مقابلة مع سعد سلمان: حين يتكلم المنفى، وتُرتكب الصورة
ودود خليل الطنجاوي
في مهرجان مونتريال السينمائي، وعلى هامش ندوة نقدية حول “سينما التقشف”، جلسنا مع المخرج العراقي سعد سلمان، صاحب ثلاثية الريل، دردمات، Baghdad On/Off، لنُجري معه مقابلة لا تبحث عن المجاملة، بل عن مساءلة مشروعه السينمائي، وتحولاته الأخلاقية، وغيابه عن المهرجانات العربية. كان الحوار متوترًا، متلعثمًا أحيانًا، كأن الكاميرا نفسها ترتجف أثناء تسجيله.
ودود:
سعد، أفلامك لا تُشبه أفلام المنفى المعتادة. لا تُقدّم سردًا، ولا شخصيات، ولا حبكة. بل تُراكم ارتباكًا بصريًا وصوتيًا. هل هذه فوضى مقصودة، أم عجز عن التمثيل؟
سعد سلمان:
إنها فوضى من داخل الجرح. لا أُصوّر العراق، بل أرتّله. لا أُعيد بناءه، بل أُعيد ارتكابه. الخراب ليس خيارًا، بل مادة الذاكرة.
ودود:
في الريل، حين لا يصل القطار. مكالمة موبايل تفضح فساد العشيرة. لماذا تبدأ من هناك؟ لماذا لا تبدأ من المدينة، من الدولة؟
سعد لم أبدأ من هناك، بل وصلت هناك بعد أن تهت في مدن لا تعترف بي، ودول ترفض أن تسمع. انتهى بي المطاف في الريل، حيث القطار لا يصل، لأنني كنت أبحث عن صوت يشبهني. وجدت ذلك الصوت في أغنية ياس خضر: مبحر نهار ليل. لم تكن بداية، بل كانت نهاية مؤقتة، محطة اضطرارية، حين خذلتني المدينة، وتوارَت الدولة خلف جدران الصمت. وظلمة الليل
الفساد الذي يفضحه الموبايل ليس فضيحة العشيرة، بل صدى لما لم تقله الدولة، وما لم تعترف به المدينة. الخراب بدأ من الداخل. حين تتفسّخ العشيرة، القطار لا يصل لأنه لا يعرف إلى أين. وأنا لا أُصوّر الطريق، بل التيه.
الريل ليس نقطة انطلاق، بل مرآة متأخرة، حين لم يبقَ سوى أن أبحر نهاراً وليلاً، بلا ميناء.

ودود:
في دردمات، اللقاء لا يتم. الاعتراف يؤجل، في Baghdad On/Of الكاميرا ترتجف، الصوت يتكرر، الجمل تُقال مرتين. هل هذه علامات انهيار، أم أدوات سردية؟
سعد:
كلاهما. التكرار هو محاولة للقبض على ما لا يُقال. كل جملة تُقال مرتين لأنها لم تُفهم في المرة الأولى. الكاميرا ترتجف لأنها ترى من داخل العين، لا من خارجها.
ودود:
في Baghdad On/Off، العنوان يُحيل إلى جهاز، إلى مدينة تُدار وتُطفأ. هل ترى أن بغداد أصبحت بثًا، لا مكانًا؟
سعد:
نعم. بغداد تُبث من داخل الخراب. تُدار وتُقطع. وأنا أُصوّر ما بين التشغيل والإيقاف، ما بين الصوت والانقطاع.
ودود: هناك ايضا صوت يتكرر من خارج الكادر، يقول “اني شعلية” كلما واجهت مفارقة أو إحراجاً. لماذا هذا التكرار؟ هل هو مجرد تعليق شعبي، أم أنه يحمل وظيفة أعمق؟
سعد: هو أكثر من تعليق. “اني شعلية” هي بنية صوتية طقسية. كل مرة تُقال، تُعيد تأطير الواقع داخل منطق التبرؤ. السائق لا يشارك في الحدث، لكنه يعلّق عليه، وكأنه ظلّ إداري يراقب دون أن يُمسّ.
