من الذي قتل بيير باولو بازوليني؟

الممثل الأمريكي وليم دافو في دور بازوليني الممثل الأمريكي وليم دافو في دور بازوليني
Print Friendly, PDF & Email

في الثاني من نوفمبر عام 1975، عثر خارج روما في منطقة خربة، مليئة بالقمامة وبقايا حطام السيارات ومستودعات الغاز، على جثة الشاعر والسينمائي الشهير بيير باولو بازوليني وعليها آثار واضحة لمرور عجلات سيارة فوقها عدة مرات. وكانت الشرطة قد قبضت قبل ساعتين فقط من اكتشاف جثة بازوليني على شاب يدعى جيوسيبي بيلوسي يقود سيارة من نوع “ألفا روميو” وهي التي يمتلكها بازوليني. وأثناء استجوابه بتهمة سرقة السيارة، اعترف بيلوسي فجأة، بأنه قتل بازوليني.

قال بيلوسي في شهادته التي تطوّع بالإدلاء بها دون ضغط، إن بازوليني الذي عرف بشذوذه الجنسي، اصطاده في محطة روما للقطارات، ثم قاده بسيارته إلى خارج روما حيث حاول إرغامه على ممارسة الجنس معه فقاوم الشاب لأنه، كما قال، لم يرتح للطريقة التي أراده أن يمارس معه الجنس بها، فأخذ بازوليني يضربه بعنف في رأسه، فقاوم الشاب بأن تناول لوحة خشبية كانت ملقاة في المكان وأخذ يضرب بها بازوليني ثم قاد سيارة بازوليني الألفا روميو وهرب بها من المكان إلى أن قبضت عليه الشرطة.

صور بيلوسي الحادث إذن مستغلا عدة نقاط: الأولى أن بازوليني كان شاذا، محاولا تصويره على أنه كان أيضا متطرفا في سلوكه، الأمر الذي يجعل بيلوسي يلقى تعاطف المحققين والرأي العام المحافظ. وثانيا اعتبر الجريمة دفاعا عن النفس ضد قاتل سادي مجنون شاذ. والثالثة أنه تحت السن القانوني (خمسة عشر عاما)، وبالتالي فهو واثق من أنه لن يحاكم كمسؤول عن الجريمة بل سيلقى عقابا مخففا للغاية.

ومن الوهلة الأولى كان واضحا أن قصة بيلوسي محكمة البناء، وبالتالي ليس من الضروري أن تكون حقيقية. وقد تشكك فيها المحقق الذي عيّن في البداية للتحقيق في القضية وظل في ما بعد على اعتقاده الراسخ بأن بيلوسي لم يكن وحده وإنما اشترك معه آخرون ربما كانوا مأجورين لحساب الجهات الأعلى التي كان من مصلحتها التخلص من بازوليني.

وأصبح السؤال الكبير منذ تلك الحادثة البشعة: من الذي قتل بازوليني؟

لقطة من فيلم “بازوليني: جريمة ايطالية”

هذا السؤال تناوله المخرج الإيطالي مارك توليو جيوردانا في واحد من أشهر وأفضل الأفلام التي تناولت جريمة قتل بازوليني وهو فيلم “بازوليني: جريمة إيطالية” (1995)، دون أن يسعى إلى تقديم إجابة واضحة عليه تقطع بهوية القاتل، ولكنه يركز على تصوير السيناريوهات الأخرى المحتملة لعملية “اغتيال” بازوليني في ضوء الظروف السياسية الخاصة بالوضع الإيطالي في تلك الفترة.

كانت إيطاليا في منتصف السبعينات مستقطبة بين اليمين واليمين الفاشي، واليسار الاشتراكي والفوضوي. وكانت تعاني من الإضرابات والمظاهرات وعمليات الانتفاض على الأوضاع المتردية اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، وكان الحزب الديمقراطي المسيحي ينفرد وحده بالسلطة لمدة ثلاثين عاما، وكانت قوى خارجية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة تبذل كل ما تستطيع كي لا يصل اليسار إلى السلطة في وقت حقق فيه اليسار نفوذا بارزا في الشارع السياسي.

