مهرجانات السينما في السعودية بين المحلية والإقليمية

في 1932، جاء للعالم أول مهرجان للسينما، كان ذلك في مدينة البندقية، في نفس القارة التي شهدت أول عرض سينمائي، ثم لحقت بمهرجان فينيسا أو البندقية، مهرجانات أخرى في أوروبا وغيرها، ولكل مهرجان دوره، وألقه، وتاريخه، وأحيانًا أجندته وسياسته.

لاشك أن للمهرجانات السينمائية قيمة عظمى للصناعة، هي ليست تظاهرة ثقافية ووجه حضاري فقط، بل هي السوق الأهم لعرض الأفلام، وتبادل الخبرات، ومد سلالم المعرفة والتواصل بين أبناء الصناعة، وكذلك دعم القطاعين السياحي والثقافي للبلد المضيف، وغير ذلك.

وبالنسبة لمنطقتنا، فإنّ أهم مهرجان سينمائي هو مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الذي يُقام في خريف كل عام، وهناك أيضًا أيام قرطاج السينمائية، ومهرجان مراكش السينمائي الدولي، ومهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، وغيرهم، وفي منطقة الخليج هناك تظاهرتان سينمائيتان بدأتا بلفت النظر، وهما مهرجان أفلام السعودية، ومهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي.

من السهل ملاحظة أنّ الحركة السينمائية السعودية بدأت بقرار وعزيمة سياسية بالدرجة الأولى، لكن، في نفس الوقت، فقد اهتم صناع الأفلام السعوديين بالمهرجانات السينمائية من قبل ذلك، إذ بدأ مهرجان أفلام السعودية في 2008 بمبادرة من الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون في الدمام والنادي الأدبي في الدمام أيضًا.

وقد حضر النسخة الأولى من المهرجان وزير الثقافة والإعلام شخصيًا آنذاك إياد بن أمين مدني، وخُصصت الدورة لتكريم المخرج السعودي عبد الله المحيسن، وعرض المهرجان 44 فيلمًا وهو عدد كبير بالنظر إلى الظروف في ذلك الوقت، وأتت الدورة الثانية في 2015 وكانت أكثر مهنية واحترافية من سابقتها، ومن يومها فقد أصبح المهرجان قبلة للمخرجين السعوديين من شتى المناطق، ومن مختلف الخبرات المهنية والأكاديمية.

ولعل أهم ما قد يفعله المهرجان السينمائي هو دعم صناعة الأفلام المحلية، وهذا هو الهدف الأوّل الذي يجب أن يحققه المهرجان خصوصًا في بلدٍ مثل السعودية حيث لم تزل السينما في بداياتها المبكرة جدًا.

بلغ عدد الأفلام التي عرضت في دورة العام الماضي من مهرجان أفلام السعودية 88 فيلمًا سعوديًا، ومن ناحية أخرى أعلن مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في سبتمبر الماضي عن برنامج “سينما السعودية الجديدة” ضمن فئة الأفلام القصيرة، تزامنًا مع اليوم الوطني السعودي، وتم اختيار 19 فيلمًا يتراوح طولها بين 5 دقائق و 44 دقيقة.

وصرّح محمد التركي الرئيس التنفيذي لمؤسسة البحر الأحمر السينمائية بأنّ هذا البرنامج يعكس: “التزامنا الدائم بدعم المواهب السعودية السينمائيّة، فهو برنامج مكرّس لصنّاع الأفلام الحالمين الذي يطمحون لتشكيل مستقبل السينما السعودية”. وتنوّعت الأفلام بين الوثائقي والروائي والـ”أنيميشن” مثل فيلم “سليق” للمخرجة أفنان باويّان، و”خالد الشيخ: بين أشواك الفن والسياسية” لجمال كتبي، و”أنا بخير” لفيصل الزهراني.

إلى جانب عرض الأفلام، تضم المهرجانات في السعودية المسابقات التي تهتم بتطوير هيكل الأفلام والسيناريوهات، وتقديم حزمة من البرامج الشاملة للندوات والورش التدريبية، وإصدار كتب وترجمة أخرى من أجل تكوين حصيلة معرفية أكاديمية وخبراتية فيما يخص صناعة السينما.

عند الحديث عن تقديم سينما للجمهور السعودي، يجب التوقف عند التجربة اللافتة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي.

