“أجمل صبيّ في العالمِ”: مأساةُ الوجهِ الذي فَتَن الملايين
يبدأ فيلمُ “أجمل صبي في العالم” the most beautiful boy in the world بعجوزٍ ستينيّ يلج مبنىً مهجورًا بأجواءٍ مُقبضة، وفي الخلفيةِ أحاديثٌ مختلفةٌ مع طفلٍ صغير يعبر عن مخاوفِه، وينتهي الفيلمُ بذات الرجل يقفُ، وحيدًا، أمامَ البحرِ الذي يطلُّ عليه هذا المبنى، ماذا حدث في المسافةِ بين المدخلِ والشاطيء؟ واحدًا من أفضل الأفلام الوثائقيّة على الإطلاق، إنّه الفيلم السويديّ “أجمل صبيّ في العالم” الذي يتتبعُ قصةَ الفتى الساحر بيورن أندريسن الذي ظهرَ قبل خمسين عامًا في فيلمِ “موتٌ في البندقيّة” تحفة المُخرج الإيطاليّ الكبير لوكينو فيسكونتي.
الفيلم من إخراجِ كريستيان بيتري وكرستينا ليندسترُم، وقد عُرض لأول مرة في مهرجان صنداس السينمائيّ في يناير/كانون ثانٍ 2021.
وبالمناسبة، ذلك المبنى المهجور كان موقعَ تصويرِ”موتٌ في البندقيّةِ”، وذاك العجوز الأشيب هو بيورن أندريسن ولا أحد سواه!
موتٌ في البندقيّةِ أكثر من اللازم
يُفتتح الفيلم بعد المقدمة المذكورة بأحد أيام فبراير/ شباط 1970، حين كان فيسكونتي يجدّ في البحث عن فتى تنطبق عليه السماتُ الشكليّةُ التي وردت في الرواية القصيرة “موتٌ في البندقيّةِ” للكاتب الألمانيّ النوبليّ توماس مانّ، تحكي الروايةُ عن الكاتب غوستاف فون آشنباخ الذي يذهب إلى البندقية الموبوءة آنذاك بالكوليرا الآسيوية، وهناك يُقابل الفتى البولنديّ تادزيو، فيقع في غرام ذلك الجمالِ الخالصِ، إنّها قصة فلسفيّة بديعة مشحونة بالعاطفة حتى آخرها، لذا كان من الطبيعي أن يؤخذ بها مُخرج مثل فيسكونتي.
ولكي يقتنع الجمهورُ بما يحدث للكاتب آشنباخ، غيّره فيسكونتي إلى موسيقار في الفيلم لأسبابٍ لا مجال لذكرها هُنا، كان لا بد من البحث عن فتى يشبه، حسب تعبير مانّ، آلهةَ الإغريق: جميل، وبارد، وقاطع، وطاغي التأثير، سافر فيسكونتي إلى فنلندا، وروسيا، وهنغاريا، وبولندا، لكنّه وجد ضالّته في ستوكهولم، حين قررت جدّة سويديّة أن تُرسل حفيدها إلى كل مسابقات البحث عن المواهب، فقُدّرتْ تلك اللحظة الخارقة التي قابل فيها بيورن أندريسن المُخرج لوكينو فيسكونتي، تقول مديرة اختيار الممثلين مارغَريتا كرانتز أنّها كانت تقف بجوار فيسكونتي عندما دخل بيورن إلى القاعة، ورأت بوضوح كيف بُعثت الحياة في جسدِه!
كان طاقم تصوير الفيلم مثليو الجنس بما فيهم فيسكونتي نفسه، لكن لم يُسمح لأحد منهم بالتودّد إلى بيورن، إذ كان تحت حماية “كبيرهم” الذي كانت علاقته به محدودة للغاية، وقد اقتصرت أحيانًا على أربع كلمات فقط: “امشِ، توقفْ، استدرْ، ابتسمْ”
عُرض “موتٌ في البندقيّةِ” لأوّل مرة في لندن، وقد حضرت الافتتاحَ الملكةُ إلزابيث وابنتها الأميرة آن، ومن تلك المدينة أعلن فيسكونتي أنّ بيورن أندريسن “أجمل صبيّ في العالم”.