ودود: لكن لماذا من خارج الكادر؟ لماذا لا نراه؟
سعد: لأن الخوف لا يظهر في الكادر. الخوف يُقال من الهامش، من الظلّ، من الصوت الذي لا يملك صورة. “اني شعلية” هي صلاة النجاة، تُقال حين يصبح التورط خطراً، حين تكون الشهادة عبئاً، حين يكون الحلم جريمة.
ودود: هل ترى أن هذه العبارة تُجسّد ثقافة الخوف في العراق؟
سعد: تماماً. هي الأداء اليومي للخوف. تُقال بهمس حين يكون الخطر قريباً، وتُقال بضحك حين يصبح العبث هو القاعدة. هي نموذج بيروقراطي شفهي، يُستخدم لتفادي التوقيع، لتفادي التاريخ، لتفادي الحلم.
ودود: وهل ترى أنها تُعبّر عن موقف سياسي؟
سعد: هي موقف مضاد. ليست رفضاً مباشراً، بل انسحاباً طقوسيا. هي تبرؤ لا يُعلن نفسه، لكنها تُعيد إنتاج السلطة عبر الخوف. كل “اني شعلية” هي استمارة صوتية للنجاة، تُوقّعها الجماعة دون أن تدري.
ودود: هل يمكن اعتبارها مونولوجاً جماعياً؟
سعد: نعم، هي مونولوج ظلّ، يُقال من خارج الكادر، لكنه يسكن داخل الوجدان. هي صوت الجماعة حين تُجبر على الصمت، حين تُدرَّب على النجاة، حين تُعلَّم أن لا ترى، لا تشهد، لا تحلم.
ودود: وهل ترى أن الفيلم نفسه يتصارع مع هذه العبارة؟
سعد: الفيلم يسعى للدخول، والعبارة تسعى للانسحاب. الفيلم يوثّق، والعبارة تمحو. الفيلم يحاول أن يرى، والعبارة تقول: لا أريد أن أُرى. إنها جدلية بين الكادر والظلّ، بين الصورة والصوت، بين التوثيق والمحو.
التحوّل الأخلاقي: حين تُصبح الإيماءة موقفًا
ودود:
في السنوات الأخيرة، لم تعبّر عن مواقفك السياسية والأخلاقية من خلال أفلام، بل عبر مشاهد ساخرة، لقطات مرتجلة، وإيماءات بصرية تُنشر على الهامش. هل هذا عجز عن صناعة أفلام، أم تحوّل في أدوات التعبير؟
سعد:
ليس عجزًا، بل انحرافًا مقصودًا. حين تصبح الصورة الرسمية مشبعة، أبحث عن الهامش. الإيماءة، السخرية، اللقطة المرتجلة—كلها أدوات تُقاوم التمثيل، تُراوغ السلطة، وتُعيد تشكيل الموقف الأخلاقي خارج القالب السينمائي.

ودود:
لكنك مخرج. هل التخلي عن الفيلم لصالح الإيماءة لا يُعدّ خيانة للوسيط؟
سعد:
أنا لا أتخلى، بل أُراوغ. الفيلم هو أحد الأشكال، لكنه ليس الشكل الوحيد. حين يصبح الفيلم غير قادر على قول ما أريد، أبحث عن طريقة أخرى. السخرية أحيانًا تقول ما لا تقوله الصورة الرسمية.
الغياب العربي: بين الإقصاء والرفض
ودود:
وماذا عن غيابك عن المهرجانات العربية؟ هل هو موقف، أم تجاهل، أم إقصاء؟
سعد:
ربما كل ذلك. أحيانًا لا يُدعى من يُربك السرد الرسمي. أحيانًا أرفض الدعوة لأنني لا أريد أن أُعرض كزينة. وأحيانًا، ببساطة، لا أجد مكانًا يُصغي إلى الارتجاف، إلى التلعثم، إلى الغياب بوصفه سردًا.
