كريستوفر نولان بين “ميمنتو” و”تينيت”: عبث ما بعد الحداثة وتهافت المخرج المتخم

كريستوفر نولان مع بطل فيلمه "تينيت" كريستوفر نولان مع بطل فيلمه "تينيت"

أن السياق العام لطرح هوليوود لفيلم “تينيت”Tenet  في السوق عام 2020، وحشدها من أجله موارد ضخمة ليكون بمثابة الرمز لعودة الصناعة السينمائية في مرحلة بدء تخفيف القيود على النشاطات ذات الطابع الجماعي في زمن جائحة كورونا، عكس أيضا والى حد كبير اتجاها تسويقيا يتصاعد نفوذه وبحماس في أوساط القائمين على أضخم وأكثر الصناعات الثقافية نفوذا في عالمنا المعاصر. ويكمن هذا في التركيز على اتجاهين: أولا، اعادة تدوير فكرة أن الانتاج ذو الميزانية الضخمة يجب أن يكون عنوانا أساسيا في السينما “الجيدة” والتي تطمح الى جذب الجماهير. وثانيا، أن المعادلة المتبعة في سينما “الآكشن” بأنواعها المختلفة، سواء على طراز “أفلام مارفيل” أو مع اضافة مسحة “فنية راقية” تمثل أولوية لتحقيق الشهرة والنجاح على الطريقة الهوليوودية.

بيد أنه من الصعب استيعاب ما يمثله فيلم “تينيت”  للمخرج كريستوفر نولان من ناحية الفكر والأسلوب والتفاعل الشعبي من غير وضعه في السياق العام لمسيرة نولان السينمائية. وبشكل خاص، فان هذا التقييم لا يمكن حتى أن يبدأ من غير الاعتبار الجدي لبدايات تلك المسيرة، والتي جسدها فنيا وجماهيريا النجاح غير المتوقع لفيلمه الثاني “ميمينتو” Memento) ( عام 2000. فعلى الرغم من أهمية فيلمه الأول (Following) عام 1998 لجهة حرفيته الفنية المحكمة ومؤشراته الواضحة على قدرات نولان على الادارةالسينمائية الفنية والاقتصادية المبدعة، عبر نجاحه بصناعة فيلم أصيل ومتماسك في الموضوع والأسلوب وبميزانية لم تتجاوز الستة آلاف دولار، فان الفيلم الذي أطلق اسم نولان عالميا وأطلق ثقة هوليوود بقدراته على تحقيق الأرباح الخيالية لها كان في الواقع فيلمه “ميمينتو” )كلفة تسع ملايين دولار، ومردود يزيد عن الأربعين مليون دولار(.

في هذا المقال أتناول مسيرة نولان العامة، وأحاول خصوصا سبر غور بعض مكامن التشابه والتناقض بين فيلمي “ميمينتو” و”تينيت”، كمحاولة لإلقاء بعض الضوء على مجموعة من التجليات الأيديولوجية التي تتفاعل ضمنها السينما السائدة في أواخر العقد الثاني من القرن الحالي.

وسأستهل هذه القراءة برصد ظروف الانتاج والدعاية والتوزيع والتلقي النقدي لفيلم “تينيت”، وأتبع هذا بمسح عام يتناول السياق الذي يميز البناء البصري والشكلي لسرد القصة. ثم أقدم تقييما نظريا لبعض المرجعيات الايديولوجية التي يميل الفيلم الى التناغم معها. ولمحاولة فهم الأبعاد الأوسع للتوجهات النظرية للعمل، أضع “تينيت” في “مواجهة” مع فيلم “ميمينتو” )والى مستوى أقل مع أفلامه الأخرى (. والهدف هنا دائما هو تتبع النزعات الفنية السائدة التي طبعت شكل ومحتوى الارهاصات الايديولوجية لأفلام نولان بين اليوم وبدايات مساره المهني.   

