“أرض الخوف”.. عذاب الإنسان وحيرته الوجودية

في فيلمه الروائي الطويل السادس “أرض الخوف” (1999) الذي جاء بعد خمس سنوات من “سارق الفرح” يستخدم داود عبد السيد “النوع السينمائي” genre أي فيلم التشويق والإثارة البوليسية، ويطوعه لرواية قصة لا تحتفل بالبطولة وإنما تنطلق من فكرة العذاب الإنساني في الدنيا، ومناقشة فكرة الاختيار والقدرية، فبطله ضابط الشرطة “يحيى المنقبادي” (أحمد ذكي) هو “البطل- النقيض” anti-hero كما يعرف في الدراما، وأعتقد أن الترجمة العربية المناسبة له أكثر هي “البطل المهزوم”، أي الذي لا تتحقق له شروط “البطولة” المعهودة في هذا النوع من الأفلام. فهو محكوم عليه بالمعاناة والألم ثم الهزيمة. وقد يبقى على قيد الحياة لكن حياته تكون في نهاية المطاف، قد أصبحت في طريقها إلى الموت، وهو قدر كل امرء بالطبع بعد رحلة الحياة المكتوبة المقدرة التي لا يملك منها فكاكا سوى بالموت.

داود يقفز هنا من “الاجتماعي” إلى “الفلسفي”، أي أنه يغلف فيلمه بصبغة فلسفية، ويجعل أحداثه وشخصياته تتخذ أبعادا رمزية على نحو يذكرنا بعالم نجيب محفوظ في “أولاد حارتنا” ولكن على مستوى آخر بالطبع، لا يستخدم القصص الشعبي بقدر ما يستفيد من الفيلم “الحداثي” الغربي الذي يقتبس منه ويطوعه لأفكاره ورؤيته الفلسفية الخاصة.

الاهتمام الأول عند داود عبد السيد في “أرض الخوف” ليس الواقع الاجتماعي والدراما الاجتماعية والنقد السياسي أو حتى تناول علاقة السلطة بالفرد كما قد يبدو للوهلة الأولى، بل دراسة الشخصية الرئيسية، معالمها وأبعادها وتناقضاتها، وهي تعادل هنا “الإنسان” عموما، الذي كتب عليه أن يخوض رحلة حياة لم يخطط لها ولم يفكر فيها أو يسعى إليها، ربما يكون قد قبلها فقط لمجرد شعوره الفطري بالرغبة في المغامرة، في اكتشاف الدنيا التي لا يعرفها، في الخروج من العالم النقي الخالص، الذي ربما يكون “مثاليا”، هو عالمه الخاص في الشرطة، في فرض الصواب والحق و”القانون”، إلى عالم آخر، هو عالم الجريمة والعنف والصراع على المال والنفوذ بل حتى على مجرد “البقاء” على قيد الحياة.

هناك دون شك رموز وإشارات دينية ترتبط بثقافة وتكوين داود عبد السيد نفسه: الإله الخالق الذي يرسل الانسان الى عالم لا يعرف عنه شيئا أصلا، ويصبح مطلوبا منه أن يصارع من أجل البقاء. فالضابط “يحيى المنقبادي” يكلف بمهمة التغلغل في أوساط عصابات الاتجار بالمخدرات ونقل كل ما يراه ويعرفه من أسرار الى رؤسائه في وزارة الداخلية، لا يعلم بأمر بعثته هذه سوى ثلاثة أشخاص: وزير الداخلية ومدير المخابرات ووزير العدل. يوقعون له على شهادة تفيد بأنه مكلف بمهمة رسمية تكفل له الحماية وقت اللزوم، فالصلة الرسمية معه ستنقطع تماما، سيدربونه على التعامل في عالم الإجرام ثم سيفقد صفته ضابط بعد أن يلفقوا له قضية رشوة يُطرد بموجبها من وظيفته ويدخل السجن حيث يخالط عتاة المجرمين الذين يطلقون عليه “يحيى أبو دبورة”، وبعد أن يصبح مقنعا في أداء الدور المطلوب، ويصبح اسمه الحركي (آدم) كما لو كان أول الخلق، ويتم ارساله (أو انزاله إلى الأرض) أو “أرض الخوف” وهو اسم العملية المكلف بها، ليلتحق بعالم الاجرام ويصبح المعلم أبو دبورة تاجر المخدرات، لكنه منذ ذلك الحين سيصبح بمفرده في عالم الاجرام من دون أي غطاء أو حماية.

