أسرار الرغبة الجنسية عند المرأة في فيلم Babygirl “بيبي غيرل”

هالينا راين هي أول مخرجة هولندية تحقق اختراقًا في هوليوود منذ بول فيرهوفن، الذي أخرج ستة أفلام طويلة في أمريكا بين عامي 1987 (و2000

كان أول أفلامها كمخرجة هو فيلم “غريزة” Instinct (2019)، وهو فيلم ناطق بالهولندية تم اختياره لمهرجان لوكارنو. بعد ذلك، توجهت إلى الخارج وصوّرت الفيلم كوميدي الرعب “أجساد. أجساد. أجساد” Bodies Bodies Bodies (2022)، ورغم أن الفيلم استخدم طاقمًا تمثيليًا شابًا نسبيًا وحقق نجاحًا متواضعًا، إلا أن هذا النجاح سرعان ما طغى عليه الاهتمام الكبير بفيلمها الثالث “بيبي جيرل” “الفتاة الطفلة” أو “بيبي غيرل”  Babygirl (2024) الذي فازت نيكول كيدمان بجائزة أحسن ممثلة عن دورها فيه في مهرجان فينيسيا السينمائي، وهو إنجاز نادر بالنسبة للأفلام التي يخرجها مخرجون هولنديون، حيث تم اختياره للمسابقة الرئيسية.

قبل أن تصبح مخرجة، كانت راين (مواليد 1975) ممثلة معروفة في المسرح الهولندي، وعضوًا بارزًا في فرقة المسرح الهولندية الرفيعة المستوى ITA (المسرح الدولي بأمستردام) تحت إشراف إيفو فان هوفه. وقد حصلت على العديد من الجوائز، وتحمل منذ عام 2017 خاتم “ثيو مان- باوماستر” وهو شرف يُمنح للممثلة التي تُعتبر الأبرز في جيلها في هولندا. ويحق لها أن تنقل هذا الخاتم لمن تختاره من خلفائها في الوقت الذي تحدده. ومع ذلك، غادرت راين المسرح حوالي عام 2018؛ وكان دورها كـ”إميليا” في نسخة ITA من “عطيل” آخر أدوارها المسرحية حتى الآن.

أما سجلها التمثيلي في السينما والتلفزيون، فهو أقل لفتًا من إنجازاتها المسرحية. ربما أشهر فيلمين شاركت فيهما هماGrimm  (من إخراج أليكس فان ورمرادم، 2003، وأعيد مونتاجه في 2019) وZwartboek (الكتاب الأسود، لبول فيرهوفن، 2006). وأثناء تصوير الفيلم الأخير، نشأت علاقة صداقة قوية بينها وبين بطلة الفيلم كاريس فان هوتن، وفي عام 2015 أسّستا معًا شركة الإنتاج Man Up، التي كانت تهدف إلى توفير أدوار أكثر وعدًا للممثلات. وقد انتهى تعاونهما في نوفمبر 2023، وتدير راين الشركة الآن بمفردها.

في مقابلاتها، ذكرت راين مرارًا أن فيلمBabygirl  استُلهم من أفلام الإثارة الإيروتيكية التي ظهرت في ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين. ويُعدّ فيلمها الثالث هذا استكشافًا معمقًا لـ”الأفكار المظلمة” التي تراود البطلة “رومي ماثيس” (التي تؤدي دورها نيكول كيدمان)، وسأتناول في هذا المقال طبيعة رغباتها الغامضة.

 إلى حد ما، يمكن اعتبار Babygirl امتدادًا معاصرًا لما يُعرف بـ”أفلام المرأة” من الأربعينيات، لكن بدلًا من التعبير عن “رغبة من أجل الرغبة”، فإن  Babygirl ذو طابع تحرري أكثر، ويقترب من دعوة سلافوي جيجيك: “استمتع بأعراضك”! (Enjoy your symptom!)

في كتابها “الرغبة من أجل الرغبة” The Desire to Desire، صاغت ماري آن دوان مصطلح “فيلم المرأة” لوصف فئة من الأفلام بلغت ذروتها في الأربعينيات. تفترض دوان أن هذه الأفلام، نظرًا لأنها تركز على بطلات نساء وتُقدَّم من وجهة نظرهن، فهي “موجهة بإلحاح إلى جمهور نسائي”. وغالبًا ما تتقاطع أفلام المرأة هذه مع أنواع سينمائية أخرى، مثل الميلودراما، والفيلم- نوار، وأفلام الرعب أو القوطية، وأحيانًا حتى الأفلام الموسيقية.

وبينما جادلت لورا مالفي في مقالتها الشهيرة بأن المرأة تُعرض كـ”موضوع للفرجة”، فإن دوان تقول إن بطلة فيلم المرأة تمتلك نظرة خاصة بها. ومع ذلك، فإن امتلاك النظرة لا يمنحها السيطرة. فحتى وهي “حاملة للنظرة”، تعاني البطلة من شعور مقلق بأن هناك خطأً في طريقتها في رؤية العالم.

في فيلم “ضوء الغاز”  Gaslight (إخراج جورج كوكور، 1943)، تصاب “بولا” (إنغريد برغمان) تدريجيًا بالجنون لأنها تبدأ في الشك في حواسها السمعية والبصرية. لماذا لا تجد بروشها في حقيبتها؟ كيف خفّ ضوء المصباح فجأة؟ في هذا الفيلم النموذجي من أفلام المرأة، يظهر شخص خارجي (جوزيف كوتين) ويقنعها بأنها ليست مصابة بجنون الارتياب، وأن زوجها (تشارلز بوييه) هو من كان يتلاعب بها عمدًا. بمعنى آخر، تصبح نظرتها ثابتة فقط بعد أن يتم “تصحيحها” من خلال نظرة ذكورية “عاقلة”.

