مخرج “ضوء القمر” باري جنكنز يستعيد رحلة الخروج من الظل

Print Friendly, PDF & Email

مازال المخرج الأميركي الأسود باري جنكنز محاصرا من جانب الصحافة وأجهزة الإعلام، بعد فوز فيلمه “ضوء القمر” Moonlight بثلاثة من جوائز الأوسكار على رأسها جائزة أحسن فيلم (وهي الجائزة الأرفع شأنا في العالم)، ثم أحسن سيناريو معد عن أصل أدبي، وأحسن ممثل ثانوي التي حصل عليها الممثل المسلم ماهرشالي علي. وفي الوقت نفسه، كان هناك شبه إجماع من جانب النقاد على اعتبار الفيلم عملا فنيا رفيع المستوى، والترحيب به كفيلم أصيل، يمتلك سحره من داخله، يقف بمفرده دون أن يعتمد على أضواء النجوم.

“ضوء القمر” هو الفيلم الروائي الطويل الثاني للمخرج البالغ من العمر 37 عاما، وقد تمكن من إنجاز الفيلم بعد ثماني سنوات من تحقيق فيلمه الطويل الأول “دواء للاكتئاب” (2008)، ولم تتجاوز ميزانية “ضوء القمر” مليون ونصف مليون دولار، وهي ميزانية هزيلة بمقاييس هوليوود، لكنه استطاع رغم ذلك، وبفضل براعة السيناريو والتمثيل، أن يصنع عملا كبيرا يلمس بصدق الكثير من الجوانب من حياته الشخصية، ويوصل رسالة خافتة إلى مشاهديه متخلصا من فكرة فيلم “الغيتو”، متطلعا إلى مخاطبة المشاعر الإنسانية في أميركا والعالم.

جنكنز الذي تخرج من جامعة ولاية فلوريدا، يعترف خلال مقابلة بأحد البرامج التليفزيونية، بأنه عندما قرأ مسرحية الكاتب تاريل ماكريني (الذي يصغره في العمر بعام واحد فقط)، وهي المسرحية التي اقتبس عنها سيناريو الفيلم، كان يشعر بأنه سبق وأن مر بمثل هذه التجربة التي يمر بها بطل المسرحية الصغير. وهو يتوقف بوجه خاص أمام شخصية الأم التي قامت بها في الفيلم الممثلة البريطانية نعومي هاريس، في دور سيدة مدمنة على تعاطي الكوكايين، ليشير جنكنز إلى أن والدته ووالدة المؤلف تاريل كانتا أيضا من مدمني الكوكايين، وكانتا تقيمان في نفس المدينة بل وفي نفس الحي على مقربة من بعضهما البعض، وربما تشاركتا أيضا في تعاطي المخدر. وقال إن أكثر ما كان يسبب له الألم جاء عندما كان يقوم بتوجيه نعومي هاريس أثناء التصوير، ويرى أن الأمر لم يكن سهلا.، ويشير إلى أن والدة تاريل المؤلف توفيت، بينما نجت والدته بعد أن عولجت وشفيت.

من المهرجانات إلى الأوسكار

الملاحظة الواضحة أن الغالبية العظمى من الأفلام التي رشحت لجميع الجوائز الرئيسية في مسابقة الأوسكار عرضت أولا في مهرجانات السينما العالمية مثل “لا لا لاند” و”الوصول” و”هاكسو ريدج” وجاكي” و”حيوانات ليلية” (عرضت في مهرجان فينيسيا)، و”إيل” – أو “هي” و”الجحيم أو المياة العالية” و”لوبستر”- أو “سرطان البحر” (مهرجان كان)، و”مانشستر من البحر” و”فلورانس فوستر جنكنز” و”أسد” (مهرجان تورينو). أما “ضوء القمر” فكان اكتشافه الأول في مهرجان تيليرويد الأميركي.