في إطار انتاج وتلقي الفيلم

ان معادلة تحضير وانتاج وبرمجة التوزيع والدعاية لفيلم “تينيت” اقترنت بوضوح كما قلنا بفكرة اعلان هوليوود الرسمي والاقوى عن عودتها الى صالات السينما بعد الاغلاق الكبير للصناعة بعد جائحة كورونا. ومما لا شك فيه، أن التشديد الاعلامي الواضح على مشاركة الشركة المنتجة “وارنر بروثرز” وحجم تمويلها لانتاج الفيلم والذي قارب الـ225 مليون دولار، والتركيز أيضا على الميزانية الضخمة التي خصصت للتسويق وللدعاية العابرة للقارات وعلى الافتتاح الواسع والمتزامن في أكثر من 42 دولة، كان كله متكامل مع استراتيجية هوليوود “الثقيلة اليد” لتشجيع عودة الجمهور الى صالات العرض بعد فترة الكساد التي هيمنت على العالم (وضمنه صناعة السينما) منذ اواخر عام 2019 بسبب أوضاع جائحة كورونا. وكان لاسم كريستوفر نولان في هذه المعادلة بالطبع وزنا كبيرا. فمن هو أفضل من صانع مجموعة من أكثر أفلام هوليوود نجاحا في شباك التذاكر في العقدين الماضيين لدعم هذه المعادلة وليعيد بعض الروح للصناعة الاكثر شعبية وحضورا في العالم اليوم. فمعظم أفلام نولان ومنها Batman Begins  عام 2005، وThe Dark Knight  عام 2008، وInception  عام 2010، وThe Dark Knight Rises عام 2012 ، وInterstellar عام 2014، وDunkirk  عام 2017 وغيرها حصدت في شباك التذاكر ما يزيد بمجموعه عن الأربع مليارات وستمئة مليون دولار، بمقابل كلفة انتاج أساسية عادلت مليار ومئة وخمس وخمسون مليون دولار، هذا بالإضافة الى ما يعادلها تقريبا من تكاليف دعاية وتسويق وكلفة ايجار قاعات وغيرها.

بيد أن ردود الفعل على الفيلم وبشكل خاص في أميركا الشمالية كانت متفاوتة. من ناحية، فان معظم كتاب ونقاد السينما في الصحف الرئيسية وذات النفوذ والانتشار الأوسع (“رولنغ ستون”، “امباير”، “فارياتي”، “يو اس آي توداي”، “نيويورك تايمز”، “هوليوود آوتسايدر”، “تورونتو ستار، “انترتينمنت ويكلي”، و”هوليوود ريبورتر”، وغيرها) أبدوا تفاؤلهم بقدرة الفيلم على لعب الدور الاقتصادي والثقافي المطلوب منه، أي المساهمة باستعادة بعض الحياة والصخب في دور العرض السينمائية. وكان رأي هؤلاء أن الأساس في قوة الجذب تكمن في قوة وذكاء وابداع مشاهد الآكشن التي يحفل بها الفيلم وتشد انتباه المشاهد بشكل مستمر طوال الساعتين ونصف من السينما السريعة. ووصف معظم هؤلاء الصحافيين “تينيت” بالضخم، والجريء، والمثير للدهشة، والمبدع تقنيا.

كريستوفر نولان

بالمقابل، فان بعض ردود لفعل الأخرى لم تكن بنفس الحماس. إذ ركز اعلاميون على صعوبة بل استحالة فهم القصة واستيعاب تفاصيلها. وأشار بعض من هؤلاء على “برودة” تعاطي الفيلم مع شخصياته الرئيسية أو غير الرئيسية (“نيويورك بوست”، “نيويوركر”، “بوسطن غلوب”، “فانيتي فير”، “شيكاغو تريبيون”، “سلانت ماجازين”، وغيرها(.

وأطرف ما قرأته في هذا المجال كان ما قالته الكاتبة كريستينا نيولاند في مجلة “نيويورك ماغازين” والتي شبهت “تينيت” بصندوق أحجية موصد و”فارغ من أي محتوى”. بينما قارن الصحافي توم دغنز من “سيني فو” الفيلم بما فعلته وكالة الفضاء الأميركية “ناسا” عندما أنفقت ملايين الدولارات “في محاولة تطوير قلم فوار يمكن استعماله في الفضاء في حالات انعدام الجاذبية، في الوقت نفسه الذي كان رواد الفضاء السوفيات بكل بساطة يستعملون قلم الرصاص.”

