“أحتمي بمخبأ”.. من المجهول القادم
هذا الفيلم الغامض “أحتمي بمخبأ“Take shelter للمخرج الأمريكي جيف نيكولز، هو تأمل حاد في العقل الإنساني، المليء بالقلق.
يبدأ الفيلم بلقطة لشجرة تتمايل فروعها مع الريح، تحوم فوقها سحبٌ داكنة، ثم لقطة عامة لكيرتيس ( يقوم بدوره مايكل شانون ) وهو يقف أمام جراج منزله بين سيارتين، بينما تظهر الأشجار والسحب الداكنة من خلفه‘ تظهر أعماق الجراج بلون أسود كخلفية تتر البداية والنهاية.
تتوالى اللقطات للغيوم الكثيفة التي تدور كالدوامة، وتساقط المطر اللزج الأصفر الذي غمر كيرتيس.
تجسد هذه اللقطات التي استغرقت حوالي دقيقة، ما يتخلل الشخصية الرئيسية كيرتيس من شعور عميق بقرب كارثة، وهو ما يعرضه للضياع، هنا نجد رجلا حائرا، ينتمي لعصر يسخط من المطر لأنه يؤخر برنامج العمل في الحفر والبناء، عصر جلب معه أنواعًا جديدة من الرعب، كالهجمات الإرهابية، والحروب الأهلية، والكوارث الطبيعية حول العالم؛ مثل الزلازل والأعاصير وموجات التسونامي، التي تشعرنا بأن العالم على وشك الفناء بالفعل.
كيرتيس كثيرا ما يتعرض لغزوات لاواقعية في أحلامه، فيطلق صرخات ألم مروعة لا يسمعها أحد منذرا بشقاء شامل سيحدث للجميع. يبدوا منعزلا ووحيدا مثل ابنته الصماء التي لا تستطيع التواصل مع الآخرين، لكنها تتواصل جيدا مع الكلب الذي أبعده والدها عنها، بينما زوجته سامانثا(جيسيكا شاستين) هي الوحيدة الاجتماعية في الأسرة، وهي تظهر يشكل إيجابي في كثير من المشاهد، مساندة وداعمة لزوجها منشغلة بتوفير المال لعملية زراعة قوقعة الأذن لابنتها هانا، ودفع أقساط بيت الشاطئ، لكنها تكشف عن جانب آخر أكثر جدية وحزم عندما تظهر الغضب عندما تجاوزها الزوج في القرارات التي تمس الأسرة.
الواقع أن كيرتيس لديه وعى عميق بالحاضر الوحشي. إنه يخضعه للاستجواب والشك، هذا رجل لا يملك روح انهزامية، موظف جيد، وصديق طيب، وزوج وأب محب، وفي محاولة لحماية أسرته من الخطر الذي يعتقد أنه قادم ، يقوم بتوسيع مأوى العاصفة في الفناء الخلفي لمنزله؛ ويخالف قواعد العمل باستخدام معدات من مقر عمله، ويحصل على قرض لا يمكنه تحمله، دون إخبار زوجته، تغضب سامانثا عندما تكتشف هذا، لكنه يخبرها بحقيقة ما يتعرض له بعد أصابته بنوبة على أثر تناول جرعة مضاعفة من المهدئ، يضاعف من قلقه التاريخ النفسي لوالدته المصابة بمرض انفصام الشخصية الذي ظهر عليها في نفس عمر كيرتيس أثناء حدوث الكوابيس له.
يتجسد مشهد الثلاثة في الملجأ – بعد رسالة التحذير من الإعصار التي أطلقت في البلدة الصغيرة بولاية أوهايو في وقت سابق- القلق المرعب الذي انتاب كيرتيس، فهو لم يكن يريد الخروج من الملجأ لظنه باستمرار العاصفة، وتظهر سامانثا بوعي عميق وتفهم يثير الإعجاب، مما يدفعه للذهاب لفتح باب الملجأ، لكن القلق يراوده، فهو لا يزال يسمع العاصفة، يتوتر أكثر ويسأل الطفلة هل تحس بالعاصفة فتجيب بالنفي بحركة من رأسها، بعد مواجهة متوترة مع الزوجة، التي تؤكد له بأنه لا يمكنها الكذب عليه، فتح كيرتيس الباب بقوة فتظهر الشمس الساطعة، والجيران وهم يقومون بتنظيف أطراف الأشجار المكسورة وغيرها، بينما تقوم شركة الكهرباء بإعادة وصل الأسلاك التي انقطعت.
الخوف الأكبر الذي ينتاب كيرتيس هو فقد الأسرة، نري ذلك في سؤاله لزوجته:
- هل ستهجرينني؟
وبالتالي فقد الحياة الطيبة التي يعيشها مع زوجته وابنته هانا، وفي مشهد يجمع بينه وبين صديقه ديورات في السيارة يقول ديورات:
- تعيش حياة طيبة كيرتيس
ويردف ديورات بأسى
- أعتقد أن ذلك أفضل إطراء قد يحظى يه المرء.. تنظر إلى حياته وتقول هذا جيد..