وفيلم “الآن، الرحالة” Now, Voyager  (إخراج إرفينغ رابير، 1942) يقدّم شيئًا مشابهًا. طبيب نفسي (كلود راينز) يساعد البطلة “شارلوت” (بيتي ديفيس) على التحرر من سيطرة والدتها. صحيح أن البطلات في مثل هذه الأفلام التي تتناول “الخطاب الطبي” يمتلكن نظرة فاحصة، لكن ثقتهن بأنفسهن لا تنبع من داخلهن، بل من عيون الطبيب الذكر الذي يشخّصهن.

في مفهوم لورا مالفي حول “السينما السردية”، يكمن مأزق الرجل في ما إذا كان يجب عليه السعي لتحقيق هدف ما؛ فكل ما عليه هو أن يكتشف ما ينطوي عليه هذا الهدف أو الرغبة. على سبيل المثال، في فيلم “النافذة الخلفية” Rear Window  (ألفريد هيتشكوك، 1954)، يدرك “جيف” (جيمس ستيوارت) في النهاية أنه يرغب في الزواج من “ليزا” (غريس كيلي).

في المقابل، فإن “قصة الحب” في أفلام المرأة تكشف عقبات هيكلية. في فيلم “فنتازيا هزلية”Humoresque  (إخراج جان نيغوليسكو، 1946)، تخوض الثرية “هيلين” (جون كروفورد) علاقة عاطفية مع “بول” (جون غارفيلد)، عازف الكمان الشاب الموهوب. هيلين متزوجة، لكنها تُحدّق ببول أثناء أدائه في حفل موسيقي، ما يشير إلى رغبتها. إلا أن الفيلم يُظهر معركة “نظرات” بين هيلين ووالدة بول (روث نيلسون)، التي ترى أن هيلين تمثّل تهديدًا لابنها. تفضّل الأم فتاة تقليدية، من نوع “الفتاة الجارة”، زوجة لابنها، وترفض اهتمام هيلين الجنسي ببول، وتنتصر في معركة “النظرة”، باعتبارها تمثل القيم الاجتماعية السائدة.

في هذا السياق، يرمز ضعف بصر هيلين وارتداؤها للنظارات إلى أن رؤيتها “مشوشة”، بينما تتمتع نظرة الأم بـ”صلابة معرفية”: “هي ترى، هي تعرف”، ولذلك تُعرقل رغبة هيلين.

وبما أن فيلم المرأة لا يستطيع أن يمثل الرغبة الأنثوية بصورة ملائمة، ترى دوان أن هناك حاجة إلى “إنفاق إضافي في شكل موسيقى تصويرية”. فالموسيقى تتدخل حيث تتوقف الصورة، مشيرة إلى ما يتجاوز العقلانية. إنها تعمل كوسيلة للتعبير عن “عاطفة مفرطة”.

المخرجة هاليناراين مع نيكول كيدمان بطلة الفيلم

من جهة، يمكن للموسيقى أن تثير الرغبة الأنثوية، كما في فيلم “رسالة من امرأة مجهولة”Letter from an Unknown Woman  (ماكس أوفولس، 1948)، حيث تُسحر “ليزا” (جوان فونتين) من عزف “ستيفان” على البيانو. لكنها لا تستطيع ترك انطباع دائم عليه. وحتى عندما تكون مستعدة للتضحية بكل شيء لأجله (زواجها، وطفلها)، لا يبادلها المشاعر نفسها، ويتحدث إليها كما يتحدث إلى أي من عشيقاته.

من جهة أخرى، كثير من الشخصيات الذكورية في أفلام المرأة هم موسيقيون، ما يوحي بأن لديهم حساسية تمكنهم من احتواء الرغبة الأنثوية – لكن معظمهم أنانيون إلى حد يجعلهم غير قادرين على ذلك. في نهاية هذا الفيلم Letter from an Unknown Woman، يغمر الذنب “ستيفان” لأنه فشل في الاعتراف بليزا.

إن مفهوم “الرغبة من أجل الرغبة” لدى دوان، ينتهي إلى عدم التحقق: إما أن المرأة لا تعرف ما ترغب فيه، لأن الخيارات المتاحة ضمن المجتمع الذكوري محدودة وغير جذابة، أو أنها تواجه مقاومة شديدة عند محاولة تحقيق رغبتها، لأن الشخصيات المحورية في المجتمع تمنعها من الوصول إليها.

أي أنها ليس لديها مجال للتعبير عن رغبتها: فإما أن موضوع رغبتها غامض، أو أن الموضوع نفسه بعيد المنال بسبب متطلبات اجتماعية يصعب تجاوزها.

النهاية في كل منHumoresque  وLetter from an Unknown Woman هي نهاية مأساوية: حيث تنهي البطلتان حياتيهما بالانتحار.

نهاية أقل كآبة تحل على النساء في “الملودرامات الجنسية” في أواخر القرن العشرين، التي وصفتها ليندا روث ويليامز بأنها نسخة أكثر حداثة من أفلام المرأة. كان لفيلم  “9 أسابيع ونصف” 9 ½ Weeks (1987)  لإدريان لاين تأثير خاص على فيلم Babygirl فبطلته إليزابيث (كيم باسينجر)، التي طُلِقَت مؤخرًا، تشجعها صديقتها مولي (مارجريت ويتون) على نشر إعلان شخصي تصف فيه نفسها بأنها “شقراء جميلة وذات قوام ممشوق”. ومع ذلك، تلتقي إليزابيث برجل غريب لا يتحدث إليها في البداية ويفاجئها بهدية فاخرة، وهي شال فرنسي كانت هي نفسها قد وجدته غاليًا جدًا لتشتريه لنفسها. هذا الرجل، جون (ميكي رورك)، الذي يكسب رزقه عن طريق “شراء وبيع المال”، يظل غامضًا طوال الفيلم. يعطيها هدايا باهظة مثل ساعة فاخرة، لكنه لا يفعل ذلك دون أن يبدو حديثه غامضًا بعض الشيء: “هل تعلمي أنهم كانوا يهيبون الناس بصوت دقات الساعة؟”. في كل مشهد، يأخذ جون زمام المبادرة، كما نرى في مونتاج لمختلف اللقاءات. تبوح إليزابيث لمولي بأنها لا تستطيع فهم هذا الرجل: أحيانًا يكون كريمًا ومهذبًا، ولكنه أيضًا يتوقع منها الامتثال لطلباته غير القابلة للتفاوض. تتحول لحظات السعادة إلى مرارة وتقرر أن تتركه: “كنتِ تعرفين أنه سينتهي عندما يقول أحدنا ‘توقف’”.