يلتحق بعالم علب الليل حيث يعمل حارسا للراقصة “رباب” (صفوة) التي تتزوجه لكي يصبح حاميا رسميا لها من الأوغاد، لكن زواجه بها لا يستمر فهو سينتقل بعد ذلك ليلتحق بعالم كبار تجار المخدرات، يخالطهم ويشاركهم في عملياتهم ويأتي وقت لكي يقتل منهم أيضا، فالقتل من شريعة تلك الحياة.. والانسان لا يقتل فقط لكي ينتقم أو يتخلص من المنافسة، بل لكي يعيش ولكي يحافظ على “القانون” الأزلي للوجود. يقول له المعلم “هدهد” (حمدي غيث) إنه يعرف أن “من قتل يُقتل”- إلا أنه يعتبر ما يقوم به قدرا واستسلاما للإرادة الإلهية. فالله يريد أن يجعل من هؤلاء الأشخاص (تجار المخدرات)، أغنياء، يمنحهم الثروة لكنهم مجرد (حراس عليها) لأنها ملك الله!

المعلم “هدهد” هو “الأب الروحي” الذي يتولاه بالرعاية ويمنحه ثقته في الحارة، ويزوجه فتاة شابة عذراء هي “هناء” (زينة)، وهذا الرجل المؤمن بالقضاء والقدر، يتمتع أيضا بأخلاقيات وقيم تجعله يرفض الانتقال للمتاجرة في الهيروين الذي يسميه “السموم” رغم ارتفاع مكسبه، ويكتفي بالحشيش، الذي لا يقتل ولا يعتبر من المحرمات من الناحية الدينية!

من رباب الراقصة الى هناء الزوجة التي لم يحبها لكنها تمنحه طفلا ويرتبط من خلالها بعالم الجريمة رغم براءتها، إلى “فريدة” (فيدرا) المهندسة المعمارية التي يقع في حبها ويتزوجها وهي التي تشده الى عالم الفضيلة الذي يحن إليه لكنه لا يقدر على العودة إليه. وتصل معاناته الى ذروتها عندما يصبح مهددا بالاعتقال، يحاول اثبات براءته، والتأكد من وصول تقاريره الى الجهات العليا لكنه سيجد نفسه وحيدا تماما في هذا العالم.

لقد غادر “أدم” عالم الفضيلة المفترض الذي كان يشعر فيه بالحماية، إلى عالم الجريمة الأرضي. يتشكك ويطرح التساؤلات الوجودية حول مغزى وجوده في هذا العالم وفائدته، وما إذا كان “يفعل الشيء الصواب”، يكاد يفقد عقله تحت وطأة التساؤلات والهواجس، هل يعيش حلما أو كابوسا أم هو قد أصبح بالفعل مجرما ضليعا في الاجرام؟

غريمه الأول الضابط “عمر الأسيوطي” (عزت أبو عوف) يرفض تصديق هويته الحقيقية. يصر على وصمه بالجريمة، يريد أن يقضي عليه. في المواجهة الأخيرة بينهما يشبهه يحيى بإبليس الذي رفض السجود لله. هنا يصل الاختلاط بين الواقع والمجاز، إلى ذروته، يساعد في تجسيد هذه الرؤية المجازية المكثفة، التجريد الواضح في تصميم الأماكن التي تدور فيها أبرز الأحداث.. الصحراء البيضاء والغابة والجامع التاريخي الذي لا يبدو كجامع بل أقرب إلى مدفن.. وغير ذلك.

هناك بعض الاستطرادات في الفيلم والمشاهد الزائدة المبالغ فيها رغبة في تخفيف وقع الأحداث الثقيلة، وفرض طابع كوميدي (مشهد الشاب لوله مع رباب ويحيى كمثال)، وهناك أيضا ضعف واضح في تنفيذ مشاهد الضرب والعراك. لكن هذه الملاحظات وغيرها لا تقلل من الجهد الكبير المبذول في الإخراج والتصوير والمونتاج والمحافظة على النغمة اللونية والضوء وطبيعة الصورة عموما بحيث تعكس دائما “مزاجية” الفيلم الدرامية وغرابته وغرابة موضوعه وعالمه ورمزيته ومستوياته المتعددة.