إن التعارض بين حياة كيرتيس وحياة ديورات، ووحشية الحياة المعاصرة ، تزرع داخل كيرتيس قلقا رهيبا، تتسبب في عدم استقراره وأشعره بأنه قابل للانكسار، تجسد القلق في صور وهمية لا تسقط في مطبات الحوارات المباشرة التي تنبش أسرار النفس، فيجسد المخرج القلق الداخلي من خلال صور خارجية ، كالغيوم التي تتجمع والقريبة من الأرض في اللقطة الثالثة والتي تتخذ شكلا بشريا، بتفاصيل حادة وهو أقرب إلى وجه فتاة مصابة بالفزع. يتشابه هذا الوجه مع وجه زوجة كيرتيس في اللقطات الأخيرة من الفيلم .
كما يقوم المخرج بتحويل الهواجس إلى مجموعة من الأفعال، مثل قيام كيرتيس بتوسيع ملجأ العواصف. والانعزال، وأبعاد صديقه ديورات عن القسم الذي يعمل فيه.
يأتي مشهد النهاية ملغزا بعض الشيء ، فمشهد تجمع الغيوم التي كان يراها كيرتيس وحده رأته الطفلة والزوجة في نهاية الفيلم، لكن في مشاهد سابقة من الفيلم سنجد أ كيرتيس أبعد الكلب الذي تحبه الطفلة، وفى تجمع نادي الليونز، قام ديورات باستفزاز كيرتيس ولكمه. يغضب كيرتيس ويصارع ديورات، ويقلب الطاولة ثم ينفجر في خطبة تحذيرية من الكارثة القادمة، بعدها يقف منكسر النفس وهو ينظر لأبنته هانا ثم يبكي على كتف زوجته، كل ذلك بحضور الطفلة الصغيرة التي عبرت عن خوفها بالوقوف خلف أمها، وخوفها تكرر في ملجأ الأعاصير، إن عالمها الطبيعي الهادئ بدأ في الضياع، ترك هذا تأثيره في نفسية الزوجة، وربما أكثر اللحظات كشفًا لسامانثا هي عندما يبكي زوجها بعد انفجاره فتأخذه بين ذراعَيها وتسنده وهم في طريقهم للخروج.
لكن اقتراح الطبيب النفسي بأن يتلقى كيرتيس الرعاية والعلاج في منشأة بعيدة، يعنى أبعاده عن الأسرة فترة قد تكون شهورا أو سنوات أو يشكل دائم مثل والدته، وهذا يعنى فقد الزوج والأب، فقد الاستقرار و الدخل المادي الذي قد يجنيه من عمل جديد ، بما يترتب على ذلك من حرمان الطفلة من زراعة القوقعة وفقد بيت الشاطئ والحياة الأسرية الطيبة، وهكذا دخلت في عالم كيرتيس المقلق المليء بالهواجس، نلاحظ ذلك في مشهد الغيوم من نهاية الفيلم، فهو مشهد يحتل الشاشة بكاملها، ثم المطر اللزج الذى سقط على يد الزوجة وتحديدا قرب خاتم الزواج، كرمز يعبر عن تهديد استقرار الأسرة، المشهد نفسه وهو على شاطئ البحر لا تظهر فيه أي شخصيات أخرى، فهم وحدهم مع الإعصار القادم، وفي لقطات قصيرة تسبقه كانت الطفلة تلعب مع والدها على الرمال والزوجة تجهز طعام الأسرة، وهي مشاهد أسرية دافئة مهددة بالضياع.
نلاحظ إن الرجل هو الذي يبدأ القلق، و يفتتح المشاهد الكابوسية، لكنها تتطور لتلحق بالأنثى، في مشهد يفتقر إلى القيمة الحوارية و تحكمه الهواجس التي لا تجد لها مستقرا، و لا تعبر عن ذاتها، إلا من خلال لغة الصورة.
يوصل لنا مايكل شانون قدرا كبيرا من المشاعر، من خلال الأَداء المميز، وجعلنا نخوض معه العالم المحرَّم غير الخاضع لأي قانون, عالم الأحلام والكوابيس, الذى كان يدور فيه قتال عنيف وسط الظلام, كأنه يحارب بلا هوادة القوى الشريرة.
و جيسيكا شاستين عبرت بشكل بارع عن شخصية سامانثا التي جلبت مكونات مهمة للفيلم من الحيوية وقوة الإرادة واستقلال الفكر، إلى جانب الحنو، والحب، والتعاطف، والقلق.
كما يركِّز المخرج جيف نيكولز على الشخصيات خلال الفيلم، يركز أيضا على المشاهد الكابوسية، فيمنحها أَلْوانها القاتمة مصحوبة بأصوات الصراخ المؤلمة، والاندفاع الوحشي للكلب، الذي رمز للوحشية الموجودة في العالم، والرجال الذين يهجمون على كيرتيس وهو في السيارة مع ابنته، وهو المشهد الذي تقاطع مع لقطات صراخه أثناء نومه بفم مفتوح على الآخر, كأنه يتلقى الطعنة وراء الطعنة من المجهول القادم.