القرار الوحيد المستقل لإليزابيث هو أن تودع جون. أظهرت الأسابيع التي قضتها معه أنه كان مهيمنًا ومتسلطًا، ويعتبر نفسه مغويًا يُطري على إليزابيث ويغمرها بالهدايا فقط من أجل إغوائها. ورغم أنه يقدم نفسه كرجل ساحر، فإنه يخبرها، في زيارتها الأولى إلى بيته، أنه قد يكون منحرفًا خطيرًا. “أنتِ حقًا لا تعرفينني؛ لا يوجد جيران هنا؛ لا توجد سيارة أجرة تنتظر على الرصيف؛ لا يوجد كشك هاتف خارجي؛ لا أحد سيسمعك إذا صرختِ”. هي تشعر بإغراء المغادرة فورًا، لكنه يطمئنها قائلًا إنه كان “يمزح فقط”.

في Babygirl، العلاقة بين الرجل والمرأة مختلفة تمامًا. رومي، المديرة التنفيذية لشركة التحكم في العمليات الروبوتية، تجد نفسها في علاقة عاطفية مع المتدرب الشاب صامويل (هاريس ديكنسون)، لذا من الناحية الاجتماعية هي أعلى منه في المرتبة.

يختار صامويل رومي مرشدة له في الشركة، وهو دور تقبله رومي على مضض. قد يبدو من غير المحتمل أن نرى رومي الواثقة (في العمل) تلعب دورًا خاضعًا في علاقة مع صامويل الخجول والمتحفظ، لكن هذا ما يحدث. Babygirl يعكس هوسًا موضوعيًا نموذجيًا في أفلام هالينا رين: خداع المظاهر.

كانت الفكرة الأساسية في فيلم “أجساد أجساد أجساد” Bodies Bodies Bodies  هي جعل الشخصيات والمشاهدين على حد سواء يتساءلون باستمرار عن هوية القاتل أو القتلة المسؤولين عن خمس وفيات متتالية بين سبعة شباب مجتمعين في قصر كبير أثناء عاصفة. في البداية، يشاركون جميعًا في لعبة صالون تُدعى “من هو القاتل؟”، لكن سرعان ما يتحول الفيلم إلى دراما رعب حقيقية، لأن هناك بالفعل من يُقتل.

جميع “الأصدقاء” يدّعون البراءة، لكن بعضهم يكذب أو يخفي معلومات. هذا شبيه بأفلام “من القاتل؟” التقليدية، ولكن بدون محقق يقود الجمهور نحو الجاني. في النهاية، يتضح أن الحادثة الأولى التي أطلقت سلسلة الأحداث كانت مجرد حادث غبي، حيث تسبب الضحية في إيذاء نفسه عن غير قصد أثناء مزحة.

وبالمثل، اعتمدت راين في فيلمها الأول Instinct على الغموض المتعمد. فالمشاهدون يُتركون دومًا في حالة تساؤل: هل ما نراه هو الحقيقة؟ في المشهد الافتتاحي، نُشاهد “نيكولين” (كاريس فان هوتن) وهي تُسحب بقسوة من قبل الحراس وتُلقى في زنزانة. لكن يتضح لاحقًا أن هذا المشهد مجرد تمرين تدريبي لفريق العاملين في مؤسسة إصلاحية، ونيكولين كانت تلعب دور “الضحية” كجزء من تدريب الموظفين وقد نُقلت حديثًا إلى هذه المؤسسة للعمل كمعالجة نفسية، وتُكلّف بالإشراف على “إدريس” (مروان كنزاري)، وهو مجرم جنسي خطر. تخبر زملاءها أن إدريس بارع في التلاعب، ويعطي إجابات “مناسبة اجتماعيًا” حتى يُسمح له بالخروج بإجازات بدون رقابة. لكن هناك إشارات تُظهر أنها قد تكون مفتونة به نوعًا ما.

على سبيل المثال، عندما يخبرها أن لديه ابنًا يعمل في سلسلة مطاعم KFC (وهو أمر غير مذكور في ملفه)، تذهب وتشتري له دلاء من الدجاج المقلي، وتندهش من حجمها، مما يشير إلى أنها لم تدخل هذا النوع من المطاعم من قبل.

في وقت لاحق، يقول إدريس لنيكولين: “هل تعلمين أن النساء لديهن تخيلات اغتصاب أكثر من الرجال؟”. إنه سؤال صادم ووقح، لكنه يتماشى مع تلميحات سابقة تجعلنا نتوقع أنها قد تؤمن بذلك، خصوصًا بعد مشهد سابق كانت فيه في علاقة عابرة مع زميل لها طلبت منه أن “يأخذها كأرنب صغير”، مما جعله يشعر بالحرج.

عندما يُمنح إدريس إجازة بدون رقابة، يطبّق الخيال بالقوة، ويقوم بتمثيل خيال الاغتصاب في منزل نيكولين. بهذا، يتجاوز حدودًا أخلاقية حاسمة، لأن حتى لو كان هذا خيالًا لديها، فإن تنفيذه قد يكون مهينًا جدًا للمرأة.

