“آينشتاين والقنبلة” وثائقي مثقل باستحضار الاضطهاد النازي
نهى غنام- فلسطين
تكوّن المشهد الافتتاحي التمثيلي للفيلم الوثائقي “آينشتاين والقنبلة” اخراج أنثوني فيليبسون، والذي عرض على نتفلكس مؤخراً، وحقق ثاني أفضل وثائقي مشاهدة على المنصة، تكون من مجموعة عناصر سردية عرضت هوية الفيلم الوثائقية التاريخية والسياسية؛ فانطلق صوتياً من خبر إذاعي ذكّر بحادثة إطلاق القنبلة الذرية على هيروشيما اليابانية، التي قتلت 70 ألف رجل وامرأة وطفل في ضربة واحدة.
وجالت الكاميرا على قصاصات صحفية للخبر وكُتب لآينشتاين، لكن لقطة إغلاق الراديو شكلت نقطة البداية الفعلية للمشهد، ثم انتقلت الى لقطة عامة long shot عرضت فيها مكتب البروفيسور، الذي وقف في نهايته كجزء من المشهد مواجها للنافذة والراديو، الذي أغلقه فور سماع كلمة “السلام”، وقد اقتربت الكاميرا من زاوية خلفية بغرض وصف المكان والايحاء بعزلة الشخصية وعزلها.
انتقلت الكاميرا من التركيز على يده الى عرض وجهه بلقطة close up جانبية، أوضحت حجم الأسى الذي بدا على وجهه، حتى أن الندم بدا واضحاً في ملامحه، التي تشكل جزءاً مهماً من كاريزما الرجل وصفاته الفسيولوجية التي عرفها المشاهد من خلال الأرشيف المتاح عن حياته.
وظهر الممثل آيدن مكاردل الذي أدى المشاهد التمثيلية، بشعر منكوش ووجه بسيط وطيب يوحي بالحكمة، مرتديا البدلة الرسمية بموضة الخمسينات، ومتقناً حمل الغليون، فيما بدت اللكنة الألمانية واضحة في لغته الإنجليزية التي تحدث بها طيلة الفيلم، لا سيما عندما اتخذ دور الرواي الشاهد في سرد المفاصل المهمة من قصة حياته، مع عرض اللقطات الارشيفية الموثقة لإنجازاته، فيما يعترف بلسانه بأنه لو تأكد من عدم قدرة الألمان على صنع القنبلة الذرية لما شارك في هذا “المسعى الغاشم”.
كُرست الدقائق العشر التالية من الفيلم للحديث عن يهودية الرجل، وحجم المعاناة التي عاشها اليهود تحت محرقة النظام النازي، مما حدى بالعلماء والمبدعين للهروب من الاضطهاد، ومن ضمنهم ألبرت آينشتاين الذي لجأ الى إنجلترا بدعم من صديقة النائب لوكر لامبسون، فاستقر في كوخ ريفي قريب من البحر في بلدة نورفولك الإنجليزية، هنا استطاعت الكاميرا أن تخلق نوعاً من الحركة والجذب، بانتقالها من الأرشيف الى لقطة عامة وساحرة من الأعلى لجمال الريف البريطاني، لكنها سرعان ما توافقت مع السرد الصوتي الذي شمل خطابات ارشيفية لهتلر الذي دعا لتسيد العالم، والقضاء على اليهود بوصفهم قذارة لابد من التخلص منها.
لقد استغل التركيز على عدائية هتلر ومظلومية اليهود مساحة كبيرة من وقت الفيلم، الذي ركز على الجدال السياسي واضطرابات الحرب التي جعلت من آينشتاين لاجئاً، أكثر من الحديث عن نظريته النسبية (الطاقة تساوي الكتلة في سرعة الضوء تربيع) التي قلبت موازين العالم، بالتمهيد لصناعة أفظع سلاح استخدمته القوى العظمى ضد البشرية، وبإحصاء بسيط، نجد أن نسبة ذكر إنجازه العلمي وتفسير نظريته النسبية لم تتجاوز 10 دقائق من وقت الفيلم، الذي امتد الى 76 دقيقة، في حين لم تسلط الضوء على تفاصيل تجربته الشخصية مع الاضطهاد النازي.