لكن برغم من الحملة الضخمة التي سبقت ورافقت نزول الفيلم الى قاعات العرض، فان المردود العام للفيلم في شباك التذاكر وبحسب تقديرات الصناعة لم يتجاوز بالنهاية 364 مليون دولار )أغسطس 2021(. وهذا يعادل حوالي ثلاثة أرباع كلفة الانتاج مع ميزانيات التسويق والدعاية ورسوم دور العرض والموزعين والتي يمكن تقديرها كلها بحوالي ال 400 مليون دولار.

وفي أحسن الحالات فإن هذا يمثل أداء فاترا في شباك التذاكر. وعلى الرغم من أن الموزعين والصحافة القريبة من الصناعة أو التي تدور في فلكها حاولت ان تنشر الانطباع بان ضعف الاقبال كان مرتبطا بشكل اساسي بالمخاوف من الكورونا )وهذا صحيح الى حد ما خاصة عندما نأخذ بالاعتبار ان قاعات العرض في نيويورك ولوس انجيليس كانت مقفلة ابان نزول الفيلم الى السوق(، الا ان عاملا آخر قد يكون ساهم أيضا في الاستقبال العام غير الحماسي للفيلم.

فبعد أشهر من الدعاية والتسويق غير المسبوقين للفيلم وعلى كافة المستويات، يبدو أن تراكم التقييمات الكثيرة للمشاهدين عبر وسائل التواصل الاجتماعي والاعلام والتي جرى تداولها منذ نزول الفيلم الى قاعات العرض قد تغلب بالنهاية في تأثيره السلبي على قوة الحملة الدعائية التي جرى تكريسها لدعمه. ومن المرجح ان الترداد القوي لمقولة “صعوبة فهم القصة” منذ الاسبوع الاول لبدء عرض الفيلم كان له دورا هاما في تحديد شكل ومحتوى تلقي وتفاعل الجمهور معه. في هذا الاطار فلنحاول فهم ما الذي حصل ضمن هذه “الأحجية” السينمائية التي ألقى بها نولان الى المشاهدين، واذا كان الفيلم بالفعل يعاني من قصور في تلبية حاجة الجمهور الى بعض الوضوح السردي.

  1. حكاية عن …

منذ المشهد الأول للفيلم والذي يستغرق أكثر من عشر دقائق، يضعنا “تينيت” داخل مسرح كبير ووسط هجوم ارهابي ضخم نعرف فيما بعد أنه يقع في مدينة كييف الأوكرانية. مجموعة من المهاجمين يدخلون الى القاعة الكبيرة حيث تجهز أوركسترا موسيقية نفسها لحفل كبير. الارهابيون يبدأون بقتل كل من يجدونه في طريقهم بدءا بالعازفين وانتهاء بالمشاهدين وقوات الأمن. الارهابيون يعبرون لنا عن كراهيتهم حتى للآلات الموسيقية، فيرمونها بالرصاص ويقومون بتحطيمها وهم في نشوة أقرب في تعابيرها الى السادية المفرطة. معركة ضخمة تحتدم في خضم الهجوم مع مجموعة مسلجة أخرى مقابلة تضم “بطل” الفيلم الرئيسي الملقب “بالبروتاغونست” )جون ديفيد واشنطن(. و”البطل” الذي نتعرف عليه في هذه “الموقعة” الافتتاحية للفيلم هو أيضا عميل في المخابرات المركزية الأميركية، وهو كذلك عميل مزدوج يحاول منع الهجوم وعرقلته. ويبدو أن عدم وجود اسم مخدد للشخصية الرئيسية هو أحد وسائل تعبير الفيلم الرمزية عن عدم اكتراثه بمشاركة كثير من التفصيلات حول هوية أو تاريخ شخصياته. ويسمح هذا الغموض الى حد ما بابقاء تركيز المشاهد منصبا ليس على ما يحدث للشخصيات نفسها، بل على ادائها في المشاهد المبهرة للالتحامات القتالية التي يعج الفيلم بها.

