من كلاسيكيات كان: “فاي دوناواي”.. أسطورة سينمائية
أمير العمري
استطاعت فاي دوناواي أن تصبح أسطورة في عالم السينما، فهي حاضرة في ذاكرة جمهور السينما في العالم بأفلامها المتميزة ومنها ما ساهم في تشكيل ملامح حركة التمرد على هوليوود القديمة، التي أطاحت بالصور والأنماط السينمائية القديمة، وفرضت طرقا وأساليب جديدة في الإخراج والتمثيل.
فاي دوناواي الآن في الحادية والثمانين من عمرها، وقد قل ظهورها في عالم الأفلام، ولكنها عادت تطل علينا من خلال الفيلم الوثائقي البديع “فاي” Faye (2024) الذي عرض في الدورة الـ77 لمهرجان كان السينمائي.
عادة ما تظهر مثل هذه النوعية من الأفلام الوثائقية التي توثق لمسيرة حياة فنان، بعد أن يكون قد غاب عن عالمنا، إلا أن “فاي” أنتج في حياة النجمة الأمريكية وفي حضورها ومشاركتها المباشرة في الفيلم نفسه. وكانت المفاجأة الأخرى، حضور دوناواي بنفسها إلى قاعة العرض في مهرجان كان، مستندة على ذراع مخرج الفيلم، أي المخرج الفرنسي- الأمريكي “لوران بوزيرو”. وفي حديثها إلى الجمهور قالت إن علاقتها بالمهرجان قديمة، وإنها كانت تحرص دائما على الحضور، ليس بالضرورة مع فيلم من أفلامها، بل لمشاهدة جديد الأفلام، والاستمتاع بالمشاركة في الاحتفال السنوي الكبير بفن السينما.
يعرض فيلم “فاي” لحياة دوناواي، ومسيرتها في عالم السينما، بداية من نشأتها وسط عائلتها، ثم تقلبها بين أدوار عديدة، ما يقوله عنها النقاد والسينمائيون الذين عملت معهم، أزواجها وعلاقاتها الغرامية، قربها وابتعادها عن هوليوود، وعلاقتها مع ابنها بالتبني. إنه باختصار فيلم عن العائلة، الحب والغيرة، والنجاح، والمزاج الصعب، والمرض، والطموحات الكبيرة، والإحباطات، والإدمان، والاكتئاب، النظر إلى الماضي، والتطلع إلى المستقبل.
يصور الفيلم كيف ترى دوناواي نفسها اليوم بعد أن تقدم بها العمر، وكيف يراها الآخرون، ويظهر في الفيلم عدد كبير من الشخصيات التي عرفتها عن قرب مثل الممثل ميكي رورك الذي شاركها فيلم “الشرهة”، والناقد مارك هاريس صاحب كتاب “مولد هوليوود الجديدة”، والممثل باري بريموس زميلها في فيلم “لغز الطفلة الساقطة” (1970)، والمخرج يرزي شاتزبرج مخرج الفيلم نفسه الذي ارتبطت معه في فترة ما من حياتها، بعلاقة عاطفية، والممثلة شارون ستون التي ارتبطت معها بصداقة وطيدة وكانت ومازالت من أشد المعجبين بها، وتقول إنها تعلمت منها الكثير. وهناك أيضا عدد من الصحفيين والنقاد من أمثال ديفيد ايتزكوف ومايكل كورسكي وأنيت انسدورف وجولي سالامان.. وغيرهم.
إلا أن أهم ما يميز الفيلم هوما تقوله وترويه دوناواي نفسها، عن نفسها، في اعترافات نادرة، وبوح صريح، يكشف الكثير من المواقف والتفاصيل التي يخشى الكثيرون عادة البوح بها.
إنها تتحدث مثلا عنما عرف عن شخصيتها الصعبة، أي أنها ممثلة يصعب أن يسيطر عليها المخرجون تماما، وأنها ليست طيعة عندما تقف أمام الكاميرا، ولاشك أن هذا يرجع إلى أنها، مثل كل الممثلين الذين تعلموا ما يعرف بـ”ميثود” أو المنهج الخاص في الأداء الذي عرفت به مدرسة “استديو الممثل” الشهيرة في نيويورك التي كان يديرها إيليا كازان ولي ستراسبوغ، خصوصا أنها تدربت أساسا على يدي كازان في الفرقة المسرحية التي كان يديرها في مركز لينكولن للفنون في نيويورك.