رد فعل نيكولين يأتي لاحقًا عندما تقوم بإغواء إدريس داخل زنزانته. يظن أنها وقعت في حبه، لكنها تضغط على زر الطوارئ، فيندفع الحراس ويأخذونه. هذه الانتقامية القاسية تطرح تساؤلات أكثر مما تُجيب.

في بداية الفيلم، علمنا خلال مقابلة التوظيف أن نيكولين عملت في مؤسسات مختلفة. فهل طريقتها تتمثل في التقرّب من مجرمين جنسيين ثم الإيقاع بهم؟ وإذا كان الإيقاع بإدريس خطة مسبقة، فهل هذا ناتج عن تاريخ شخصي؟ في مشاهدها مع والدتها (بيتي شورمان)، التي ترسل لها رسالة نصية بأنها “امرأة قوية”، نرى نيكولين بمظهر هش – وربما تحمل في طياتها صدمة من الماضي.

لكن هذه الخيوط المفتوحة تثير تساؤلاً إشكاليًا: هل اعتادت نيكولين أن تكون “ملاك الانتقام”؟ وإن كانت كذلك، ألا تشعر بالخجل من استغلال سلطتها على المرضى؟

في المشهد الأول من فيلم Babygirl، تظهر “رومي” في مطبخ شركتها، تطلب من أحد الموظفين أن يحضر لها قهوة، ثم تقوم بتعديل روبوت صغير لإغلاق باب الخزانة بطريقة أكثر سلاسة. يُبرز هذا المشهد كفاءتها واحترافيتها.

لكن بعد هذا الظهور الأول الواثق، تأخذ الأمور منعطفًا مفاجئًا: ففي الحمام، تبدأ بالبكاء بشكل هستيري. نكتشف أنها ليست كما تبدو، إنها امرأة تحاول جاهدة الحفاظ على مظهر السيطرة في العمل، لكنها تنهار وحدها بعيدًا عن الأنظار.

في وقت لاحق، نراها في شقتها الفاخرة في وسط نيويورك، تنظر إلى نفسها في المرآة وتُكرر بعض العبارات المحفّزة بصوت عالٍ، من نوع “أنتِ قوية، أنتِ تستحقين، أنتِ امرأة مستقلة”. هذه الطقوس تؤكد أن ثقتها بالنفس ليست طبيعية، بل شيء تحتاج لتأكيده باستمرار.

في نزهة مهنية مع المتدرب “صامويل”، نرى أن لديها قدرًا من القلق الاجتماعي؛ إذ تفكر مليًّا قبل أن تُخبره بأنها لا تأكل أي شيء بني اللون (نوع من الهوس الغذائي الذي يرمز إلى حاجتها للسيطرة).

حين يبدأ صامويل بمغازلتها، لا تستجيب على الفور، لكنها تبادر إلى تقبيله لاحقًا عندما يتوقف عن المحاولة. تبدأ علاقة جنسية بينهما، حيث يأخذ هو زمام المبادرة، ويبدو أن رومي مرتاحة بدور المتلقية. بل إنها تطلب منه في إحدى المرات أن يربط معصميها. في تلك اللحظة، يقول: “أنتِ تعرفين أنه يمكنني فعل أي شيء بكِ الآن، أليس كذلك؟”

ورغم أن هذه الجملة قد تكون تلميحًا لقوة جنسية، فإنها أيضًا تُلمّح إلى قابلية رومي للانقياد. وهذا مثير للاهتمام لأنه يتناقض كليًا مع صورتها المهنية. فهي، على ما يبدو، امرأة تستمتع بلعب دور “الدمية الصغيرة” – وهو ما يتجسد في عنوان الفيلم.

في أحد المشاهد، ترتدي زِيًّا يشبه ملابس الطالبات في أفلام البورنو، وتجلس على حضن صامويل بينما هو في مقعد المكتب، وتقول له: “هل كنت مشاغبًا يا أستاذ؟” وهي عبارة مقلوبة تمزج بين الإثارة والهزل.

لكن في نهاية المطاف، نكتشف أن العلاقة تتحول إلى شيء أكثر خطورة. فحين تشكّ رومي بأنه يصوّرها سرًّا، ينهار شعورها بالأمان. بل تُحاول لاحقًا أن تخنقه أثناء ممارسة الجنس، في لحظة ارتباك تام بين اللذة والخوف.

عندما تقول رومي في نهاية الفيلم لصامويل: “أريد أن أمتلكك”، تكون قد انتقلت من خضوعها لرغبة الآخر، إلى إعلان رغبتها الخاصة. إنها لم تعد “تريد أن يُراد بها” فقط، بل أصبحت تمتلك الرغبة بنفسها. وبهذا المعنى، تجسد دعوة الفيلسوف سلافوي جيجيك: “استمتع بأعراضك!” – أي، لا تخجلي من رغباتك الداخلية، بل عيشيها حتى النهاية.

في مقابلة، قالت راين إن الفيلم يدور حول امرأة “تتوقف عن الخوف من رغباتها”. رومي لم تعد تكبت ميولها أو تختبئ خلف واجهة من النجاح والاحترافية، بل تتصالح مع كل ما هو مشوش، وغامض، وغير عقلاني بداخلها.

في المشهد الختامي لفيلم Babygirl، تخرج رومي من غرفة صامويل، مغطاة بدمه، وتتجه مباشرة إلى المرآة. هناك تنظر إلى نفسها وهي اللحظة التي تنتقل فيها من التمزق الداخلي إلى نوع من التكامل. إنها لم تعد تحتاج لتأكيد قوتها عبر شعارات تُكررها، بل أصبحت ترى نفسها بوضوح، حتى لو كانت الرؤية صادمة، عنيفة، وغير مألوفة.

المرآة في السينما كثيرًا ما ترمز إلى الذات المنقسمة، لكن في هذا السياق، قد تمثل أيضًا “عودة الذات إلى ذاتها”، كما يشير الفيلسوف جاك لاكان في تحليله لمراحل تكوّن الهوية. إن رومي لا ترى في نفسها فقط امرأة غاضبة أو ضحية أو وحشًا بل ترى كل تلك الجوانب معًا، وتقبلها.