من فيلم “تينيت”

بعد هذه المقدمة الحافلة، يضعنا الفيلم على الفور داخل عالم غرائبي “مزدحم” بكافة أنواع المعارك غير المتوقعة والتي تخوضها أطراف متعارضة. تلك الأطراف هي أيضا متباينة في المواقع الزمنية التي تنطلق منها، وكذلك في المواقع المكانية التي يقاربون مواجهاتهم القتالية على ساحاتها. ويدخل المشاهد تدريجيا ضمن عوالم تتغير وتنقلب على نفسها بلا توقف، وتنقلنا الى ساحة تضم أماكن غير متصلة جغرافيا ببعضها وتشمل فييتنام ونيبال وسيبيريا وأوكرانيا … واللائحة تطول. وضمن هذه التركيبة نشعر كيف أن بعض شخصيات الفيلم تعيش في حاضر، هم نفسهم يشكلون فيه مكونات من الماضي سواء في ما يلبسون أو في ما يشربونه أو في بطاقات الاعتماد التي يستعملونها. وبهذا يضعنا الفيلم أيضا ضمن عالم مفتوح لا حدود مكانية أو زمانية له، وتتحرك من خلاله الشخصيات مستعملة وسائل نقل مختلفة، من سيارات، الى يخوت، الى طوافات، الى طائرة لشحن البضائع. كل هذا يحدث بشكل لا يتيح للمشاهد أخذ النفس، وبالنهاية يدفعه الى التسليم وربما وقف اهتمامه بتفاصيل المساءلة عن ترابط المتقاتلين أوالأشياء ببعضهم البعض أو ضمن منطق السياق الكرونولوجي العام للقصة.

من فيلم “انسيبشن”

“البروتاغونست” هو الشخصية الوحيدة التي نراها تقريبا في كل مشاهد الفيلم. وهو الذي منذ البداية يلاحظ أن عملية مرور الزمن تحدث بطريقة غير طبيعية وغير مألوفة. “فالمستقبل” كحيز زمني يبدو الآن في موقع مفتوح يمكن أن يكون مصدرا لارسال أشياء وأشخاص وحتى مؤثرات فاعلة الى سياق الحاضر: فهناك رصاصة تخرق أحد المقاعد قبل أن يجري اطلاقها، وهناك ارهابي يتم قتله وهو يركض بشكل معاكس باتجاه الخلف، وهناك طلقة تظهر من مقعد غير مضروب بالنار ثم تتجه خلفا باتجاه المسدس الذي من المفترض أنها قد انطلقت منه. يضيف الفيلم الى هذا مجموعة لا تنتهي من المشاهد التي تحتوي على كافة أشكال الانفجارات المدمرة والمواجهات القتالية ومطاردات السيارات والتي تتفاعل كلها أمامنا في حالة من الهيولة الزمنية والمكانية بين من يقاربها في الحاضر ومن يقاربها في المستقبل. وللاختصار نذكر هنا أن ما بدأ نولان باللعب حوله وتجريبه منذ عشر سنوات في بعض مشاهد من فيلم Inception ، يتحول في “تينيت” الى الأساس الذي تنطلق منه ويتحكم بتركيبة السرد القصصي العام للفيلم.

وتدريجيا، يصبح واضحا من خلال سير أحداث الفيلم، أن كل شيء رأيناه ونراه قد حدث في الواقع في زمن سابق .. حتى أن نهاية الفيلم تعطي الانطباع بأنها تقودنا الى بداياته. وفي خضم كل هذا نكتشف أن “البروتاغونست” نفسه قد جرى “امتصاصه” الى رحب أحداث جاسوسية هي أكبر من حجمه وقدراته واستيعابه بكثير. أما الرجل “الشرير” فهو الثري الروسي آندريه ساتور )كينيث براناه(، الذي يقف وراء كل ما حدث ويحدث والذي يبدو مدفوعا من، ومصمما على تدمير العالم. لكن الفيلم لا يشير لا من قريب ولا من بعيد الى ما اذا كان هذا الحقد على العالم سببه قرب موت ساتور بسرطان البنكرياس، أو لأنه يعاني من نزعات جنسية سادية، أو لأنه يريد أن ينتقم من علاقة زوجته مع “البروتاغونست”، أو، أو….