فاي دوناواي من نوع الممثلين الذين يعيشون داخل الشخصيات التي يتقمصونها، فهي تتماهى مع الشخصية، ثم تسقط من نفسها عليها بحيث تختفي الممثلة تظهر فقط هذه الشخصية، لذا كانت كثيرا ما تبدو وقد أصبحت “خطيرة” يخشى الآخرون الاقتراب منها خلال اندماجها في أدوارها.
كان والد دوناواي مدمنا للخمر، وتعترف هي بأنها ربما تكون قد ورثت عنه تلك العادة التي استمرت معها لسنوات قبل أن تتخلص منها بالعلاج الطويل، ولم تكن علاقتها بوالدها قوية، بل كانت أمها هي سندها الأول في الحياة منذ طفولتها، وهي التي شجعتها على دخول عالم التمثيل. لقد أرادت بكل كيانها أن تصبح ممثلة، وأن تحقق الشهرة.
تخرجت دوناواي من جامعة بوسطون، وأخذت دروسا في الدراما، ثم قامت ببعض الأدوار في مسرحيات برودواي من بينها مسرحية “رجل لكل العصور”، قبل أن تأتيها الفرصة عام 1965 للقيام ببطولة فيلم “الحدث” The Happening أمام أنطوني كوين، وكانت تلعب فيه دور “ساندي”، وهي عضو في عصابة محتالين من ثلاثة أشخاص، يختطفون مجرما تائبا (أنطوني كوين) سرعان ما يقتنع بالاشتراك معهم في عملية خطفه الوهمية بغرض الحصول على فدية مالية ضخمة من زوجته ورئيسه السابق في العصابة. ورغم أن الدور كان صغيرا إلا أنه لفت الأنظار إلى موهبتها، فكانت البطولة الثانية في الفيلم الشهير “بوني وكلايد” (1967) الذي سيصنع منها نجمة كبيرة.
تروي دوناواي أن آرثر بن، مخرج “بوني وكلايد”، هو الذي أصر على إسناد دور “بوني” إليها، رغم اعتراض بطل الفيلم وورين بيتي الذي كان منتج الفيلم أيضا، فقد كان يرغب في إسناد الدور إلى جين فوندا أو ليزلي كارون أو تيوزداي ويلد، لكن المخرج هدد بالانسحاب من الفيلم إن لم يسند الدور إلى دوناواي. وكانت المفاجأة أنها تألقت فيه، وحقق الفيلم نجاحا كبيرا، وكان فاتحة موجة جديدة غيرت شكل هوليوود القديم. وقد رشحت دوناواي عن دورها فيه لجائزة الأوسكار، رغم أنه كان ثالث ظهور لها في السينما، ولم تكن قد تجاوزت 26 عاما.
سيصبح فيلم “الحي الصيني” (1974) لرومان بولانسكي، الاختراق الثاني الكبير في مسيرتها الفنية، وفيه تقوم بأداء شخصية مركبة، ابنة لرجل من كبار الأثرياء الضالعين في الفساد، يتقرب منها محقق خاص (يقوم بدوره جاك نيكلسون) الذي يبحث في خفايا تلك العصابة التي يتزعمها والدها، وهي ستكشف له عن أسرار بالغة الخطورة.
تروي دوناواي كيف أنها أثناء أداء مشهد معين في هذا الفيلم وهي تجلس أمام جاك نيكلسون، لمح بولانسكي شعرة بارزة لأعلى من شعرها، فأوقف التصوير، وقامت هي بتسوية شعرها لكن مع استئناف التصوير برزت الشعرة إلى أعلى مجددا، وتكرر الأمر. وعندما ضاق بولانسكي ذرعا، نهض واتجه إليها وانتزع تلك الشعرة من رأسها بقوة وهو ما اعتبرته اعتداء لا يغتفر، فانسحبت ورفضت استكمال التصوير. واقتضى الأمر محاولات عديدة بذلها طاقم التصوير، إلى أن قبلت العودة بعد أن وضعت مصممة الأزياء قبعة فوق رأسها لتصبح من العلامات التي تميز شخصيتها في الفيلم!