في نفسِ العام اختبر بيورن درجةً أعمق باعتبارهِ فُرجة، كان ذلك في مهرجان كانّ وهو مراهقٌ في السادسةِ عشرة لم يرحمه أحد، يُشبّه بيورن الجماهيرَ وهي تحوّطه بأسرابِ الوطاويط، أمّا فيسكونتي فصرّح بأنّه، أي بيورن، قد بدأ يفقد سحره لأنّه كبر عامًا!
لقد اشترى فيسكونتي وجه بيورن لثلاث سنوات، لكن بمجرد أن انتهى عرض الفيلم، لم يكن هناك أي رعاية من المُخرج الكبير نحو جوهرته التي علاها الترابُ سريعًا.
الكليشّيه الذهبيّ
إنّ قصصَ نجوم السينما الذين تأفل حيواتهم الشخصيّة كثيرةٌ للغاية، موضوع مُستهلك لكنّه مُفضّل، كليشّيه يبيض ذهبًا، والقصص على هذه الشاكلة تحملُ بذورَ نجاحِها في جوفِها، وتسعى بنفسها إلى من يرويها، إنّ مخرجي العمل محظوظان للغاية بقبضهما على هكذا قصة: التائهُ في الغابةِ يُقابل كبيرَ السحرةِ فتتحوّل حياته إلى الأبد، وما يلحق ذلك من مخاوفٍ، وتجاربٍ ثقيلة، وآلامٍ، وسرقةٍ للبراءة، لكنّ قصة بيورن أندريسن أكثر إغراءً واشتعالًا من مجرد طفل تخلخل كيانُه بحياةِ النجومية، نعتقدُ في البدايةِ أنّ قدرَ بيورن بدأ بدور تادزيو، وهي المحطة الأهم بالطبع، لكن حكايته الجديرة بِـ”الأسنمة” جُهّزَت من قبل أن يولد.
أكثرُ من بدايةٍ
أن يشعر المشاهدُ بالملل لهو الكابوس الذي يستقتل كُل صانعِ أفلامٍ ليتجنّبه، خاصةً في الأفلام الوثائقية نظرًا لطبيعتها، لكن المُخرجيْن هنا تلافيا ذلك بأكثر التقنيات فاعليةً، إذ جعلاه ببساطة فيلمًا يبدأ أكثر من مرّة، ومع كل بداية دفقةٌ فنيةٌ مختلفة، يتنقّل المُخرجان بين الحاضر، والماضي، والماضي الأبعد قليلًا، ثم الماضي الأبعد عن الجميع مُستكشفيْن في كل مرة جانبًا مذهلًا من هذه القصة الإنسانيّة المُغرية لأيّ حكّاءٍ في العالم.
طفولة بيورن أندريسن، علاقته السيئة بجدّته الطامعة، علاقته المتينة بأخته من أمّه، شهرته التي زادت من أسباب كآبته، ثم زواجه وأبوّته الناقصة، وفي النصف الثاني من الفيلم تفاصيلُ انتحارِ والدتِه حين كان طفلًا، لقد رحلت الأم ولم تأخذ سبب انتحارها فقط، بل دُفن معها اسم والد بيورن الذي لم يُعرف حتى الآن، أمّا والدته نفسها فقد كانت صحافيّة، ومصوّرة فوتوغرافيّة، ترسم وتكتب الشعر، ولها معرض فنيّ، وعملت في عرضٍ لصالح كريستيان ديور شخصيًا، ولو أطلعنا المُخرجان على هذا الفصل منذ البداية لفقد الفيلم كثيرًا من سحره!
علاقتُه بالشرقِ الأوسطِ
في 1971 ذهب بيورن أندريسن إلى اليابان في زيارةٍ تاريخيّةٍ، واستقبله الجمهورُ اليابانيّ بالدموعِ، والشهقاتِ، وفلاشات الكاميرا، وأقام هناك عدة مؤتمرات صحفيّة، وغنّى باليابانيّة من إنتاج شركة سوني أغانٍ تقطر عذوبةً يقول في مطلع إحداها “لقد ولدتُ من أجل الحُب”، وشارك في إعلان للشوكولاتة السوداء، وصُنع له تمثال نصفيّ، بالطبع لم يكن لهذا السحر المُبين أن يمرّ هكذا، لكن اليابانيين، مثل غيرهم، لم يراعوا حداثة سنّه، فشاركَ في أعمالٍ دون أن يعرف المطلوب منه حتى تدور الكاميرا، وكانوا يمنحونه أقراصَ دواءٍ مجهولٍ ليُشعره بالراحة!