وكان الانطباع العام الذي أدهشه وأسعده بالطبع، هو الإعجاب الكبير الذي أبداه جمهور المهرجان للأسلوب الذي قدم به الشخصيات على الشاشة العريضة، مركزا على أهمية شخوص الفيلم وأهمية أن نشاهدها ونقترب منها رغم هامشيتها الاجتماعية التي ربما تجعلنا غير قادرين على أن نلاحظ وجودها أصلا في الحياة اليومية. وقد ظل جنكنز يتابع من خلال لغة أقرب إلى الهمس، وصمت يغلف معظم المشاهد، كيف يكبر الطفل “شيرون” في ظل ظروف صعبة، وكيف يعبر مرحلة المراهقة وصولا إلى الشباب ليكتشف تدريجيا اختلافه عن أقرانه ثم ميوله الجنسية المثلية.

كان بعض الناس قد انخرطوا في البكاء أثناء عرض الفيلم في المهرجان، ثم انفجر الجميع في عاصفة من التصفيق عند نهاية العرض. وقال كثيرون إنهم لم يسبق أن شاهدوا شخصيات مثل هذه على الشاشة.  

الأب البديل يعلم الصبي السباحة في “ضوء القمر”

كثير من النقاد رحبوا بالفيلم باعتباره عملا “أصيلا” في طريقة تناول الموضوع. ولم يكن موضوع المثلية الجنسية مهما كثيرا عندهم، فهو موجود في الخلفية، أي على نحو خافت تماما ودون أي مشاهد اقتحامية أو فجة. وبينما شعر الكثيرون أن الفيلم ينطلق من “سيرة ذاتية” للمخرج جنكنز إلا أنه لا يرى ذلك بل يوضح أن الموضوع يرتبط- أساسا- بمؤلف المسرحية الأصلية تاريل ماكريني وهو مثلي، بينما جنكنز ليس كذلك، رغم اعتراف جنكنز بوجود الكثير من العوامل المشتركة بينهما، مشيرا إلى أنه كان أثناء كتابة السيناريو كثيرا ما يتوقف عن الكتابة ثم يتصل بتاريل ليسأله: هل حدث لك ذلك أيضا؟ فيفاجأ بتاريل يروي له الكثير من المواقف التي وقعت لجنكنز نفسه في طفولته!

الشعور بالوحدة

عندما ولد جنكنز عام 1979 في حي ليبرتي في مدينة ميامي (تماما مثل بطل فيلمه) كان والده يعيش مع والدته منذ عشر سنوات، ولكن سرعان ما غادر الأب بعد مولد الطفل، وفي عام 1982 استسلمت والدته للمخدر ضمن الموجة التي شهدتها أحياء الأميركيين السود وغيرهم في عموم الولايات المتحدة في تلك الفترة اللعينة. وانتقل جنكنز ليقيم، معظم الوقت، مع جدته التي كانت شقتها الصغيرة تزدحم بالناس، وكان الماء الساخن في البيت- كما يقول- نادر الوجود، وكانت المنطقة تمتلئ بالجريمة والعنف والمخدرات. وكان أحيانا ما يلتقي مصادفة بوالدته في الشارع تماما كما يحدث لبطل فيلمه.

تفوق جنكنز  في الدراسة أتاح له فرصة للحصول على منحة دراسية والالتحاق بالجامعة، وعندما افتتحت الجامعة معهدا لتدريس السينما التحق به رغم أنه لم يكن يثق في قدرته على مضاهاة أقرانه من الطلاب البيض. كانت مشكلة اللون والفقر وإدمان والدته تكاد تقنعه كما يقول- بأنه أدنى، وبأنه لن يصلح، وربما لا يكون موهوبا من الأصل والأساس. لكنه بدأ يكتسب ثقته بنفسه عندما بدأ يصور الأفلام القصيرة.  لقد منحته السينما صوتا.. وجعلت له وجودا، بل و”أنقذته”.