وكان مسلسل الفضائح السياسية متواليا، والانحدار متواصلا من مجتمع التعددية السياسية والفكرية إلى مجتمع الحزب الواحد الذي يخضع من جهة لنفوذ قوة عظمى تنشر قواعدها العسكرية في إيطاليا، ومن جهة أخرى للمافيا التي ظلت دائما المؤسسة السياسية البديلة في المجتمع الإيطالي.

وكان بازوليني علما فكريا من أعلام اليسار الفكري، ورمزا لروح الانتفاض على الواقع، ثقافيا وسياسيا. ولم يكفّ بازوليني لحظة عن التعرض بالنقد للمؤسسة كأعنف ما يكون النقد. ويكفي أن نطالع آخر ما كتبه بازوليني قبل أسبوع واحد من موته:

“التفاهة، وازدراء الشعب، والتلاعب بالمال العام، والصفقات غير المشروعة مع شركات النفط والبنوك ورجال الصناعة، والتستّر على المافيا، والخيانة العظمى لحساب دولة خارجية، والتعاون مع المخابرات المركزية الأميركية، والاستخدام غير المشروع للمؤسسات، والمسؤولية عن الانفجارات التي وقعت في ميلانو وبروسيا وبولونيا (أو على الأقل بالنسبة إلى التستر على المسؤولين المباشرين عنها)، وتدمير البيئة.. والمسؤولية عن الأوضاع المخيفة للمدارس والمستشفيات وكل مؤسسة عامة في الدولة، وعن الهجرة الوحشية للمزارعين، وعن الانفجار ‘الوحشي’ لوسائل الإعلام، وعن البلادة الإجرامية للتلفزيون“.

وعندما تلقى الرأي العام الإيطالي نبأ مقتل بازوليني قامت الدنيا ولم تقعد. فقد كان بازوليني علما من أعلام الثقافة الإيطالية المعاصرة وشاهدا عظيما على أحداث عصره، ورائدا من رواد تحرير الشعر وتطوير اللغة الإيطالية، كما كان سينمائيا عظيم الشأن، وكان ينشر أفكاره الجريئة التي تسبب إزعاجا شديدا للمؤسسات السياسية بما في ذلك الحزب الشيوعي الإيطالي الذي طرد.

بيلوسي كما في الفيلم

وقد ظلت الصحافة الإيطالية لفترة طويلة، تسلّط أضواء كثيرة على “الحياة الجنسية” لبازوليني، وتتخذها مادة للإثارة ولتأليب الرأي العام عليه، رغم أن بازوليني لم يكن مجرد فنان له شطحاته وخيالاته الجنسية الخاصة، بل كان في الحقيقة أحد كبار الفنانين الذين تركوا تأثيرا لا يمحى على جوهر الثقافة الإيطالية.

وكانت متاعب بازوليني قد بدأت منذ مرحلة مبكرة في حياته عندما كان لا يزال يعيش في القرية التي ولد فيها مع والديه، فقد كان أبوه مدمنا للخمر، شديد الغيرة على زوجته، يشرب يوميا ويضرب زوجته بانتظام. وعندما أكمل بازوليني دراسته العليا التحق بالعمل كمدرس في مدرسة القرية، لكنه اتهم بارتكاب الفاحشة مع ثلاثة من التلاميذ ففقد وظيفته وهو في السابعة والعشرين من عمره، وبعد أيام طرد من الحزب الشيوعي بسبب ما زعموه عن “تفاهة أفكاره سياسيا وأخلاقيا”. ورغم أن الشرطة أسقطت التهمة عنه بعد ذلك إلا أنه غادر القرية مع أمه في نفس العام، أي 1949 إلى روما.

وفي روما كتب بازوليني خمسين كتابا وأخرج عشرين فيلما روائيا طويلا، وتراوحت كتبه بين الشعر والرواية والقصة القصيرة والنقد، كما كتب المئات من المقالات للصحافة في شتى المواضيع، من الأزياء إلى علم اللغة إلى السياسة، وكان بازوليني أيضا رساما ومخرجا مسرحيا.