يربط السيناريو المقاطع المختلفة من الفيلم عن طريق الصوت الذي يأتينا من خارج الصورة، أو التقارير التي يقرأها “يحيى” بصوت أحمد ذكي بالطبع، لكي يذكرنا دائما بدوره المكلف به وشخصيته الأصلية كضابط شرطة، ولكن المشكلة أن أداء أحمد ذكي في الإلقاء باللغة العربية، أداء غير واضح، فهو أداء سريع، يأكل الكلمات، ولا يجيد التحكم أو الضغط كما ينبغي على مخارج الألفاظ. لذلك كثيرا ما كان من الصعب فهم الكثير من الكلمات التي يقرأها. ويكفي أن نقارن بين طريقة أحمد ذكي عموما في نطلق مخارج الكلمات ونغمة صوته الضعيف، وبين أداء الممثل العملاق حمدي غيث، لكي ندرك الفرق، فالتمثيل ليس فقط تعبيرا بالوجه والعينين وحركة الجسد، بل أيضا بنبرة الصوت والقدرة على تنويعه وتطويعه لكل مشهد كما ينبغي. وهو شيء آخر لم يبرع فيه أحمد ذكي في هذا الفيلم، فهو يؤدي طوال الوقت بنفس النبرة ونفس الطريقة، دون حتى محاولة محاكاة تجار المخدرات في طريقة كلامهم وطريقتهم في التعامل مع الآخرين. ولكن كان هذا اختيار داود عبد السيد، وكنت أرى شخصيا، أن هذا الدور يناسب أكثر العملاق الكبير نور الشريف. إلا أن عدم نجاح فيلم “البحث عن سيد مرزوق” ربما يكون قد أقنع داود بعدم الاستعانة بنور الشريف في فيلمه هذا. إن شخصية الضابط المتورط في تجربة حياة جديدة غريبة يبحث فيها عن نفسه وعن معنى وجوده بل وعن معنى الحياة ويجرب القتل والحب والزواج والطلاق والخوض في العالم السفلي، هذه التجربة المتعددة الجوانب والمستويات كانت تناسب أكثر نور الشريف. وأعرف مسبقا أن هذا الرأي سيزعج الكثيرين الذين يهيمون بأداء أحمد ذكي في هذا الفيلم تحديدا. لكن هذا رأيي المستند إلى أكثر من مشاهدة لهذا الفيلم تحديدا.

يتعاون داود بنجاح كبير هنا، مع الموسيقار راجح داود الذي ينجح في خلق شريط صوت بديع وملهم، يمتليء بالأدعية الخافتة والتراتيل التي تضفي مسحة خاصة على الفيلم، وتساهم في إضفاء المسحة الرمزية عليه.  

تتلخص رؤية داود عبد السيد في الفيلم في أن الانسان ما هو سوى خليط من الخير والشر، وأنه ليس مسيرا تماما بل يملك أيضا حرية الاختيار، وعندما يختار يصبح اختياره قيدا عليه، يجب أن يدفع ثمن اختياره، وأن عذابه وشقاءه مرتبط بوجوده، وحتى عندما يقع في الحب ويرغب في التطهر فهو ينتهي لاغتصاب زوجته بالقوة في لحظة شعور بالرفض والنبذ والاستبعاد. فهو يجمع بين الرقة والعنف، الشهوة والحب، الخير والشر. وكان يجب أن ينتهي “يحيى” وحيدا هائما على وجهه يواجه مصيره بمفرده، دون أن تعود “فريدة” لكي تلتحق به في النهاية. لكن داود اختار نهاية متفائلة لفيلمه رغم عدم اتساقها مع المنطق العام للفيلم. وهو أيضا “اختيار” يجب أن يتحمل هو نتيجته!

من فصل “سينما داود عبد السيد” في كتاب: “السينما العربية خارج الصندوق”

Visited 140 times, 1 visit(s) today