يقول ماكس سيكي ضمن حديثٍ طويل عن زيارة بيورن لليابان: “أشعر بأنّ ماحدث هناك صعبٌ عليه، لكن الأجواء آنذاك لم تترك لنا فرصة لنراعي مشاعره”.
في اليابان جاءتْ أهم شهادة مِن السيّدة ريوكو إيكيدا، وهي من أبرز رسامي الـ”مانغا”، وهي كذلك نسويّة راديكاليّة، لم تؤكد إيكيدا جمال بيورن أندريسن فحسب، بل قالت أنّ وجهه هو ما ألهمها بشكلٍ كاملٍ لرسم شخصية الليدي أوسكار، بطلة مُسلسل “وردة فرساي”، وهي فارسةٌ جميلةٌ في زيّ رجل، وقد مُنعت هذه السلسلة في بعض الدول العربيّة لمحتواها السياسيّ والجنسيّ نوعًا ما.
تستمر السيدة إيكيدا في شهادتها المهمة بأنّ جميع فناني الـ”مانغا” في تلك الحقبة قد تأثروا بطلة بيورن أندريسن بدرجةٍ أعمق من غيرهم، إذن، فقد كان وجهه إلهامًا لجيل كامل من فناني الـ”مانغا” في اليابان.
ربما لم يكن يتوقع أيّ مشاهدٍ شرق أوسطيّ أن يرى الوجهَ الذي كان السببُ في خلقِ عشراتِ القصصِ التي أثرت في ملايين الأطفال والمراهقين مواليد السبعينيات والثمانينيات في منطقتنا!
الأرشيف الفيلميّ المُلهم
في إحدى البدايات التي يقدمها الفيلم نرى بيت بيورن أندريسن الحالي، وشكوى مُقدّمة من مالكي المنزل لأنّ موقده شديد الاتساخ وانسداد مروحته قد يؤدي إلى حريق، لقد تعلّمنا في السينما أنّ المطبخ المتّسخ أول دلالات النفسية المضطربة وعدم الاستقرار (مطبخ جوليا روبرتس في “إيرين بروكوفيتش”،ومطبخ روبِن ويليامز في “ويل هنتنغ الطيّب”)، تفصيل صغير مثل هذا أثرى لوحة الفسيفساء الكاملة لحياة بطلِنا.
لقد توفّرت لصانعي “أجمل صبيّ في العالم” مادة فيلميّة ثريّة، أهمها كان توثيق دخول بيورن إلى قاعةِ اختيارِ الممثلين، فأتيح لنا عيش تلك اللحظة التي التقى فيها بعينيْ لوكينو فيسكونتي، وكيف كان البابُ الأبيضُ الموصلُ إلى القاعةِ، بابَ دخوله إلى التاريخِ، كما شاهدنا أيضًا ردّة فعله المُتفاجئة عندما طُلب منه أن يعرّي جذعه، ثم خجله وهو يقف بملبسه الداخليّ أمام الكاميرات.
احتوى الفيلمُ أيضًا على صورٍ أرشيفيةٍ لوالدة بيورن، وهي تضحك، وتشرد، وتلوّح لأطفالها، ورسالتها الأليمة الفاتنة قُبيل رحيلها، في الفيلم شاهدنا أيضًا زوجة بيورن ووالدة طفليه عارية الصدر في طرحة العروس، وصورًا لجدودِه وابنيه وبيتِه القديمِ.
كل ذلك مصحوبًا بحوارٍ مؤجّج، ومَنْتَجَة متمكّنة، وكاميرا اقتربت من الوجوهِ فأظهرتْ تجاعيدَ الحزنِ، وخلجاتِ الخوفِ والترقّبِ، ولمعةِ العيون المُطفأة والمُشتعلة.
لقد منح طاقم عمل الفيلم أفضل ما لديهم، التصوير لإريك فالستين، والتوليف لدينو يونسِتِّر وهانّا ليونكفيست، والموسيقى لفيليب ليمان وآنّا فون هاوسفولف.