هنا ينسجم الفيلم مع دعوة جيجيك: لا تبتعدي عن رغبتكِ، بل استمتعي بها، حتى وإن كانت مربكة أو مرفوضة اجتماعيًا. فرومي لا تنتصر لأنها استعادت السيطرة على الوضع، بل لأنها اعترفت بأن الرغبة ليست شيئًا يجب كبحه أو فهمه بالكامل، بل عيشه بصدق.

بعد هذه اللحظة، تعود رومي إلى شركتها. وتبدأ إحدى الزميلات الصغيرات في العناية بها، تغسلها، وتجفف شعرها، وتمنحها دفئًا لم نره من قبل. تقول لها برقة: “أنتِ جميلة جدًا”.

في أفلام راين السابقة، كانت النساء غالبًا في حالة صراع أو ارتياب أو انغلاق على بعضهن البعض. لكن هنا، في النهاية، نجد لحظة من الرعاية الأنثوية الصافية – علاقة لا تقوم على الجنس، أو التنافس، أو السيطرة، بل على الاحتواء والقبول.

تُظهر الكاميرا لحظة اللمس كأنها نوع من الشفاء، وليس كنوع من الرغبة. وفي هذا السياق، يمكن اعتبار أن “الانهيار” الذي حدث لرومي لم يكن تدميرًا للذات، بل شرطًا لتحوّلها. أنها لم تعد ترى نفسها من خلال رغبة الآخرين، بل من خلال حقيقتها العارية.

بفيلمها الثالث، تُكمل هالينا راين مشروعًا بدأته في Instinct  واستمرت به في Bodies Bodies Bodies:  وهو مشروع يهدف إلى تفكيك السرديات التقليدية حول الرغبة الأنثوية. لكنها، في Babygirl، لا تكتفي بإظهار تمزق الذات، بل تقدم بديلاً دراميًا: امرأة تستعيد ذاتها ليس عبر رفض الرغبة، بل عبر امتلاكها والتصالح معها.

قد لا يكون هذا “نموذجًا” للرغبة الأنثوية، كما حذّرت ماري آن دوان من تبسيط الفكرة، لكنه حتمًا إعادة رسم للحدود بين ما يُفترض أن تريده المرأة، وما تريده فعلًا.

يبدأ فيلم “الغريزة” بلحظة عزل زائفة؛ ويبدأ “بيبي غيرل” بنشوة جنسية زائفة. رومي، فوق زوجها جاكوب، تلهث في نشوة ظاهرة. لكن الأمر ليس كذلك: فبمجرد أن ينام جاكوب المشبع، تنهض من سريرها وتفتح موقعًا إلكترونيًا على حاسوبها، حيث تمارس امرأة شابة الجنس العنيف مع “رجل” مُسيطر. هذه المرة، تصل رومي إلى نشوة جنسية حقيقية، مخفية الأمر عن زوجها.

يتضح أن رومي مثالية: تريد أن تكون عشيقة مثالية لجاكوب، وأمًا مثالية لابنتيها ومديرة تنفيذية مثالية. نسمعها تتدرب على إلقاء خطاب أثناء وضع المكياج: لا ينبغي أن يكون الأداء سلسًا فحسب، بل إنها دقيقة في اختيار العبارات والكلمات الطنانة المناسبة. تؤكد أن جاكوب قد أدخل مصطلح “الذكاء العاطفي”، مما يعني أنها تعتمد على المقربين منها لأداء عملها على أكمل وجه.

رومي تُجهد نفسها كل يوم لأقصى حد. لقد نجحت: الجميع من حولها يُقدّرونها، ومساعدتها (صوفي وايلد) تعتبرها قدوة. تُؤخذ رومي على محمل الجدّ لمنصبها القيادي، لكنها سلكت مسارًا مهنيًا غريبًا، كما نعلم من حديثها مع المتدرب صامويل. بعد تخرجها بمرتبة الشرف، عُيّنت في شركة استثمارية. كُلّفت بمهمة رياضية مستحيلة حول كرات تنس الطاولة، ولم تستطع حلها. كان هناك سؤال آخر يتعلق بشركة تعاني من مشاكل كبيرة، ولأنها لم تكن تعرف الإجابة هذه المرة أيضًا، قالت لهم: “لا بأس”. ثم، ربما بسبب ردّ فعلها العدواني، حصلت على الوظيفة. لاحقًا، أسست شركتها الخاصة.

تشير هذه الخلفية إلى أنها عُيّنت بعد تخرجها من الجامعة ليس بسبب موهبتها، بل بفضل اندفاعها المتمرد، أو ربما بسبب ردة فعلها البغيضة تجاه امرأة. تُلمّح إلى ذلك ببراعة عندما تُخبر رئيسها، خلال محادثة مُحرجة، أن “لحسن الحظ” أن أيام “الأمور” التي كانت تُعطى للناس قد ولّت. تشير روايتها إلى أنها تدين بنجاحها المهني لأمر يتجاوز قدراتها المهنية. فبالنسبة لشخصية مهووسة بالسيطرة ومتباهية، لا تعطي انطباعًا بأنها مخادعة بطبيعتها، ربما تشعر وكأنها محتالة: من أنا لأتولى هذا المنصب القيادي؟

يكمن وراء مظهرها الفولاذي خوف من أن يُكشف أمرها كدجالة، ويبدو أن صامويل هو أول من كشف زيف تنكرها.13


خلال محادثتهما التمهيدية التي استمرت عشر دقائق، والتي يمكن فيها للمتدربة طرح أسئلة على المرشد، اعتقدت رومي أنه يلمح إلى أنها متعطشة للسلطة. يتلعثم قليلاً، ويرد: “لا، على العكس… أعتقد أنكِ تحبين أن يُقال لكِ ما يجب عليكِ فعله”، ويضيف النص “يحمر خجلاً صامويل، مصدومًا من كلماته”.14

في مشهد سابق، عندما يعرض صامويل عليها مازحًا كعكة كلب، يذكر النص أنه رأى “ضعفًا غير متوقع في عينيها”.15 بعد ذلك بكثير، في منتصف علاقته مع رومي التي تتبنى فيها دور الخاضع، يسألها صامويل عما إذا كان “شخصًا سيئًا”، لأنه يخيف نفسه أحيانًا. ترد: “أنت شخص رائع. تشعر بالأشياء، وتعرف الأشياء – ما يريده الناس، وما يحتاجون إليه”.