حوار البطلين في فيلم “تينيت”

والفيلم يتخذ من ساتور المثال التقليدي لعدو الغرب و”الانسانية” الذي تعودنا على مشاهدته في أفلام جيمس بوند، لكن من غير روح الدعابة والسخرية التي يطبع الكاتب ايان فليمنغ فيها شخصياته. وهذا “الشرير” هو في الواقع عميل يعمل في عالم “الحاضر” لصالح عالم “المستقبل”. أما شخصية “كات”، زوجة “ساتور” )اليزابيث ديبيكي(، فيبدو أن وجودها في الفيلم يمثل محركا رومانسيا يرفع من حدة مستوى كراهية الزوج تجاه “البطل” وربما البشرية، ويقوي بالمقابل الدافع المحرك لدى “البروتاغونست” للقضاء على خطة الرجل “الشرير” لتدمير العالم. بيد أن هذا المكون لا يفلح في النهاية الا ليكون مجرد عامل اضافي يراكم أسباب فشل السيناريو في تقديم دوافع درامية قادرة على شد المشاهد على مستوى يتجاوز الانبهار البصري بحلقات القتال التي لا تتوقف. 

ويقدم “تينيت” أيضا للمشاهد مجموعات من الأحداث التي يعاد تدويرها من خلال زوايا مختلفة. وفي نفس الإطار يعيد الفيلم “موضعة” المشاهد في موقع التأمل بفكرة القدر والارادة الحرة وذلك عبر استعماله لرمزية اللعب في عملية الرجوع بالزمن أو التقدم به: مشهد انفجار الطائرة في مقابل مشهد دخولها المبنى وما يترتب فعلا في الحالتين، هو واحد من هذه المرجعيات التي يستثيرنا الفيلم للتفكير بها بمنطق القدر. كما يجري تقديم شخصية الفيلم الرئيسية بعناية في مواجهة احتمالات وجود وتأثير العوالم المتوازية على صيرورة حياته، وبشكل ربما يدفع المشاهد نفسه الى التفكير في قدرية صيرورته. بيد أن أحد مكامن الضعف الرئيسية في السرد الدرامي للفيلم هو ميله لتفسير ما يحدث بطريقة مغالية ومفتعلة عبر شخصيات متباينة. ويتكرر هذا طوال الفيلم الى درجة نشعر معها أن ما يحدث لا يفسح في المجال الا لمحاولة مصطنعة تعطي انطباعا كاذبا عن وجود طرح ثيمي ذو قيمة، في الوقت الذي لا يبني الفيلم أي أسس كافية لملاحقة دراما قصصية واضحة أو ثابتة.

  • بين استعراض حالة الضياع والاحتفاء بالعبث

افلام نولان بشكل عام تميل الى أن تستفز المشاهد الى التمعن فكريا بما يحدث أمامه. بمعنى ان هذه الأفلام في اكثريتها لا تسمح له باستيعاب القصة بسهولة، أو أن يستخلص صيرورتها الدرامية من غير تمحيص. فنولان يبقي نوعا من الدور للمشاهد ليكمل ما يلزم لوضع النقاط النهائية غلى حروف القصة. وهذا يتم اما عبر اتاحة الفرصة له )أي المشاهد( للوصول الى استنتاج مستقل بالنسبة لثيمة الفيلم بالعلاقة مع التوجهات “الاخلاقية” للشخصية الاساسية (افلام سلسلة باتمان)، أو عبر دفعه للتفاعل مع شخصية تمر عبر مستويات متباينة من الوعين في يزداد الخطر على كل من هو حولها أو قريب منها )“انسيبشين”(، أو عبر وضعنا أمام قصة شخصية رئيسية في الفيلم لا نستطيع فهمها الا عبر محاولة اعادة تركيب المكونات التفصيلية لهذه القصة / الأحجية أو “مكعب روبيك” )“ميمينتو”(.

من فيلم “انترستيلار”

من ناحية أخرى، نرى أن نولان في فيلم “انترستيلر” كان أقل ارتياحا لأسلوب تقنين القصة أو تفتيتها كمحفز للمشاهد لإعادة تركيبها. فهو يبدو هنا أكثر انهماكا في مسار آخر مفاده الاستعمال السردي واللعب ضمن مساحة تعج بالأمكنة والمواقع والمؤثرات البصرية التي تبدو في تصميمها أقرب الى الخياليات السوريالية. يضاف الى هذا، أن نولان هنا بدى منهمكا في رسم وتقديم شخصيات “مغرّبة” عن محيطها وحتى عن المسار الذي تعيشه. كل هذا كان يشكل أساس استراتيجية الفيلم للزيادة من خلط أوراق المشاهد بما يؤدي بالنهاية الى خلق مشاعر مختلطة تجاه شخصيات القصة ومجرياتها.

