من أفلام مهرجان الجونة:”مورينا”.. جرح المقاومة

Print Friendly, PDF & Email

سمكة “المورينا” أو كما يطلق عليها “موراي” هي تنتمي لفصيلة ثعبان البحر،  يوجد لديها فم واسع وفك قوي ومسلح بأسنان هائلة وحادة وهي من ضمن الأسمالك البحرية التي تجرح أو “تعض” نفسها أثناء مقاومة اصطيادها، وكان هذا هو القاسم المشترك بينها وبين البطلة  يوليا “جراسيا فيليبوفيتش” التي تتشابه حياتها وصفاتها بل وأزمتها مع سمكة المورينا في الفيلم الكرواتي البديع “Murina” أو “مورينا.

يعد الفيلم التجربة الروائية الطويلة الأولى لمخرجته أنتونيتا ألامات كوسِيانوفيتش الذي نافس خلال المسابقة الرسمية لمهرجان الجونة في الدورة الخامسة خلال المسابقة الرسمية  وسبق للفيلم المشاركة في قسم أسبوع المخرجين بمهرجان كان وحصل على جائزة الكاميرا الذهبية.

التشابه بين سمكة المورينا ويوليا كان كبيرا فقد جمعهما التمرد والمقاومة التي تصل إلى الإيذاء وحب البحر وإجادة السباحة والغوص، فقد اعتادت يوليا صباح كل يوم الغوص مع والدها أنتي “ليون لوسيف” لاصطياد أسماك المورينا حيث تعيش الأسرة في منطقة نائية على البحر بعيدا عن العاصمة زغرب.

 تعاني يوليا من قمع ومعاملة والدها الصارمة وعدم قدرتها حتى على الدخول في قصة حب أو الحياة بشكل طبيعي ومعانتها من غطرسته الشديدة تجاها وتجاه والدتها نيلا “دانيكا كوسيك” يبدو الأمر كأنه الهدوء الذي يسبق العاصفة التي بدأت بوادرها مع ظهور ضيف جديد.

الضيف الجديد هو خافيير( يؤدي دوره الممثل النيوزلندي كليف كورتيس) الذي يعود إلى كرواتيا  ويبدو أنه من أصول إسبانية، وخافيير صديق قديم للأب والأم، رجل أعمال شديد الثراء يتمتع بهدوء وابتسامة ساحرة وحنون ومحب لآخرين ولديه خفة ظل تجعله على النقيض تماما من شخصية أنتي والد يوليا.

جاءت عودة خافيير لتوقيع اتفاق مع صديقه القديم أنتي والمسؤلين في البلدة على إقامة مشروع سياحي ضخم على البحر لأن أنتي أصبح يواجه صعوبات تدبير أمور حياته خلال الحياة على تلك الجزيرة المنعزلة ويرغب في الانتقال والاستقرار بعيدا بعد الحصول على المال ويحاول اقناع صديقه بالمشروع.

عودة خافيير تسببت في إشعال النار داخل الأسرة التي كانت أقرب إلى إناء يغلي بشدة وعلى وشك الانفجار وانفجر بعد فترة قليلة من وجود هذا الضيف حيث تفجرت المشاعر المتشابكة بين الرباعي كلا منهم تجاه الآخر، يوليا في مقاومة والدها، ومن جهة أخرى التوتر بين أنتي ونيلا، والصدام والغيرة بين يوليا ووالدتها، لكن مخرجة الفيلم قصدت دائما وجود د تفصيلة غائبة عن المشاهدين هي التي كان علينا فك شفرتها خاصة علاقة خافيير مع نيلا “الأم”.

علاقة خافيير بأنتي كانت أكثر العلاقات وضوحا حيث انها صداقة قديمة تغلفها بعض المشاعر المتناقضة رغم أنهما من المفترض أنهما صديقان، من جانب أنتي نجد الغيرة نتيجة الفروق الاجتماعية ومن ناحية خافيير الحقد على أنتي لأنه استطاع الحصول على قلب نيلا أجمل فتاة في القرية ويبدو أن هذا الأمر هو الوحيد الذي عجز خافيير في تحقيقه رغم امتلاكه الثروة.

أما علاقة يوليا بخافيير فقد شهدت عدة تحولات في البداية وجدت فيه المعادل الإيجابي لوالدها ودعم هذا الأمر شعورها  بوجود إعجاب قديم متبادل بين خافيير وبين والدتها نيلا، ثم تحولت نظرة يوليا لخافيير لإعجاب خاصة بعد قضاء الثلاثي يوليا وخافيير ونيلا عطلة سعيدة معا، وفي كل الأحوال وجود خافيير جعل يوليا تنفجر تجاه والدها وجعلها تقاوم معاملته الجافة والشديدة مثلما تقاوم سمكة المورينا من يحاول اصطيادها، ليتحول أنتي لعدو من جانب يوليا.