تكشف دوناواي بجرأة أيضا عن إصابتها باضطراب ثنائي القطب، وهو ما كان يجعلها تدخل في نوبات اكتئاب شديدة، وتعتكف ثم تنهض مجددا وهي تشعر بنشاط غير عادي، وكانت تبلغ أحيانا من التوتر ما يجعل من الصعب السيطرة عليها أثناء التصوير. ولعل هذا يسلط الكثير من الضوء على جانب كان غامضا من شخصيتها العصية على الفهم أحيانا.
وهي تروي في الفيلم عن علاقتها بالمصور البريطاني العالمي الشهير تيري أونيل، الذي تزوجته وعاشت معه أربع سنوات، وتبنى كلاهما طفلا هو “ليام أونيل” الذي لم يكن قد بلغ أسبوعا من عمره. ويظهر في الفيلم “ليام” وهو يجلس بجوارها، يقلب في ألبوم ضخم يضم عددا كبيرا من الصور، سواء الصور العائلية، أو صور دوناواي الخاصة من فترات مختلفة من حياتها، ويطلب منها التعليق عليها، أو يذكرها بالمناسبات التي التقطت فيها.
ويقول ليام إنه لم يهتم قط أو يسعى لمعرفة والده الحقيقي، بل تقبل تماما انتمائه إلى أونيل ودوناواي، ولم يجد نفسه في أي وقت، غريبا عن أمه بالتبني التي أحبته بكل مشاعرها ورعته دائما.
ولعل من أهم الصور التي تتوقف أمامها دوناواي، صورتها الشهيرة التي التقطها زوجها تيري أونيل، صباح اليوم التالي لفوزها بجائزة الأوسكار عن دورها في فيلم “شبكة الأخبار”، وهي تجلس بجوار حمام السباحة في الفندق الذي كانت تقيم فيه بضاحية بيفرلي هيلز في هوليوود، ونرى فوق المائدة تمثال الأوسكار، وعلى الأرض الصحف المختلفة التي نشرت خبر فوزها بالأوسكار على صفحاتها الأولى.
تتحدث دوناواي باقتضاب عن زواجها الأول (من مغني الروك الأمريكي بيتر وولف) ثم زواجها الثاني من أونيل، إلا أنها تتحدث بكثير من التأثر- عن علاقتها التي استمرت لسنوات مع الممثل الإيطالي الشهير مارشيللو ماستروياني، الذي تصفه بأنه حب حياتها، وكانت قد ارتبطت معه بعلاقة عاطفية أثناء تصوير فيلم “مكان للعشاق” (1968) إخراج فيتوريو دي سيكا، الذي صور في روما، وكان يكبرها بسبعة عشر عاما، وكان متزوجا، وقد انتهت علاقتهما بعد سنتين، وتقول إنها رفضت الاستمرار في الإقامة في إيطاليا، وقررت العودة بسبب حاجتها للعمل في بلدها. فهي ترى أنها خلقت لكي تعمل، وأنها لا تستطيع التوقف عن التمثيل.
فازت دوناواي بالأوسكار عن دورها في فيلم “شبكة الأخبار” The Network (1976) للمخرج سيدني لوميت، وفيه تقوم بدور مديرة البرامج في شبكة تليفزيونية، تستغل قيام مذيع مشهور بالانفجار في نوبة غضب على الهواء بعد أن علم أن الشبكة ستستغني عنه بسبب انخفاض أرقام المشاهدين، وإعلانه بأنه سينتحر لفقدانه الثقة في العالم كله، وتحاول أن تبقي على البرنامج الذي يقدمه المذيع بعد أن ارتفعت أعداد مشاهديه إلى عدة ملايين بعد هذا الإعلان المثير، كما تخطط لحشو البرنامج بمزيد من الأحداث المفبركة لزيادة شعبية البرنامج. ويستخدم الفيلم مقطعا من مقابلة مع المخرج وهو يتحدث عن أداء دوناواي الذي صبغت به الشخصية، بعيدا عن أي مشاعر أو نقاط ضعف، قائلا إنه كان سيستبعد أي شيء يمكن أن يؤدي إلى التعاطف معها، وأنها نجحت في تجسيد شخصية قاسية القلب لا يهمها سوى النجاح بمفهوم الرواج السلعي فقط.