هذا المهرجان هو أول مهرجان سينمائي دولي في السعودية، أُطلقت النسخة الأولى منه في ديسمبر 2020، وعرض في دورته السابقة التي أقيمت من 1 وحتى 10 ديسمبر، 131 فيلمًا من الأفلام الطويلة والقصيرة من 61 دولة وبـ 41 لغة، واستضاف 34 فيلمًا في عرض عالمي أول، و17 فيلمًا في أول عرض عربي، و47 عرضًا لأفلام من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

وبدوره يشمل مهرجان البحر الأحمر عددا من الفعاليات والبرامج التي تعزز من فرص التواصل بين صانع الفيلم السعودي ونظيره من كل قارات العالم تقريبا، فهناك، على سبيل المثال، سوق البحر الأحمر، وهو سوق المهرجان النشط، ويرد في موقع المهرجان أنّه يحتوي “على برامج مكرّسة لصناعة السينما؛ ويشمل سوق المشاريع وعروض الأعمال قيد الإنجاز، وينطلق من هدف مدّ جسور التواصل مع قطاع صناعة السينما في كلٍّ من العالم العربي وأفريقيا” 

كما يوفّر السوق نظرةً غير مسبوقة على أفضل “إنتاجات ومشاريع السوق الأفريقي والعربي التي يحتضنها السوق ويستقطب صنّاعها، جنبًا إلى جلسات التواصل المنسّقة خصيصًا لتشجيع ورعاية المواهب الجديدة وصانعي الأفلام الواعدين”

وفي الحقيقة فإن التركيز على أفريقيا نقطة هامة جدًا ليس فقط لأسباب فنية، بل أيضًا لأسباب اجتماعية وتاريخية وثقافية، إذ تربط علاقة وثيقة بين أفريقيا والمنطقة الغربية السعودية، بحكم التقارب الجغرافي، وكذلك بالنظر إلى كون جدة ميناءً إسلامياً استقبل ملايين الحجاج من أفريقيا على مدار قرون طويلة، وقد أثّر هؤلاء في نواحً كثيرة خصوصًا في الجوانب الفنيّة، مثل المطربة عتاب وهي أشهر فنانة سعودية من أصول أفريقية، وأول مطربة سعودية قدّمت الفن الاستعراضي على المسرح، وأوّل مطربة سعودية تلتقط صورة مع الراحل عبد الحليم حافظ!

“منذ إطلاق فيلم “The Hobbit” ارتفع عدد السُيّاح حتى بلغ 2.83 مليون، وزاد الإنفاق من قبل الزوار بنسبة 10% ليصل إلى 7,2 مليار دولار مع نهاية عام 2014. كما يؤكد المختصون بالسياحة العالمية أن واحدًا من أصل خمسة أشخاص تؤثر السينما في قرار سفره السياحي، وأن السينما السياحية سببًا رئيسيًا في توافد السُيّاح على ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية.

وقد ردت الفقرة السابقة في موقع مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي “إثراء”، وهو أحد الجهات السعودية الضالعة بقوة في صناعة السينما في السعودية، وما يذكره الموقع أن السعودية تسعى بقوة ضمن خطتها لتنفيذ رؤية 2030، والمقصود إسهام السينما في الجذب السياحي.  

يذكر الكاتب هاني بشر في مقالٍ له بعنوان “كيف تنعش السينما صناعة السياحة في العالم؟ ” أنّ تونس أعلنت في العام الماضي عن تدشين “تونس وجهتنا” والذي يشمل جولة تقتفي أثر المواقع التي تم فيها تصوير أفلام عالمية شهيرة مثل أفلام “حرب النجوم” (Star Wars) و”لي” (Le) وغيرها من الأفلام، ويشمل المسار 12 موقعا موزعا على 9 جهات من شمال البلاد إلى جنوبها”.

ولكن، هل يمكن لمهرجانات السينما أن تُساهم في ذلك؟ بالطبع!

لقد اختار القائمون على مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي مدينة جدة التاريخية لإقامة المهرجان عليها، وهي منطقة تعود إلى مئات السنين، كما أُدرجت في قائمة التراث العالمي في 2014، وتتميّز بمبانيها البيضاء، وأزقتها المرصوفة بعناية، والدكاكين ذات الطراز القديم.

كما نظم مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي العام الماضي، بالشراكة مع الدورة الثانية من مهرجان فنون العُلا، عروض أفلام متنوعة في المدينة التاريخية ضمن فعاليات “أسبوع العُلا السينمائي”، وتُعتبر هذه المنطقة إحدى الوجهات السياحية التي تكرّس رؤية 2030 لها الكثير من الدعم والترويج.

