدراك المعاني البعيدة للوقائع والحوادث والظواهر غير العقلانية (انتصار الشر والقسوة والصلف والجبروت / الحاجة زمزم، وهزيمة الخير/موت شوشة وشحاتة أفندي والأم آمنة/ موت الأب بعد أن صار شيخ السقائين). لا يبقى للإنسان، أمام استحالة الاطمئنان إلى تنظير أو تدبر عقلاني للوقائع والسلوكيات، إلا الإقبال على الحياة ومحبة مباهجها والتغلب على الهواجس والمخاوف، النفسانية والوجدانية والميتافيزيقية.
مما لا شك فيه، إذن، أن السيناريست محسن زايد، قدم المقترح العملي والحكمة البديلة المقترحة، وألغى التدبر النظري لمعنى ومغزى وكنه الحوادث.
لا ينهض الابتهاج العملي في الرواية على ابتهاج نظري أو على رؤية متفائلة مقرة بخيرية أو نبل الإنسان، بل على رؤية قاتمة وتراجيدية للشرط الإنساني. إن الإنسان منذور هنا، للفرح والبهجة واللذات، ليس لأنه خير ونبيل وعقلاني الفكر والسلوك، بل لأنه صلف يتناسى حدوده ولأنه مطالب بتجاوز أوهامه وترويض الموت.
(… إن الحياة حقيرة ،ولكننا من نفس معدنها ..كيف نعرض عنها ونحن أشد حقارة .. يا مشيع الموتى ما كان أقدرك على كشف الأحياء .. تالله ما سمعت أصدق من قولك: ليس هناك أحقر من البشر ولا أغفل. )(21)
ولئن ارتبطت الحكمة العملية، بتصور متشائم وسوداوي لمعنى الحياة ولمصير الإنسان في الرواية، فإن المعالجة المقترحة في الفيلم، غلبت الحكمة العملية وألغت التدبر أي المقدمات النظرية، المقدمة من خلال مسارين متداخلين ومتفاعلين ومتكاملين: مسار سيد ومسار أبيه شوشة.
(وفوجئ القوم وهم يرون قزما، يهرول في بدلة سوداء فضفاضة وطربوش قد غطى أذنيه وكاد يغطي عينيه، وقد اندفع يعدو حاملا القمقم، متخذا مكانة أمام النعش. ) (22)
ولئن أحرق سيد/شريف صلاح الدين البدلة المشؤومة في الفيلم، فإنه سيتماهى مع أبيه في الرواية، حين يرتدي تلك البدلة ويحمل القمقم،في جنازة أبيه ،ويبرهن عبر أقواله أنه برح نطاقات الغفلة والخدر الطفولي و أدرك دقة الوضع الوجودي للإنسان المنذور للموت.
(…. وقال في صوت هادئ وكأنه يردد قطعة محفوظات حفظها عن ظهر قلب:
-إني أود أن أكرمه .. كما أكرم سواه. وأنا لست حزينا ..إنه ليس بأول أب يموت .. ولا كنت بأول يتيم يفقد أباه. هذه أشياء تحدث كثيرا في الحياة، فيجب ألا ننظر إليها على أنها مآس قد خصنا بها القدر، يجب أن نعرف أن هذه هي سنة الحياة وطبيعة الأحداث فيها .. يجب ألا نعتبرها مفاجأة.) (23)
استلهم السيناريست محسن زايد الرؤية المقدمة في الفيلم من الرواية ،دون أن يراعي الرؤية المركبة والمعقدة ، فلسفيا ووجوديا ،المضمنة في منحنيات السرد وتأملات الشخصيات الرئيسية في رواية يوسف السباعي .إن الرواية قائمة على قبول البعد التراجيدي للحياة ،وتقبل الموت مهما كان ملغزا أو مبهما أو قاسيا ( كما في حالة الأم والأب)،والرضوخ لمنطق الحياة الخالي في الغالب من التماسك والاتساق ( تعيين مطيباتي الأفراح في إدارة حنفية الماء / غنى الحاجة زمزم وفقر المعلم شوشة / الموت المفاجئ وغير المتوقع ) ،والإقبال على المسرات والملذات دون إلحاق أدنى ضرر بالآخر و احترام موجبات القاعدة الذهبية .
وتذكرنا نظرة شحاتة أفندي، بقول طرفة بن العبد، في معلقته المعروفة.
(فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي.) (24)
ليس الابتهاج المصحوب بالتلذذ، إلا الجواب الوحيد والممكن لمأساوية الحياة و”حقارة” الإنسان. ومن البين، أن التأويل المعتمد في الفيلم أقصى البعد المأساوي، واحتفظ بالابتهاج وإمكان السعادة (ضحكة المعلم شوشة/عزت العلايلي وتأكيده على العدل في التعامل مع الناس أيا كان وضعهم الاجتماعي والطبقي بعد تكليفه بإدارة حنفية الماء).
ويمكن القول، بناء على ما سبق إن التأويل المقدم ذكي ومتسق، إلا أنه أقل توغلا في سبر عوالم التراجيديا الإنسانية وعمقا من الناحية الفلسفية والفكرية من أفكار وإيحاءات الرواية.
(لقد بت [شحاتة أفندي] أحتقر الموت و أحتقر أكثر منه ..الإنسان.
الإنسان حقير يا صاحبي إلى أقصى حدود الحقارة .. والعجب !!
إنه حقير ومغرور .. وغروره يعمي عينيه عن حقارته.) (25)
اللمسات الشرقية والعرفانية في الموسيقى التصويرية -III
ثمة تزاوج وتكامل كبير بين الصورة السينمائية والجملة الموسيقية كما صاغها فؤاد الظاهري في فيلم “السقا مات”. وقد اختار الظاهري المقامات والآلات الشرقية أو العرفانية الملائمة لأجواء فيلم متمحور حول الموت وقهر الخوف الاستحواذي منه ومن طقوسه ورموزه وعلاماته.
كان فؤاد الظاهري أقدر على النفاذ إلى الوجدان الشرقي، وأقدر على تحقيق التداخل والتفاعل والتكامل بين الموسيقات، وأدنى إلى التنويع والتعديد، تبعا لجو الحدث الدرامي وللأثر النفسي المرتقب لدى جمهور، ألف أفلام الحب والعشق والمغامرات لا أفلام الموت والفوات.
تمكن الظاهري من تشرب روح وموسيقى المكان، فقدم جملا وتنويعات موسيقية، ملازمة للصورة السينمائية كما صاغتها رؤية المخرج صلاح أبو سيف.
وقد راعى تنوع واختلاف الوضعيات والحالات الدرامية (الاستيهامات وأحلام يقظة شحاتة أفندي/ فريد شوقي /اكتشاف موت شحاتة /رؤية شحاتة أفندي لعزيزة نوفل/ شويكار لأول مرة قرب المقهى/؛) ولم يكتف بترجمة إيقاعية أو نغمية للصور السينمائية، بل عمق التعبير البصري من خلال تعبير نغمي وإيقاعي متلون ومعبر ومؤثر.
وهكذا استخدم باقتدار آلات الإيقاع الشرقية للتطريب في لحظات الانتشاء والاستيهام ولاستثارة اللاشعور وتغذية الوجدان في لحظات الاختلاج والاهتزاز والارتجاج الوجداني.
ولم يكتف بالانغام والايقاعات، بل وظف بلاغة الصوت البشري، في مفاصل درامية أساسية مثلما فعل في أفلام روائية أخرى. وهذا ما أكدته الفنانة والناقدة رانيا يحيي، صاحبة “فؤاد الظاهري ..مصرية الجذور وعالمية الإبداع”.
(ولا يمكن إغفال تأثير الصوت البشري لديه وقدرته الفذة على توظيفه بجودة فائقة في بعض أعماله، حيث عبر بالكورال عن أكثر من حالة وجدانية سواء بتعضيد الغناء لبعض الأفكار الموسيقية داخل العمل أو لإثراء التكوينات الآلية ببعد جمالي آخر باستخدام الفوكاليز أي الغناء بالآهات من دون كلمات محددة ذات مدلول لغوي.) (26)
وخلافا لموسيقى اندريا رايدر التصويرية ذات المنزع الغربي غالبا (اللص والكلاب / الشحات مثلا)، تميزت موسيقى فؤاد الظاهري، بشرقيتها البارزة، وجملها اللحنية المتناسقة مع أجواء الحدث الدرامي والمتفاعلة -عمقيا-مع أجواء العرفان.
-IVالتركيب
قدم المخرج صلاح أبو سيف ،عالم الحارة بكثير من الألق، في فيلم ” السقا مات” وعالم الطفولة بكثر من الحبور والجذل( اللعب والشغب والمرح الطفولي ) ،وتمكن عبر إدارة محكمة لممثلين أكفاء ومقتدرين ( فريد شوقي /عزت العلايلي /شويكار/آمنة رزق /حسن حسين / تحية كاريوكا /ناهد جبر… إلخ)،من تجسيد دراما سقاء / عزت العلايلي ،مسه الجزع والفزع والارتباع من هول الموت ثم حقق السكينة والهناءة بعد مسارة شاقة وقاسية بمساعدة شحاتة أفندي /فريد شوقي .وتمكن من الإفصاح عن المكنون وتجسيد التأملات والهواجس والإحساس بالأسر ( دلالة الشباك ) من خلال الفلاش باك ،والاستعادات الكاشفة عن المخبوء والمسكوت عنه .كما كشف عبر أحلام اليقظة و الاستيهامات ،عن مفارقات الإنسان( الحلم بالمتعة الحسية أثناء تشييع جنازة ).