من أهم ما يتضمنه الفيلم مقاطع كثيرة مختارة بعناية ودقة شديدة، من أهم أفلام دوناواي، بحيث تعكس قوة الشخصية التي تؤديها وكيف تعاملت معها، وهي التي عرفت بأداء الأدوار المركبة، المعقدة، ذات الأبعاد النفسية، ومن أشهر تلك الأفلام “قضية توماس كراون”، “ثلاثة أيام للكندور”، “عينا لاورا مارس”، “الرجل الكبير الصغير”.
وتتوقف دوناواي طويلا أمام دورها في فيلم “ماما العزيزة” Mommie Dearest (1981) الذي قامت فيه بأداء شخصية الممثلة الأمريكية المخضرمة جوان كراوفورد، التي عرفت بشراستها وغرابة أطوارها، ونشاهد مقاطع من الفيلم تظهر فيها دوناواي وهي تسيء معاملة ابنتها الصغيرة وتضربها بشكل قاس. ورغم أنها تقمصت الشخصية بشكل مقنع إلا أنها تعرضت لهجوم شديد من جانب النقاد الذين وجهوا أيضا انتقادات شديدة إلى الفيلم نفسه، وهي ترجع ذلك الى إهمال مخرج الفيلم “فرانك بيري” توجيهها أو التحكم في أدائها، لكي لا تنحرف في اتجاه المبالغة الشديدة. إلا أن الممثلة “مارا هوبل” التي أدت دور ابنتها “كريستينا” في طفولتها، والتي تعرضت للإساءة الشديدة من جانبها (في الفيلم طبعا)، تظهر في الفيلم الوثائقي بعد أن تقدمت في العمر الآن (52 عاما)، وتقول إن علاقتها مع دوناواي أثناء العمل في الفيلم كانت جيدة، وأنها لم تكن تخشى المشاهد التي تهاجمها فيها بعنف، وأبدت أسفها الشديد لما قوبل به الفيلم من سخرية.
ومن المفارقات أن هذا الفيلم، الذي قصد أن يكون من نوع الدراما النفسية المعقدة عن حياة ممثلة مشهورة، كان يضحك الجمهور في عروضه الأولى، الأمر الذي دفع الشركة الموزعة له إلى إعادة الترويج له باعتباره فيلما كوميدياً!
من المقاطع الطريفة التي تظهر في الفيلم الوثائقي، المقطع الذي تظهر فيه الممثلة المخضرمة بيتي ديفيز وهي تجيب عن سؤال عن الممثلة التي يمكن أن ترفض العمل معها، فتقول دون تردد وبشكل حاسم: فاي دوناواي!
طبعا دوناواي ترجع السبب في صعوبة شخصيتها، ومزاجها المتقلب وصعوبة إرضائها، إلى الاضطراب الثنائي القطب. لكن لديها أيضا نزعة لاشك فيها، إلى تحقيق الكمال الفني في الأداء، في الإحاطة بالشخصية، في المحافظة على الصورة التي استقرت لها في أذهان الجمهور، وهو ما يجعلها نجمة في كل العصور.
كان المخرج الكبير إيليا كازان يمتدح قدرتها على التعبير بقوة عن مشاعرها الخاصة من خلال الشخصية التي تؤديها، وهو يظهر في مقطع قديم (بالأبيض والأسود) يشيد بها وبأدائها، ولكن هناك شعورا يسود الفيلم، بأن ما وجه إليها من اتهامات بالمبالغة والتدقيق حد الهوس، في كل التفاصيل الفنية التي لا علاقة له بالأداء، والرغبة في التحكم في كل شيء خلال التصوير، ربما يرجع إلى كونها امرأة، أي أنها لو كانت رجلا، لربما تم التغاضي عن سلوكها هذا. وهي مسألة أخرى ترتبط بالعصر الذي ظهرت فيه فاي دوناواي، حينما قدمت نموذجا جديدا للمرأة، أولا في “بوني وكلايد”، ثم في غالبية أدوارها في السينما.