لم تغب الحكمة عن الشخصية التي اعتادت الجلوس على البحر أو التنقل في الطبيعة، وبدا عنصر الفكاهة واضحاً في تصرفاته؛ فقد تم توظيفه بطريقة إيجابية وملفتة، أخرجت المشاهد من ثقل الوقائع التاريخية القائمة على الحروب وتدمير البشرية، والمغالاة في الحديث عن تعذيب اليهود ودور هتلر الأسود في التاريخ العالمي.
لقد بدا أن المخرج يسعى من خلال استخدامه للنسق السردي المتوازي الدائري عبر تقنية feed back، الى خلق المبرر الذي جعل فيزيائياً شاعرياً مثل آينشتاين يساهم ولو بطريقة غير مباشرة بصناعة السلاح الذري الفتاك، فنجده يذكر الكمان الذي حطمته عنجهية النظام الألماني أكثر من مرة، بل يصور آينشتاين عازفاً وسعيداً فيما بعد، بالحصول على هدية تعويضية من النائب البريطاني.
كما ظهرت لطافته في التعامل مع النحات الذي صنع تمثاله التاريخي، وقد جرى ذلك بالتزامن مع سردية خطابه في قاعة ألبرت الملكية في لندن لجمع التبرعات للمنفيين اليهود، ثم عرض نص رسالته التحذيرية للرئيس الأمريكي روزفلت، بأن الالمان سيصنعون القنبلة الذرية قبل الامريكيين مما حرك عجلة الحرب عن طريق نجاح مشروع مانهاتن الذي ادخل الحلفاء الى مجال السلاح الذري ثم تصنيع القنبلة بقيادة اوبنهايمر.
لقد أحدثت كل هذه العوامل بتداخلها خطاباً منسقاً وموجهاً لعقل المشاهد بأن هذه الرجل يستحق العبقرية والسلمية التي وصف بها عالمياً.
انتقل آينشتاين للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1933، حيث عمل أستاذاً في قسم الرياضيات في معهد برينستون، بعد إحراق بيته في ألمانيا، وقد اشتد الخناق على اليهود من قبل “المليشيات الألمانية” كما أسماها الفيلم بلسان الراوي، بالمقابل حرص آينشتاين على استخدام مصطلحات مثل (معاداة الفاشية والمواطن الأوروبي الصالح و اليهودي المؤمن بالليبرالية العالمية) عززت من تمسكه بيهوديته ورسخت مظلومية اليهود في عقلية المشاهد، الذي لم تغب عنه مسؤولية البروفيسور عن المساهمة في إبادة شعب اليابان.
فنياً، عبرت اللغة السينمائية للفيلم عن ذلك بالتنقل بخفة من حدث تاريخي الى آخر، مستخدمة العديد من اللقطات التي تضمن لعين المشاهد تواصل سردية ارتباط آينشتاين بالقنبلة الذرية، لا سيما أن العديد من الأفلام الوثائقية تحدثت عن الرجل وأجزاء من تاريخه الشخصي، فتم توظيف ديناميكية الإضاءة واختلافها للكشف عن غموض الرجل وشعوره بالخجل، فيما استخدمت التقنيات السردية الصوتية والبصرية لإظهار قصته بشكل جذاب ولتعزيز الجو الدرامي والعاطفي للشخصية.
عززت الموسيقى الكلاسيكية البنية الوثائقية للفيلم، وخلقت ايقاعات درامية كونت تأثيرات تعاطف مع الشخصية، فكونت تجربة متكاملة لإيصال رسالة الفيلم للمشاهد، تم ذلك بالتناغم مع التعليق الصوتي للراوي، الذي ساهم بدوره في ابراز مشاعره وتجاربه الشخصية بصورة درامية، بالإضافة الى شرح وجهة نظره من خلال عرض الحقائق المتعلقة بتاريخه، وتوجيه الجمهور الى فهم التطورات التي تحدث على الشاشة وتوثق لمسارات تاريخية مهمة عالمياً.
انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945 بانتصار الحلفاء على ألمانيا، وقضاء هتلر منتحراً برصاصة في الرأس، و نجح مشروع مانهاتن الأمريكي بإلقاء القنبلة على هيروشيما وناغازاكي، وجرى توثيق ذلك بفيديوهات أرشيفية واقعية لحجم الدمار الذي حصل للمدنيين في اليابان، الذين أجبروا على العيش مشوهين طيلة حياتهم.
سبق ذلك لقطات ارشيفية لفظائع الالمان في معتقل “بوخنفالد” النازي، حيث استغل المخرج هذه الفظائع المصورة لكسر الملل الذي أوصلتنا إليه الوقائع والوثائق التاريخية، عبر اللقطات الأرشيفية التي لا يمكن انكارها، لكن توقيت طرحها من خلال فيلم وثائقي يثير التساؤلات التي ربطت أغلب إجاباتها بين الوثائقي وفيلم اوبنهايمر الروائي انتاج 2023)) الذي تناول نفس القصة وحقق نجاحات باهرة، فيما ذهب البعض الى مقاربة ظروف انتاج القنبلة مع الحرب الروسية – الأوكرانية والعدوان الصهيوني على غزة.
يكمل آينشتاين نشرة الأخبار التي أقفل الراديو خلالها بإعادة لمشهد البداية ضمن نسق دائري محكم فنياً، من حيث العناصر السردية والديكور وملامح الشخصية ومشاعرها؛ بعد أن يتصفح البروفيسور صور أطفال اليابان “المُبادين” بفعل القنبلة، يدخل في حالة حزن وتبدو علامات الندم التي استشعرها المشاهد في البداية واضحة بشكل أكبر.
وبذات اللقطة العامة من الخلف والإضاءة الخافتة للمكتب الفوضوي مغلق النوافذ، يدخل عليه الصحفي الياباني كاتسو هارا وكأنه ظل لآلاف اليابانيين الذين قتلوا في الحرب، لتبدأ بذلك محاكمة آينشتاين فنياً داخل إطار الفيلم وبكاميرته.
ينتزع هارا الاعتراف التاريخي من أعظم علماء العالم الفيزيائيين، بأنه نادم وآسف لكونه سبباً غير مباشر في إبادة الشعب الياباني، ويُعتمد كلامه كوثيقة تاريخية، هنا تحديداً تشترك كاميرا المخرج في المحاكمة، فتُظهر البروفيسور مذنباً من خلال لقطة قريبة لملامح وجه الشخصيتين، آينشتاين النادم والخائف مقابل الياباني الحاد والحاقد، ثم يجلس الأول فيما يقف الثاني بمواجهته، ضمن لقطة عامة long shot موضوعية للمكان، تصور آينشتاين من الأعلى (high angel shot) فتقزمه وتظهره مذنباً، وتمنح الصحفي الياباني القوة والسطوة لامتلاكه الحق والحقيقة، بتصويره من زاوية منخفضة (low- angel shot) ويرافق ذلك لقطات أرشيفية وصور ثابتة للحظة اطلاق القنبلة والدمار الذي أحدثته.
ينتقل المشهد الأرشيفي باتجاه نشرة أخبار تغطي المد الشيوعي في العالم، واقتراب روسيا من تصنيع القنبلة النووية، فيوضح آينشتاين موقفه من الساسة الذين يحكمون العالم، واصفا إياهم بالمتعطشين للسلطة، ويتهمهم بتحويل سلمية العلم الى كابوس، فيما يقفز الى الشاشة بوميض رقمي آينشتاين الفتى، الذي يركض محاولا اللحاق بالضوء، ويعقب الراوي بأن مصير البشرية مرهون بالتطور الأخلاقي للإنسان.
ينتهي الفيلم بلقطات أرشيفية لآينشتاين بصحبة عائلته وأصدقائه، ثم نص مكتوب يؤرخ لوفاته في 18 ابريل 1955ورسالة للأجيال القادمة بصوت الراوي( آينشتاين) تقول “إن لم تصبحوا أكثر إنصافا وسلمية وعقلانية مما كنا عليه، فليفتك بكم الشيطان”، وتقفل الشاشة على صورته التاريخية التي يخرج بها لسانه لعدسات التصوير(عام 1951) تاركة للمُشاهد حرية تفسير رمزيتها في النهاية.