وقد قدم السيناريست محسن زايد ،تأويلا حاذقا ومتناسقا للرواية ،ركز فيه على مسارة المعلم شوشة و أطوارها ومخاضاتها ومجاذباتها، وفصل بين البعد الجنائزي والرؤية المأساوية الملازمة لأفق الرواية .لم يعش المعلم شوشة /عزت العلايلي ،إلا فصلا مأساويا ،تلاه انفراج نفساني ووجداني ، بعد لقائه بالحكيم الأبيقوري / شحاتة أفندي .والحال أن منظور الرواية ،ينهض على مأساوية الوجود والحياة ،وعلى استحالة الفصل بين البعد الجنائزي والبعد المأساوي ، وعلى حتمية موت السقاء.
لم يبرز السيناريست الخلفيات الفكرية، لحكمة شحاتة أفندي، ورؤيته القاتمة للحياة والإنسان، فبدا إيجابيا تواقا إلى اللذات والمتع والمباهج، علما أنه يسلم-نظريا وفكريا-، بالمأساوية الملازمة للإنسان ووجوده، كما تجلى ذلك في محاورات الرواية.
اقتضى المنظور المتبنى، إذن، استبعاد الإشارات التأملية القاسية حول الإنسان، بنية وفكرا وسلوكا ومصيرا، وحذف مسارة الشاب سيد الدنك، وحصر الطفل سيد / شريف صلاح الدين في مدارات الطفولة الغافلة عن الموت وإشكالاته ونتائجه.
وما كانت مسارة الشاب سيد الدنك، لتنجح-في الحقيقة -لو لم يمت أبوه المعلم شوشة، ولم يتحقق توقع أنشودة الأطفال (حايحصل الأموات)، ولم ينبر سيد لارتداء الحلة السوداء وتكريم أبيه وترديد أفكاره حول الموت والحياة والمصير.
الهوامش :
(1) غالي شكري، معنى المأساة في الرواية العربية 1-رحلة العذاب، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثانية 1980، ص .81.
(2) يوسف السباعي، السقا مات، مكتبة مصر، ص.10.
(3) يوسف السباعي، السقا مات، ص. 27.
(4) يوسف السباعي، السقا مات، ص. 326.
(5) يوسف السباعي، السقا مات، ص. 180.
(6) يوسف السباعي، السقا مات، ص.296-297.
(7) ملحمة جلجامش، تقديم وترجمة: طه باقر، كتاب الدوحة، العدد 66، نوفمبر 2016، ص.97.
(8) يوسف السباعي، السقا مات، ص.307.
(9) يوسف السباعي، السقا مات، ص.179.
(10) يوسف السباعي، السقا مات، ص.186-187.
(11) يوسف السباعي، السقا مات، ص.186.
(12) يوسف السباعي، السقا مات، ص. 237.
(13) يوسف السباعي، السقا مات، ص. 237.
(14) يوسف السباعي، السقا مات، ص. 240.
(15) يوسف السباعي، السقا مات، ص. 246.
(16) سبينوزا ، الإتيقا ، ترجمة وتقديم وتعليق : أحمد العلمي ، أفريقيا الشرق ، الدار البيضاء ،المغرب ،2010،ص.302.
(17) يوسف السباعي، السقا مات، ص.295
(18) يوسف السباعي، السقا مات، ص. 282-283.
(19) يوسف السباعي، السقا مات، ص. 279.
(20) يوسف السباعي، السقا مات، ص. 294.
(21) يوسف السباعي، السقا مات، ص.236.
(22) يوسف السباعي، السقا مات، ص.328.
(23) يوسف السباعي، السقا مات، ص.328.
(24) أبو بكر الأنباري، شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، تحقيق وتعليق: عبد السلام محمد هارون، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الرابعة 1980، ص.193.)
(25) يوسف السباعي، السقا مات، ص.188.
26) رانيا يحيي، موسيقى فؤاد الظاهري: نغمات تتلألأ في سماء السينما المصرية، السينما العربية، العدد 3-4، صيف-خريف 2015،ص.92.