تشير هذه المحادثة الرئيسية إلى أن رومي ليست مستقلة كما يعتقد الناس من حولها، وأن صامويل فقط لديه الحدس للاعتراف بذلك: فهي في وضع يسمح لها بإصدار الأوامر لموظفيها، وعلى الرغم من أنها تتصرف مثل المدير، إلا أن المتدرب قد خمن بشكل صحيح أنها (أيضًا) تحب أن يُقال لها ما يجب عليها فعله.

يستشعر صامويل حيرة رومي جيدًا، وهي حيرة تُبرزها حركة الكاميرا. يغلب عليها التوتر، مع كاميرا غالبًا ما تضطر للتركيز وهي تتحرك بقلق بين الشخصيات. ومن اللافت للنظر أن حركة الكاميرا تكون في أوج تألقها عندما تُقرب الصورة بهدوء من الأعلى من لقطة علوية، على سبيل المثال عندما تكون رومي شخصية صغيرة تسير إلى منزلها في شمال الولاية مع عائلتها تبدو من بعيد مرتاحة، لكن الكاميرا تُسجل شعورها بعدم الأمان من مسافة قريبة – وبالتالي، تنحاز الكاميرا إلى صامويل، الذي يشعر أنها ليست ركيزة الاستقرار.

في مشاهد شوارع مانهاتن القليلة، يُمكننا ملاحظة سلوكها المتوتر، الذي يُشبه سلوك روزماري (ميا فارو) خارج مبنى شقتها في فيلم “طفل روزماري” (رومان بولانسكي، ١٩٦٨) ومع تطور أحداث الفيلم، يتفاقم قلق رومي بسبب تعريضها مركزها القوي للخطر. وكما يذكر صامويل عرضًا: “مكالمة واحدة وتخسرين كل شيء، أليس كذلك؟” يميل صامويل إلى التقليل من شأن علاقتهما: “في رأيي، نحن كطفلين يلعبان”. لاحقًا، يُشبّه نفسه أيضًا بـ “فراخ الوقواق” التي “نشأت في عشٍّ غير مناسب وتسببت في فوضى.

على النقيض من ذلك، بالنسبة لرومي، الأمر جدّي، لأن المتدرب الحساس يمكّنها من التأقلم مع “الأفكار المُقززة” التي “زُرعت في ذهني”، سواءً خلال نشأتها غير التقليدية في المجتمعات المحلية أو منذ ولادتها. على أي حال، لم تستطع أبدًا التغلب على هذه التخيلات، وفشلت جميع أشكال العلاج. ومع ذلك، أيقظ حدس صامويل “نوعًا من الوحشية” بداخلها: إنه يعرف “كيف يكون جريئًا معي”.

في “9 أسابيع ونصف”، كانت العلاقة تسير في اتجاه واحد: كان جون الشخصية المهيمنة على إليزابيث. أما في “بيبي جيرل”، فالمسار مختلف ودائري تمامًا. بعد أن خمن صامويل بشكل صحيح أن رومي تريد أن يملى عليها ما يجب فعله، أصبح المتدرب أداتها العملية – الذي يُظهر أيضًا جاذبيته الجنسية، كما في رقصه المثير على أنغام أغنية جورج مايكل “Father Figure”  من عام ١٩٨٧، مع كلمات “سأكون معلمك الواعظ…”.

صامويل مستعد للعب دور السيد والقائد، لكنه لا يُصدر الأوامر من أجل مصلحته الخاصة – كما يفعل جون – بل من أجلها فقط. في الواقع، هو يفعل ذلك لأغراض علاجية؛ عليها أن تثق بأن مطالبه المتقلبة ستلبي تخيلاتها العصابية.16

بمعنى آخر، عليها أن “تستمتع بأعراضها”17 – سرًا، لأنه لا يُفترض أن يعرف أحد باتفاقها مع صامويل. فقط من خلال تمثيل هذه الخيالات يمكن أن تتحرر من الالتزام المفروض على نفسها بأن تكون “امرأة قوية وذكية، تتحكم في الأمور، وتعرف ما تفعله – محبة ورعاية ومسؤولة” – وصفها الذاتي في الاعتراف الذي قدمته في النهاية لزوجها بشأن العلاقة. وفي حين أن زوجها يأخذ مغامراتها الخفية بغضب على أنها “خيالات جنسية مثيرة للشفقة ومبتذلة”، إلا أنها ترد بالزعم أن تجربة خيالاتها المظلمة في الحياة الواقعية كانت “مثل طرد الأرواح الشريرة”ز

 اعتراف رومي لا يدفع جاكوب إلى الجنون فحسب، بل سيخضعه أيضًا لمحنة أخلاقية، والتي يمكن رؤيتها فيما يتعلق بأغنية البجعة لستانلي كوبريك Eyes Wide Shut (1999)، في وقت إصدارها تم الإعلان عنها على أنها وسيلة للثنائي المشهور آنذاك نيكول كيدمان وتوم كروز.