في معهد السينما كان اهتمامه الأساسي – ليس بدراسة أعلام السينما الأميركية- بل بمخرجي الموجة الجديدة الفرنسية وبأفلام المخرج الصيني (من هونغ كونغ) وونغ كار- واي. ولكن ما الذي دفعه وهو ابن أحياء السود الفقيرة، حي ليبرتي في ميامي تحديدا، للبحث في أفلام هؤلاء.. ما الذي وجده في أعمالهم من معالم تتلاقى معه؟ يجيب هو على الفور في مقابلة صحفية: إنه الشعور بالوحدة.

لقد صور فيلمه الأول “جوزفيني” (2003) My Josephine  داخل مغسلة عمومية يعمل فيها شاب عربي أميركي يدعى “عيديد”، يغسل مع زميلته “أديلا”- بالمجان- مجموعة من الأعلام الأميركية ثم يقومان بتجفيفها وطيها. والشاب يعمل في وردية الليل ويحصل على سبعة دولارات فقط، ولكنه يواصل العمل رغم ذلك بحماس (كان هذا في أعقاب أحداث سبتمبر 2001) ويقف عيديد أمام الكاميرا، يروي كيف أنه معجب بشخصية نابليون الذي كان لديه امرأتان، واحدة هي زوجته والأخرى عشيقته جوزفين، وهو يعتبر أديلا بمثابة جوزفينه، يرقص ويغني معها في سعادة رغم كل شئ أمام باب المغسلة. كان هذا مشروع تخرج جنكنز من معهد السينما، وكان يروي هذه القصة البسيطة في 8 دقائق فقط. وكان الفيلم ناطقا بالعربية والانكليزية والفرنسية.

بعد تخرجه انتقل إلى لوس أنجليس حيث عمل مساعدا ضمن فريق إنتاج برنامج أوبرا وينفري، وكان يرسل بعض المال الى أمه التي كانت تعالج من الإدمان. ولكن عينه كانت على هوليوود. وبما معه من مال قليل أخذ يجوب الولايات المتحدة، ثم التقى بفتاة وقع في حبها لكنها سرعان ما تخلت عنه و”حطمت قلبه” كما يقول، ومن هنا استلهم موضوع فيلمه الروائي الطويل الأول “دواء للاكتئاب” (2008). وقد أنتج هذا الفيلم بمبلغ 13 ألف دولار اقترضها من زميل له من زملاء المعهد.

لقطة من فيلم “دواء للاكتئاب

دواء للاكتئاب

شاهدت هذا الفيلم في الدورة الأخيرة من مهرجان روتردام السينمائي الدولي هذا العام، ودهشت لأسلوبه السينمائي البديع. لم يكن فيلم “ضوء القمر” قد فاز بالأوسكار بعد، بل ولم يكن قد تم ترشيحه، لكن المهرجان اختار هذا الفيلم ضمن برنامج خاص بالسينمائيين الأميركيين من أصول افريقية. وهو يدور خلال ليلة واحدة عندما يقع شاب أسود في الحب من أول نظرة، مع فتاة جميلة وحيدة تبدو وكأنها تعاني من مشكلة ما غامضة، ويصر على أن يساعدها ويصطحبها حتى بيتها، يوقف سيارة تاكسي ويدعوها للركوب لتوصيلها رغم أنه لا يملك أي نقود، ثم يصعد معها الى شقتها، يستمع إليها، يروي لها عن وحدته، يمارس الاثنان الحب، يقضي الليلة في فراشها، ومع نور الصباح تطلب منه أن يغادر وألا يعود أبدا.. وهو لا يستطيع قط أن يفهم السبب، لكنه لا يمكنه سوى أن يستجيب لما تطلبه منه رغم قسوته. إنه تألق اللقاء الوحيد الذي ينتهي كما بدأ.. دون تفسير.