أين هو الآن؟
من يرى بيورن أندريسن يعرف أن فيسكونتي كان محقًا حينما قال أنّه قد يصبح رجلًا وسيمًا عندما يكبر، فبيورن الآن يقترب من ميلاده الـ67 ولم يفقد غرامًا من جاذبيته، لقد أصبح عجوزًا لافتًا، كأنّه عارض أزياءٍ بماضٍ حافلٍ، مُبديًا جاهزيّة فوريّة لالتقاط الصور، وليكون “فُرجة” دائمة، كاللوحات، والتماثيل، والتُحف.
“أجمل صبيّ في العالم” فيلمٌ ساحرٌ، ومؤثّرٌ، ومدهشٌ، ويُصيبُ الذاكرةَ من أقرب الطرق إليها، وشديد الحزن أيضًا، ليس ذلك الحزن الواضح كأن يموت إنسانٌ من الجوعِ، بل حزن أرقّ، وأعمق، وأكثر إدهاشًا، له سحر القصص النائية التي تعرف أنّها لن تحدث لك، لم يلقَ بيورن أندريسن مصيرًا مُفجعًا، لم يُدمن على المخدّرات، أو يتحول لقاتلٍ متسلسلٍ إو إرهابي، فهو مازال بخير، جذّابًا، ولطيفًا، وبذاكرةٍ قويةٍ، ويعزف على البيانو بمهارة فائقة كما اعتاد منذ الطفولة، وهذا أحد أسرار جاذبية القصة، وأحد أسباب حزنها أيضًا.
في الفيلمِ تفصيلٌ استثنائيٌّ عن كيف تجد الحياةُ طريقها، كيف أنّ يتيمًا سويديًا يلتقي مُخرجًا إيطاليًا ليصنعا فيلمًا لأديب نوبليّ، ثم يزور اليابان فيُصبح وجهه منسوخًا في عشرات الأفلام الكرتونيّة التي كانت الترفيه شبه الوحيد لملايين الأطفال في الشرق الأوسط في حقبةٍ زمنيّةٍ معيّنةٍ!
قصةُ الفيلم لا يُمكن حرقها، حتى لو تُليت التفاصيلُ من ألفِها ليائها، فلن يُغني ذلك عن رؤية وجوه الغائبين، وملاحقة المشاعر، والتمعّن في شكل بيورن أندريسن وهو يلجُ القاعةَ/السينما/التاريخَ لأوّل مرة!
لقد وُصف تادزيو على لسان توماس مانّ بأنّه أقرب ليكون “ملاك الموت”، ويقول فيسكونتي مُعلّقًا على الموضوع برمّته: “عندما تضعُ عينَك على الجمالِ، فإنك تضع عينك على الموتِ” وهذا هو قدر بيورن أندريسن ولعنته أيضًا.
إنّ الفن شديد القسوة والشراهة، والبشر متصالحون، دون وعيّ منهم، مع كونه يتعملقُ فوق آلامِهم.
ينتهي الفيلم وبيورن أندريسن واقفًا عند شاطيء البحر الذي زاره طفلًا قبل نصف قرن، وفي الخلفيةِ صوتُه وهو يقرأ رسالةَ والدته المُنتحرة، ومهما شطح الخيال بعيدًا لا شيء يُجسّد عظمة الوجود مثل تأمّل البحر، مشهد “كليشياوي” آخر لكنّه مُبهر كأنّه قد اكتُشف للتوّ، تُزاوجُ الكاميرا بين تادزيو الساحر يلهو عند البحر ناظرًا إلى الكاميرا، وبيورن أندريسن الرجل الستينيّ ناظرًا إلى الأفقِ/ إلى تادزيو الذي كانه يومًا ما، تادزيو ينظر إلى تادزيو!
أمّا الآن، لا كاميرات، لا فيسكونتي، لا صحافة، لا أضواء، لا حماسة، لا شيء، لا أحد غير امتداد البحر العظيم.
وأنسب ما يُمكن أن يختمَ الحديثَ عن هذا المشهد وهذا الفيلم هو ما ذكره توماس مانّ في “موتٌ في البندقيّةِ”: “وأحسّ آشنباخ، كما في مراتٍ عديدة سابقة، بالألم، لأنّ الكلمةَ قادرةٌ على الاحتفالِ بالجمالِ، ولكنّها عاجزة عن التعبيرِ عنه”.