كيف سنحسّ لو انعطفنا عند الزاوية ورأينا أنفسنا؟
انتصار قراش- الجزائر
ثلاثة غرباء متطابقون Three identical strangers ، فيلم وثائقي من إخراج تيم ووردل، سنة 2018
(إيدي وبوبي وديفيد) ثلاث أولاد توائم فُرّقوا عند الولادة لغرض تجربة علمية، من طرف خدمات لويز وايز، وهي مؤسسة في نيويورك تأسست عام 1916، يشرف عليها مجلس إدارة من مدينة نيويورك من نخبة اجتماعية ومالية وسياسية، وكانت حينها وكالة التبني الأبرز على الساحل الشرقي للأطفال اليهود على وجه الخصوص، سنة 1961.
فُرّقَ التوائم بعد ست أشهر من ولادتهم، حيث كل واحد منهم قامت بتبنيه عائلة مختلفة من حيث طبقتها الاجتماعية، كبر الأولاد ليلتقوا بالصدفة في الكلية بعد 19 عام، والمدهش في القصة أن التوائم متطابقة شكلا لدرجة لا تصدق، كما أنهم كبروا بنفس الذوق في اختياراتهم لكل شيء، كانت معجزة أنهم يلتقون ويعيدون تفاصيل سنين حياتهم الماضية ويعقدون المقارنات.
الفيلم لطيف من ناحية أنه يشرح فكرة الانفصال وما يحدثه من تأثير عاطفي حتى بدون درايتنا، في أحد المشاهد ومحاورات الآباء والأمهات يقول كل منهم أن أولادهم كانوا يضربون رؤوسهم على الجدار أو السرير بعد فترة من التبني ولم يكن ذلك سوى تعبيرا عن الانفصال الموجع.
الفيلم يحمل الكثير من القصص الطريفة عن حياتهم، فمثلا بعد التقائهم واجتماعهم مرة أخرى، في مرحلة ما أصيب إيدي بالتهاب الزائدة الدودية واضطر إلى دخول المشفى لاستئصالها ولم يكن لديه تأمين صحي، لذلك قام بالدخول للمشفى على أساس أنه بوبي، وتم استئصال زائدته على أنه بوبي.
كانت وكالة التبني تفرق بين التوائم عند الولادة لغرض إجراء تجارب واختبارات في علم النفس كدراسة التحليل السيكولوجي للطفل، حيث وضعت كل طفل منهم في عائلة مختلفة كما سلف الذكر، عائلة من العمال وعائلة من الطبقة المتوسطة وعائلة ثرية جدا، بدون إخبار الأبوين الذين يقومان بتبني الطفل كل ما يتعلق بالطفل وخلفيته، وأنه يملك أخوين توأمين.
ما أبشع أن تكتشف في مرحلة من عمرك أنك كنت تعيش طيلة حياتك كتجربة علمية، بل كفأر مختبر، فكل التوائم كان يقوم بتتبعهم مجموعة من الأشخاص طيلة طفولتهم، وأخبروا الأولياء عند تبنيهم أنهم سيقومون بتتبعهم كجزء من دراسة عادية عن تطور الأطفال المتبنين، لكن الأمر كان برمته خديعة، فالأولياء لا يدركون أن الأطفال التوائم قد تمت تفرقتهم وعمدا.
تربى الأطفال في دائرة نصف قطرها 100 ميل ولم يتعرفوا على بعضهم البعض يوما والأدهى أنهم كانوا يوما ما في رحم أم واحدة متعانقين، هل يوجد ما هو أكثر قسوة وبشاعة من هذا !بدون تفكير في عواقب الأمر قامت الوكالة بتفرقة هؤلاء التوائم وغيرهم لغرض تلبية حاجات علمية وبحوث نفسية راح ضحيتها أطفال لا يملكوا يومها تقرير مصيرهم، فقُرّر عنهم بدون شفقة أو رحمة.