 لكن عمله السينمائي أثار ضده كما حدث بالنسبة إلى شعره، غضب أوساط كثيرة، فتعرض للمحاكمات وللسجن ومصادرة الأفلام كما حدث مع أفلامه “نظرية” و”حظيرة الخنازير” و”حكايات كانتربري”. لكنه كان يدافع عن نفسه ويتخذ من محاكماته فرصة للترافع لصالح حرية التعبير الفني في إيطاليا. ونجح في جميع الحالات في إسقاط التهم الموجهة إليه، مواصلا العمل إلى آخر لحظة في حياته، فقد قُتل قبل أن ينتهي من إتمام المونتاج لفيلمه الأخير الذي كرسه لفضح الأساليب السادية الوحشية للفاشيين، في وقت تعززت فيه قوتهم في الساحة السياسية الإيطالية مجددا، وهو آخر أفلامه “سالو” أو “150 يوما في حياة سادوم”.

أنتجت حتى الآن أربعة أفلام عن بازوليني، أحدثها هو الفيلم الروائي الطويل – من الإنتاج المشترك بين إيطاليا وفرنسا وبلجيكا- “بازوليني” (2014) الذي أخرجه الأمريكي من أصل إيطالي- أبيل فيرارا.

لقطة من فيلم “بازوليني” لابيل فيرارا وبطولة وليم دافو في دور بازوليني

تحدث المخرج فيرارا كثيرا عن فيلمه واصفا إياه بأنه فيلم عن الحاضر وليس عن الماضي، وأن هدفه لم يكن البحث عمن قتل بازوليني، بقدر ما كان يريد أن يقدم صورة المبدع الكبير في أيامه الأخيرة (خلال يومين فقط)، وتصوير ما كان يشغله من أفكار في تلك الساعات الثماني والأربعين قبل أن يواجه مصيره. غير أن فيرارا، بغض النظر عن تصريحاته هذه، كان في الحقيقة يتناول الماضي وليس الحاضر، كما كان يركز كثيرا على ملابسات مقتل بازوليني الذي خصص له المشهد الأكبر والأكثر أهمية في فيلمه.

بازوليني كان مشغولا في ذلك الوقت بكتابة رواية جديدة أطلق عليها “بتروليو”، كان يوجه فيها مزيدا من الهجاء للمجتمع الاستهلاكي، كما كان في مرحلة الاستعداد لبدء العمل في فيلم جديد.

تزوره ممثلة سيسند إليها دورا رئيسيا في الفيلم الجديد، كما يلتقي بالممثل الذي سيلعب بطولة في فيلمه. يتجاذب أطراف الحديث مع والدته التي تخشى عليه. يلتقي بصحفي يجري معه مقابلة لا تكتمل، حينما يقطعها بازوليني مفضلا أن يبعث إليه الصحفي بالأسئلة مكتوبة، حتى يتاح له الوقت أكثر للتفكير في الإجابة عنها، يصطحب ممثلا صديقا إلى العشاء.

نشاهده وهو يواصل كتابة فصل من روايته الجديدة باستخدام الآلة الكاتبة، ونستمع عبر شريط الصوت إلى الأفكار التي يعبر عنها.

هذه المشاهد والمقاطع العابرة ليست سوى تمهيد للمشهد الأكبر، أي لقاء بازوليني مساء بالشاب الذي لعب الدور الأساسي في وضع خاتمة لحياته. ما الذي حدث في ذلك المساء بالضبط؟ لا أحد يمكنه التكهن به تماما، لكن الرواية الشائعة تقول إن بازوليني الذي كان مثليا، تعرف في تلك الليلة من ليالي شتاء 1975، على شاب في الـ 17 من عمره يدعى “بينو بيلوسي”، من أولئك الشباب الذين يبيعون أجسادهم لمن يدفع الثمن.