في فيلم “عيون مغمضة على اتساعها”، تسأل أليس (كيدمان) زوجها بيل (كروز) بعد حفلة ما إذا كان سيرغب في ممارسة الجنس مع عارضتي أزياء جميلتين كانتا هناك. يجيبها بالنفي، فمعظم الرجال كانوا سينتهزون الفرصة، لكن ليس هو، فهو كرجل متزوج لا يريد أن يجرح مشاعر زوجته. ترد أليس بتشكك على اقتراحه برفضه مراعاةً لها، ثم تروي خيالها عن ضابط بحري أثر فيها بصره بشدة. مع أن بيل كان في تلك اللحظة أعز عليها من أي وقت مضى، إلا أنها كانت أيضًا “مستعدة للتخلي عنك، عن طفلي، عن مستقبلي بأكمله”. لم يتحقق خيالها، لأن الضابط اختفى فجأة، لكن اعتراف أليس أربك بيل بشدة.

في ليلة مليئة بالمغامرات، يذهب بيل “في رحلة بحث عن الخيال” ويغرق في أحلامه، كما يذكر سلافوي جيجيك في قراءته لفيلم “عيون مغمضة على اتساعها”. يُواجه بيل “عالمًا سفليًا من الخيالات”18، لكنه يُصاب بالإحباط لعدم قدرته على فهم خلفية خيال أليس.  يشعر بيل بالارتباك الشديد، فتُقدم له أليس حلًا عمليًا للغاية لإنقاذه من الخيالات التي تُغرقه. علاجها لإعادته إلى العالم الحقيقي هو اقتراحها “بممارسة الجنس” (الكلمة الأخيرة في الفيلم). ويُعدّ ممارسة الجنس أفضل حل لبيل للبقاء مستيقظًا وللسيطرة على سيل من الخيالات الجامح.

إذا قارنا فيلم “عيون مغمضة على اتساعها” بفيلم “بيبي غيرل”، فمن اللافت للنظر أن اعتراف أليس بخيالها عن الضابط البحري كان سردًا بليغًا قُدّم دون أن ترفع صوتها.  ولأنه صُيغ ببلاغة، فإنه يُحيّر بيل: فهو يُريد فهم منطق خيالها، لكنه لا يستطيع.  في المقابل، تجد رومي صعوبة في التعبير عن نفسها أثناء اعترافها لجاكوب.  يذكر السيناريو أنها “تواجه صعوبة في نطق الكلمات بصوت عالٍ” وأنها “تفتح فمها، ولا يخرج شيء”19 وتقاطع جملها الخاصة.

يسألها جاكوب مرارًا وتكرارًا عن بدائل “ماذا تحاولين أن تقولي؟ ماذا تقصدين؟” تريد رومي التعبير عن “أسرارها العميقة” 20 ولكن بعد أن اجتازت تخيلاتها العصابية، اقتربت من الخضوع لما يسميه جاك لاكان “العوز الذاتي”: إذا اقترب المرء من تخيلاته المظلمة عن كثب، فإنه يواجه محو الذات، وهذا يؤثر على (وضوح) كلامه. تتحدى تجاربها التعبير الرمزي لأنها عاشتها في علاقة غير مشروعة.  اعترافها للرجل الذي تربطها به رابطة قانونية ورمزية هو طريقتها لاستعادة الدعم في الدائرة الاجتماعية.  لقد “حرّرها” صامويل – لكن الحرية، كما أكد جيجيك في كتابه “استمتع بأعراضك!”، “خانقة لا تُطاق” عندما تفتقر إلى مثل هذا الدعم، لأن رجلاً مثل صامويل، بالمعنى الدقيق للكلمة، هو سيد “غير شرعي” (يمكن طردها بسبب هذه العلاقة، كما أشارت.  من الأفضل لرومي أن تنتقل من “الحرية” إلى “التحرر”، على حد تعبير جيجيك، لأنه كما يزعم، “لا شيء يُحرّر بقدر سيد صالح، لأن “التحرر” يكمن تحديدًا في إلقاء العبء على الآخر/ السيد” 21 الآن، يعود الأمر إلى جاكوب ليغفر لها، وبالتالي “يحررها”، لكنه لا يستطيع، لأنه يمر بنوبات غضب عارمة.

بعد أن ترحل زوجته، التقى جاكوب برومي مجددًا في منزلهما شمال الولاية، ولكن لدهشته، كان صامويل هناك أيضًا وتنشب مشاجرة ويصاب كلاهما بكدمات.  يصاب جاكوب بنوبة هلع، ولكن بما أنه لا يريد مساعدة رومي، يطمأنه صامويل. يعتذر الشاب وينصرف – وكانت تلك آخر مرة يراه فيها، لأن صمويل سيذهب للعمل لدى كاواساكي في طوكيو.

تبقى رومي وحيدة في المنزل شمال الولاية حتى طلبت منها ابنتها إيزابيل، البالغة من العمر ستة عشر عامًا، العودة إلى المنزل. “أبي يحتاجكِ. يرفض مغادرة المسرح، لا يأكل، يقرأ الإنجيل. سيغفر لكِ”. عند عودتها، يتخذ جاكوبدورًا مهيمنًا أثناء ممارسة الجنس.  بفضل علاقة زوجته مع صامويل، ينجح في تجاوز ظله وتجاوز محنة الشدائد، ويمكنه الآن قبول منافسه الشاب كقدوة.  هذه المرة، تصل رومي إلى ذروة النشوة – “في الحقيقة، إنها قوية وصادقة”22 – لكن هذه النهاية السعيدة ظاهريًا تأتي مع شرط. يتخلل مشهد الجنس لقطات لصامويل في غرفة الفندق الرخيصة ذات الجدران الحمراء حيث التقى الرئيس التنفيذي والمتدرب لأول مرة.  يرافق صامويل كلبة شرسة تطيعه تمامًا، تمامًا كما في مشهد الشارع عندما وقعت عينا رومي عليه لأول مرة.