في ظل كل التحولات في العلاقات الإنسانية المتواجدة خلال الأحداث  تظل شخصية الأم نيلا هي الأكثر هدوء والأقل في الحديث لكنها الاكثر غضبا، فهو الغضب المكتوم، نيلا هي الوسيط بين الثلاثي،  تلك المرأة التي تحملت صفات زوجها السيئة على مدار أعوام طويلة، تحاول بشتى الطرق استعادة تلك العلاقة التي سيطر عليها الفتور والجفاف.

تحمل نيلا حيرة تجاه مستقبل ابنتها هل تساندها في الخضوع لرغبات والدها وغطرسته أم تساعدها في المقاومة والتخلص منه؟، ويبدو أن نيلا في مرحلة حياتها الأولى مع أنتي وقعت في نفس موقف ابنتها وقاومت لكن حدث لها ما يحدث لسمكة المورينا وجرحت نفسها أثناء المقاومة، وهذه كانت النقطة المهمة  كانت الإجابة على سؤالين ظلا يراودني طوال الأحداث فقد كان الأول لماذا لم تترك نيلا زوجها؟.

أما السؤال الثاني  لماذا فضلت نيلا أجمل فتيات القرية أنتي الذي ينتمي للطبقة المتوسطة على خافيير شديد الثراء؟ .. وتأتي الإجابة على هذا السؤال في الجزء الأخير من الفيلم الذي تظهر خلاله الجانب الآخر من شخصية خافيير الأول عدم الوضوح في العلاقات الإنسانية فهل هو يتعامل مع يوليا كإبنة صديقه أم أنه يريدها حبيبة؟، ونفس الأمر تجاه نيلا سواء قديما او حتى بعد العودة.

الجانب الثاني استغلال الثروة والنفوذ على حساب الصداقة وهو ما أفصح عنه الفيلم بأن خافيير أقدم على طرد أنتي في الماضي عندما كان يعمل معه وتسبب في ضرر كبير له ولأسرته وقتها، أما الجانب الثالث الذي قدم له الفيلم ارهاصات بسيطة تتعلق بوجود مشكلات كبيرة بين خافيير وزوجته الحالية سواء وأنه يمضي قدما في اجراءات الطلاق.

يحسب لمخرجة الفيلم أنتونيتا ألامات كوسِيانوفيتش استخدام إسلوب تدريجي في فيلمها للكشف عن بواطن الأمور فقد اهتمت في البداية في التأسيس ورسم الشخصيات على تحديد الخلفيات العامة لكل شخصية سواء داخل أسرة يوليا من ناحية ومن ناحية أخرى العلاقة القديمة بين الأسرة وبين خافيير.

وبدأت كوسِيانوفيتش بهدوء وسلاسة في الإفصاح شيئا بشيئا عن حقيقة تلك الخلفيات وان الظاهر على السطح ليس هو الحقيقة وان هناك جوانب أخرى في الشخصيات، لهذا مع الوصول للثلث الأخير للفيم قد يجعل البعض يتعاطف مع أنتي قليلا  فهو رغم صفاته السيئة لكنه في كل الأحوال أفضل من خافيير فأنتي أب متجمد القلب ومتغطرس لكنه محب للأسرته حتى وان لم يعبر بهذا سواء لزوجته وابنته، أب يبحث عن مستقبل أفضل لهما بعد أن أيقن صعوبة الاستمرار في الحياة على تلك الجزيرة.

فكرة تصوير الفيلم بالكامل على جزيرة منعزلة جعله أكثر اقترابا من عالم البحر وهو توجه مقصود من مخرجته فكل الشخصيات ليسوا فقط مرتبطين بالحر لكن أيضا كل شخصية تحمل في طياتها صفة من صفات البحر في أشكاله المختلفة، هدوءه المتمثل في نيلا، أمواجه العاتية المتمثلة في أنتي، الغموض والأسرار القريب من خافيير، أما يوليا فهي تجد في البحر أمرين الأول المساحة الكبيرة الشاسعة في حياتها بعيدا عن حالة الخنق المستمرة من والدها، والثاني السبيل الوحيد للمقاومة والفرار من سيطرة وقوة الأب بل والتمرد عليه أيضا.

اختارت المخرجة أن تكون نهاية الفيلم بالعودة من جديد لحياتها السابقة ليظل حلم التحرر قائما وأن وجود خافيير مجرد تجربة مرت بها الأسرة ليستمر الصراع الالمباشر مع والدها والمكتوم مع والدتها لكن كان من الأفضل أن تكون النهاية مرتبطة أكثر بفكرة الربط البديع الذي قدمته المخرجة من البداية بين يويا وسمكة المورينا على انهما وجهان لأزمة واحدة ولصفات مشتركة لهذا كانت النهاية الأقرب لهذا التشابه خلال المشهد الذي قام فيه الأب بحبس ابنته ومحاولاتها الشاقة والصعبة للهرب عبر الغوص في البحر والتي جعلتها تجرح نفسها  ومن بعدها ظهور سمكة المورينا بجانب يوليا في الأعماق لتكتمل تلك الرؤية للنهاية.

Visited 9 times, 1 visit(s) today