وكما يظهر في الفيلم الجديد، يركب الشاب إلى جوار بازوليني في سيارته من طراز “فيراري”، ويذهبان إلى مطعم بإحدى ضواحي روما، حيث يتناول معه العشاء، ويسأله بازوليني (في الفيلم) ما إذا كان معجبا بسيارته، وهل يرغب في أن يقرضه إياها، ويغريه بالمال وبأنه على استعداد لأن يمنحه الكثير منه إذا شاء.

وعندما يختلي به في كابينة من كبائن التليفونات العامة في منطقة خالية مهجورة، يتغير الشاب ويفقد أعصابه ويضربه ضربا مبرحا، ثم سرعان ما تلتحق به مجموعة من الشباب الذين يعرفونه، فيسرقون بازوليني ويعتدون عليه بطريقة قاسية، ثم يركبون جميعا سيارة بازوليني التي يقودها بيلوسي ويمرّ بها فوق جسده.

ما حدث في الواقع أن بيلوسي اعترف بارتكاب الجريمة مصرّا على أنه كان بمفرده، لكنه عاد عام 2005 فاعترف بأنه قتل بازوليني بالاشتراك مع آخرين ورفض الإفصاح عن أسمائهم.

وقد عثر على جثة بازوليني في اليوم التالي ممزقة، حيث تم التمثيل بها، ووجدت إحدى أذنيه مقطوعة، وكبده ممزقا، وعظامه محطمة.

وكان من الواضح أن جريمة بهذا الشكل لم تكن مجرد ردّ فعل غاضب، بل ربما كان مخططا لها. وقد اتهم اليسار الإيطالي وقتها الفاشيين الجدد بقتل بازوليني، بعد زيادة حدّة هجومه عليهم خاصة في فيلمه الأخير سالو”.

المخرج فيرارا يقول إنه لا يتوقف أمام الجريمة بدعوى أن فيلمه ليس فيلما “بوليسيا” أو من أفلام التحقيق الجنائي، بل “بورتريه”  لشخصية مثيرة للجدل. لكن “البورتريه” الذي يقدمه يبدو مبتورا، ولم ينجح في تقديم الفنان من خلال إطار عصره ولا من حيث علاقته بأفلامه، بل يبدو بازوليني في الفيلم شخصية انعزالية منزلية تميل إلى الوحدة والكآبة.

بازوليني كان يكتب رواية جديدة قبيل مقتله

يعرض فيرارا مقاطع من فيلم بازوليني الأكثر هجائية لـ”المؤسسة” وهو فيلمه الأخير “سالو”، كما يصوّر مشهدا يكثف ما أراد بازوليني تقديمه في فيلمه الجديد الذي لم يقدر له أن ينجزه نرى فيه البطل الذي يقوم بدوره الممثل المفضل لدى بازوليني نينو دافوتي، وهو يذهب في رحلة إلى سادوم في وقت يصادف الاحتفال بما يسمى “عيد الخصوبة”، حيث يلتقي المثليون بالمثليات ويمارسون الجنس، لكي يحافظوا على الجنس البشري عن طريق الإنجاب، قبل أن يتفرقوا ويعود كل منهم إلى مثليته!

قام بدور بازوليني بشكل مقنع من ناحية الملامح الخارجية الممثل الأمريكي (من أصل إيطالي أيضا)، وليم دافو. ظهر البطل في الفيلم بملابس داكنة تشبه طريقة بازوليني في الملبس، وبنظارة بازوليني السميكة، لكن الإقناع بالشخصية يزول، بسبب أننا نرى “بازوليني” في الفيلم، يتحدث الإنجليزية حتى مع الصحفي الإيطالي، بل ومع أفراد عائلته وصحبه وهو ما أدّى إلى أن يفقد الفيلم العامل الأول المميز، أي اللغة التي تعد الأداة الأساسية في التعبير لدى الشاعر والكاتب، فهي جوهر ثقافته ومن دونها يصبح “كيانا هوليووديا” أي يظل “وليم دافو”!

Visited 111 times, 1 visit(s) today