 على الرغم من أن النص يذكر أنها تنظر إلى الكاميرا “متحررة”،23  إلا أن المشهد الأخير يوضح حكمة لاكان القائلة بعدم وجود علاقة جنسية. لا يكون الرجل والمرأة وحدهما أبدًا أثناء ممارسة الجنس، فهناك دائمًا “دخيل”، وهو عنصر ثالث يعمل كمكمل وهمي.24 جاكوب حاضر جسديًا، لكن ذروة رومي تُثار من خلال الوجود الافتراضي لصامويل في مشهد خيالي له وهو يروض الكلبة.  يمكن لرومي مواصلة زواجها بشرط أن يقوم زوجها بأفعال تدفعها إلى التخيل بالمتدرب وكلبته.

  1. قد يُضاف اسم الهولندي يان دي بونت أيضًا. عمل دي بونت في الأصل كمصور سينمائي لأفلام فيرهوفن الهولندية، ولأفلام أمريكية مثل “داي هارد” (جون ماكتيرنان، ١٩٨٨) و”المطر الأسود” (ريدلي سكوت، ١٩٨٩)، وقد حقق نجاحًا ملحوظًا في أول فيلمين أخرجهما: “سبيد” (١٩٩٤) و”تويستر” (١٩٩٦
  2. قائمة أفلام القرن الحادي والعشرين التي أخرجها مخرجون هولنديون، والمختارة للمسابقة الرئيسية في أحد أكبر ثلاثة مهرجانات سينمائية دولية في أوروبا (كان، البندقية، برلين)، قصيرة. ينضم فيلم “بيبي غيرل” إلى خمسة أفلام أخرى فقط: أفلام بول فيرهوفن الثلاثة “زوارتبوك” (الكتاب الأسود، ٢٠٠٦)، و”إيل” (٢٠١٦)، و”بينيديتا” (٢٠٢١)، بالإضافة إلى فيلمي “بورغمان” (٢٠١٣) لأليكس فان فارمردام، و”بريمستون” (٢٠١٦) لمارتن كولهوفن.
  3. ماري آن دوان، “الرغبة في الرغبة: فيلم المرأة في أربعينيات القرن العشرين” (بلومنغتون: مطبعة جامعة إنديانا، ١٩٨٧)، ص ٣.
  4. المرجع نفسه، ص ٤.
  5. لورا مولفي، “المتعة البصرية والسينما السردية”، سكرين ١٦، العدد ٣ (١٩٧٥): ص ٦-١٨.
  6. المرجع نفسه، ص ٦٠.
  7. يمكن للمرء أيضًا التفكير في “المرآة المظلمة” (روبرت سيودماك، ١٩٤٦)، و”ممسوس” (كورتيس بيرنهاردت، ١٩٤٧)، و”حفرة الأفعى” (أناتول ليتفاك، ١٩٤٨).
  8. المرجع نفسه، ص ٩٩.
  9. المرجع نفسه، ص ١٠٠.
  10. المرجع نفسه، ص. 97.
  11. لقد لفت انتباه رين أنها خلال مسيرتها الفنية الطويلة كممثلة مسرحية، أدّت عددًا مذهلاً من الشخصيات النسائية التي يُحتمل أن تكون مُخربة، والتي تُجبر على الاختيار بين خيارين، لا ثالث لهما. هؤلاء النساء إما أن يُعيدن دمج أنفسهن في المجتمع أو ينتحرن.  وقد تناولت مسرحية “بيبي غيرل” نهاياتهن الحزينة بشكل غير مباشر، إذ أن جاكوب، زوج رومي، مخرج مسرحي يُشرف على إنتاج مسرحية “هيدا غابلر” في البروفات. يقول إن المسرحية لا تدور حول الرغبة؛ “بل حول الانتحار”.
  12. ليندا روث ويليامز، الإثارة الجنسية في السينما المعاصرة (بلومنغتون: مطبعة جامعة إنديانا، 2005)، ص 391.
  13. جاكوب، زوج رومي، المُنهمك في عمله كمخرج مسرحي، لا يرى احتياجات زوجته. قد تتطلب وظيفته منه أن يكون مُسيطرًا، لكنه لا يستطيع التصرف بطريقة مُسيطرة بين الأغطية. عندما تُشير إلى بعض الغرابة في السرير، يرفض لأنه يُشعره بأنه “شرير”.
  14. سيناريو فيلم “بيبي غيرل”، ص. ٢٥.
  15. المرجع نفسه، ص. ١٠.
  16. هناك خلطٌ واضحٌ في المصطلحات بين رومي وصامويل، ويرتبط هذا بانتمائهما إلى جيلين مختلفين.  يريد صامويل طمأنتها بالحديث عن “الموافقة”، وعن وضع “بعض القواعد”، وعن “كلمة السر”، لكن بالنسبة لرومي، هذا هراء: بالنسبة لها، “الأمر لا يتعلق بمساحة آمنة وكلمة سر وموافقة”، كما تقول لزوجها جاكوب.
  17. هذا بالطبع إشارة إلى كتاب سلافوي جيجيك، “استمتع بأعراضك!” جاك لاكان في هوليوود وخارجها (نيويورك: روتليدج، ٢٠٠١).
  18. سلافوي جيجيك، “الخوف من الدموع الحقيقية: كريستوف كيشلوفسكي بين النظرية وما بعد النظرية” (لندن: معهد الفيلم البريطاني، ٢٠٠١)، ص. ١٧٥.
  19. السيناريو، ص ٧٥، ص ٧٧.
  20. المرجع نفسه، ص ٧٨.
  21. جيجيك، استمتع بأعراضك!، ص ٥٩.
  22. السيناريو، ص ٩٠.
  23. المرجع نفسه، ص ٩٠. “متحرر” هي الكلمة الأخيرة في النص.
  24. في هذا الفيديو على يوتيوب، يشرح سلافوي جيجيك هذه الحكمة اللاكانية مستخدمًا كتاب “هي” (سبايك جونز، ٢٠١٣) كمثال.