وقد كان الشخص المسؤول عن هذه الدراسة النفسية دكتور يدعى (بيتر نيوباور) طبيب نفسي من مدينة نيويورك ومدير أرشيفات (فرويد)، كان ذا خلفية فرويدية جدا، وكان لاجئا نمساويا يهوديا ناجيا من المحرقة، افتتح في بداية لجوئه متجرا صغيرا، ثم أصبح بعدها أحد أهم رجال الطب النفسي في أمريكا.
بعد اكتشاف كل هذه التفاصيل قام كاتب وصحفي بنشرها كمقالة في الصحف، وبعدها ظهرت توائم أخرى قامت الوكالة أيضا بتفرقتها عمدا، وهما امرأتان والغريب أيضا أنهما كانتا لديهما نفس مسار الحياة والتوجهات.
السؤال الذي يطرح نفسه في آخر الفيلم: هل من الطبيعي أن تُقدّم احتياجات هؤلاء الباحثين العلميين، ورغبات البحث والمصالح المهنية على احتياجات ومصالح التوائم الذي كان من المفروض أن يعيشوا سوية؟ حقا سؤال مجهد وقاسي، مع العلم أنه حتى بعد اكتشاف الحقيقة لا أحد حقا عرف كم عدد التوائم الذين تمت تفرقتهم لإجراء الدراسة غير الموجودين في هذا الوثائقي.
في نهاية الفيلم أو الجزء الأخير منه تُجرى مقابلة مع مساعدة أبحاث الدكتور التي تقول أن الأمر في الخميسينيات كان يبدو عاديا من وجهة نظر الناس ولا أحد كان يقول (اوووه ستفرقون بين الأطفال، كم هذا فظيع) كان علم النفس حينها في أوج ازدهاره، وكان ذلك من وجهة نظر العلم والبحث فرصة لا تعوض.
وأحد أهم الإشكاليات التي انطلقت منها الدراسة هي: كيف نصبح الأشخاص الذي نكونهم؟ كم نسبة دور الطبيعة في تشكّل شخصياتنا، وكم نسبة التنشئة والبيئة؟ وتلك الصدف إن جاز تسميتها هكذا كلها كانت مغزى البحث، حيث أن كل من التوائم مثلا يحب الأكل الصيني، يحبون السيارات القديمة، يدخنون نفس ماركة السجائر، يحبون الألوان نفسها، بالنسبة للإناث دخلت كل منهن إلى معهد السينما… والكثير من التفاصيل المتطابقة حد الدهشة.
وقد بدا ذلك مزعجا جدا في نهاية الفيلم أن يكون تأثيرك على حياتك قليلا جدا مقارنة بما ترثه من الطبيعة والأصل سواء في المظهر أو السلوكيات، كأن يذهب أحد التوائم لصديقه ليخبره أنه قد خطرت له فكرة عبقرية، ثم يتفاجأ بالرد: لقد أخبرني أخوه بهذا قبل قليل.
كانت نهاية التوائم (إيدي، بوبي، وديفيد) تعيسة والأمر في الغالب يعود لتفرقتهم في طفولتهم أو ال 19 سنة السابقة من حياتهم، فإيدي عانى اضطرابا نفسيا وانتهى به الأمر منتحرا في الأخير، إيدي الذي كان يستطيع إضاءة غرفة بابتسامته حسب قول ديفيد، حتى طفولتهم كانت مضطربة وكانوا كلهم تحت رعاية نفسية في مرحلة المراهقة كمية التطابق مزعجة جدا، لكن رغم كل التطابقات لم تكن حالة دراسة عن تحكم البيولوجيا بالقدر ففي نهاية المطاف تبيّن أن الجينات والبيئة أو التنشئة متنافسان متقاربان، ولا نستطيع إلغاء أي منهما، وكلاهما مهم جدا في حياتنا، فلا شخص يُطابق الآخر مهما تشابه معه، ننزلق حيث أرادت جيناتنا أن نمضي لكن هذا لا يعني أنه مقدر لك أن تكون شخصا أو آخر رغما عن كل ما خصتك الحياة به من ظروف.