لكن ما كان لافتا في الفيلم هو أسلوبه في التصوير، حركة الكاميرا التي تذكرنا كثيرا بفيلم “النفس الأخير” لجون لوك غودار، خاصة وأن الفيلم مصور بالأبيض والأسود، الحيرة الوجودية لبطليه اللذان يبدو أنهما يمكن أن يصنعا ثنائيا رائعا منسجما لكنهما رغم ذلك، يفترقان دون سبب واضح.. فالفتاة التي تعترف له بأنها على علاقة بشاب آخر (أبيض) ربما تكون في احتياج لمثل هذه العلاقة، ربما تكون أيضا لديها مشكلة ما لا ندرك كنهها، وهي رغم سحرها وانجذابها الى هذا الشاب بكل جنونه وعبثيته وروحه المرحة وما يتمتع به من رقة ورومانسية، تفضل ألا تستمر هذه العلاقة فهي تعرف أنها “لن تستمر”!

أثناء التصوير في الماء مع مدير التصوير جيمس لاكستون

المصور الذي صور “دواء للاكتئاب” هو جيمس لاكستون، وهو نفسه الذي سيتعاون مع جنكنز كمدير تصوير في فيلم “ضوء القمر”. وقد أعجب هذا الفيلم الأول كثيرا من السينمائيين المرموقين مثل ستيفن سودربرغ، ورغم أنه لم يحقق إيرادات حقيقية إلا أنه جعل اسم جنكنز متداولا بشكل ما، وكان قد صور الفيلم في نيويورك، لكنه عاد بعد ذلك إلى لوس أنجليس بالقرب من هوليوود ليكتب بعض السيناريوهات التي لم يتم تنفيذها قط، واضطر للعمل في النجارة لبعض الوقت، إلى أن وقعت بين يديه مسرحية “في ضوء القمر يتحول الأولاد السود إلى اللون الأزرق”. وقد رحل إلى بروكسل حيث استأجر شقة وقضى شهرا في تحويل المسرحية الى سيناريو سينمائي أضاف إليه الكثير من حياته الشخصية، عائدا بذاكرته إلى ميامي وإلى الحي الذي نشأ فيه، حيث كان سيتعين عليه العودة لتصوير الفيلم هناك. وقد تحمست شركة الانتاج التي يمتلكها الممثل براد بيت لانتاج الفيلم بميزانية ضئيلة في إطار مشاريع الأفلام الصغيرة من نوعية حرف ب التي تنتجها. 

يقول جنكنز إن الأمر لم يكن سهلا بالنسبة إليه، فهو لم يكن مثليا، بينما يمكن أن يعتقد المشاهدون فيما بعد أنه كذلك بسبب اختلاط الأمور ما بين المسرحية الأصلية التي تعبر عن تجربة كاتبها، وبين الفيلم. لقد كان حقا يختبئ وراء مسرحية تاريل ماكريني، لكنه لم يكن في الوقت نفسه ، يريد أن يتراجع أو يستنكر أو يبرر فقد كان هذا من شأنه أن يجعله يبدو جبانا، أو على الأقل، كما لو كان يخجل مما يفعله.  

لم يكن الممثلون الثلاثة الذين قاموا بدور شيرون في طفولته ومراهقته وشبابه يتمتعون كما يقول جنكنز- بخبرة كافية، لكن الكبار: ماهرشالا علي ونعومي هاريس كانا عملاقين، وهو يتذكر بوجه خاص أداء هاريس عندما تصرخ في ابنها الصامت معظم الوقت، ثم وهي تنتزع منه المال بقسوة شديدة، وهو مشهد أعاد إليه ما خبره في طفولته، وكان يصر على إعادة تصوير هذا المشهد مرة ومرات إلى أن اكتفى. لقد كان هذا الإصرار على التكرار والإعادة بهدف تحقيق الصدمة وراء أخرى، نوعا من العلاج النفسي.

أخيرا جاء النجاح الكبير الذي لم يكن ينتظره، لكي يعيد إليه- ليس فقط الثقة في نفسه وفي قدرته وموهبته، بل أساسا، في أميركا نفسها، رغم كل ما نتج – كما يقول- من احباط بسبب نتائج انتخابات الرئاسة. لكن على الأقل هوليوود لم تستسلم!

Visited 35 times, 1 visit(s) today