وكل هذا يُساهم، عامًا بعد آخر، في جذب السياح، وبالتالي المساهمة في القطاع الاقتصادي، وكذلك تغيير الصورة النمطية عن السعودية لدى الدول الأخرى.

هنا مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي ينجح بشكلٍ واضح، ويُمكن التركيز على نقطتين اثنتين، أولهما الميزانية المرصودة للدعم، والثانية الفائدة التي يجنيها صانع الفيلم من كون الدولة المانحة، وهي السعودية، تقع في قلب المنطقة.

يقدم المهرجان ما يسمى بـ”دعم صندوق البحر الأحمر” الذي يغطي كافية مراحلة صناعة الفيلم مقسمة على أربعة مراحل، تبدأ بمرحلة التطوير، وتنتهي بمرحلة ما بعد الإنتاج.

وقد دعم المهرجان منذ 2021 أكثر من 200 فيلم من حول العالم، وبميزانيةٍ وصلت في بعض الأحيان إلى نصف مليون دولار للفيلم الواحد.

من جهة أخرى، موّل المهرجان عددًا من الأفلام التي عُرضت و/ أو فازت في أهمّ المهرجانات الدولية، مثل المغربي “كذب أبيض”، والسوداني “وداعًا جوليا”، واليمني “المُرهقون”، والتونسي “بنات ألفة”، والمصري “هاملت من عزبة الصفيح”، والفلسطينيّ “عزيزي السيد تاركوفسكي” والعراقي “جنائن معلقة”.

النقطة الأخرى أو الميزة التي يمنحها المهرجان لهذه الأفلام إلى جانب الميزانية، ونعتبرها الأهم، هي عدم اشتراط أجندة معينة تفرضها وجهة النظر الاستشراقية التي يتميّز بها المانح الأجنبي، فليس بالضرورة أن يكون الفيلم عن الختان، والثأر، وتعداد الزوجات كي يحظى بالدعم، كما أنّ السعودية، مثل الدول العربية الأخرى أكثر بعدًا عن تطبيق معايير الصوابية السياسية في الأفلام، وهي المعايير التي أثرت سلبًا على صناعة الأفلام على مستوىً عالمي.

وإن أمرًا كهذا لابد أن ينعكس إيجابيًا بشكل كبير على جدّة المواضيع، وتنوعها، وملامستها للواقع، وجعلها أكثر ذاتية، وواقعية، وبالتالي أكثر جمالية وفنية، لا تحبس أفلام الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في أجواءٍ أكل عليها الدهر وشرب وقضى حاجته.

من ناحية أخرى يرى البعض أن الميزانيات المرصودة لقطاع السينما في السعودية لا زالت غير متكافئة مع حجم الأهداف الكبيرة التي وضعتها المملكة.

ويذكر تقرير في صحيفة “العرب” بعنوان “صندوق السينما السعودية: طموحات كبيرة بميزانية محدودة”: “في حال أرادت المملكة الاستثمار في إنتاج أفلام “عالمية” فلن يكون مبلغ الدعم كافيا لإنجاز فيلمين في السنة بالنظر إلى متوسط ميزانية الأفلام المنتجة عالميًا”، ويذكر التقرير في موضعٍ آخر: “بالإضافة إلى ذلك يبدي العالم وكبرى المهرجانات السينمائية العالمية اتجاها نحو السينما العربية “باهظة الثمن”، ولم تعد أسواق السينما تبدي تعاطفا مع السينما القادمة من العالم الثالث بميزانيات ضعيفة وتقنيات إنتاج محدودة، بل هي توازن بين مواضيع الأفلام ومستواها الإنتاجي. ومن المتوقع أن تكون النظرة أكثر تشددا للسينما القادمة من السعودية، البلد الثري والذي وضع نصب عينيه الانتشار والمنافسة العالمية.

الحديث عن تأثير المهرجانات السينمائية يطول، وله آثار يصعب حصرها في مقالٍ أو اثنين، لكن إذ استمر مستوى المهرجانات السينمائية في السعودية في النمو، فإن الأثر الذي ستخلفه، محليًا وإقليميًا، سيصبح قويًا، ودائمًا، ومتعدد المستويات، خصوصا في الجانب التمويلي، الذي نأمل أن تستمر المهرجانات السعودية في ملئه باحترافية ودون تمييز.

Visited 4 times, 1 visit(s) today