مع “تينيت”، يزيد نولان من الجرعة في “وصفة” تعقيد وخلط مسار القصة واتجاهاتها المكانية والزمنية، واضعا المشاهد في قمة التشكيك بعلاقة مكونات الفيلم السردية ببعضها البعض وبطبيعة تلك العلاقة بالمضمون الثيمي للفيلم… هذا اذا افترضنا وجود مثل هذه الثيمة. ولجعل الموضوع أكثر “استفزازا” للمشاهد المهتم بمتابعة تعقيدة قصصية تقليدية، يلجأ نولان وقبل انتهاء الفيلم بثلاثين دقيقة الى تكوين ما يشبه “المنصة” لمحاولة الشرح شبه المباشر لما حدث في سياق أحداث القصة. وما يجعل شكل السرد أشبه بلعبة “تذاكي” عبثية على المشاهد، تبوء محاولة التفسير الجديدة بالفشل في توضيح الأمور، بل تجعل الأشياء أكثر تعقيدا وضياعا من السابق. فما الذي يجري هنا، وهل له مفاعيل أو تواصلات فكرية معينة؟ 

كما نعلم، ومنذ فيلمه الثاني، بدء نولان يستعمل فكرة تركيب الأحداث عبر التراجع “خلفا” أو عبر التلاعب الزمني والمكاني في عملية السرد السينمائي. هذا الأسلوب لعب الدور الأهم في اطلاق الاهتمام بنولان وشهرته في عالم السينما. واستعمل نولان هذا التوجه الى حد أقل في كل من أفلام “انسيبشين” وحتى في “دنكرك”. وفي “دنكرك” بالذات، يغوص الفيلم في التفصيلات التي تربك استيعابنا لتفاصيل المكان والزمان، مما يدفعنا بالمقابل الى تركيز اهتمامنا برصد بشاعات الحروب وعواقبها على الانسانية. في هذا السياق يقوم نولان بلعب احد مكونات الأسلوب ما بعد الحداثي والذي “يلعب” ضمن مساحة الخلط المتعمد والمتعدد الجوانب لدلالات المكان والزمان، وهذا يعمل بطبيعة الحال لمصلحة السرد اللاتاريخي لأحداث قصة المعركة نفسها. فالغوص بالتفصيل “المايكروكوزمي” يقود في هذه الحالة الى اعطاء الأولوية لتهميش فهم المشاهد للمعطيات التاريخية المادية الأوسع للحرب ومفاعيلها وادواتها ومسبباتها. وبالنتيجة، تتحول معركة دنكرك الى حالة صراع بين أطراف تجمعها حرب سببها “الشر” الذي يكمن في الطبيعة الانسانية والذي ينفجر من حين لآخر بفعل قدر قاس وظالم في عواقبه.  

بمقابل تلك العبثية المطلقة في استعمال أدوات أسلوب “اللعب” ما بعد الحداثي، فان ما جعل استعمال نولان لتقنية السرد المفكك في فيلم “ميمينتو” مميزا ارتبط بشكل واضح بنجاحه في دفع المشاهد باتجاه لعبة معاكسة للعبة التفكيك. اللعبة في “ميمينتو” تتحول بامتياز الى لعبة “اعادة تركيب” … أي الى لعبة متفاعلة وحماسية تهدف الى دفع المشاهد لاعادة تركيب القصة الحقيقية لمرحلة مشوشة وشبه ممحية من حياة رجل قتلت زوجته ويحاول الآن أن يفهم الظروف التي أدت الى قتلها، وحقيقة علاقته بشخصيات هي جزء من حاضره وماضيه الذي لا يمكن له أن يقبض على حقيقته بسبب ذاكرته القصيرة.

مغامرة تينيت

ما يحدث في “تينيت”، أو حتى في “دنكرك”، هو عكس ما يحدث في “ميمينتو”. في الفيلمين الأولين فان اللعبة هي لعبة عبثية لا مكان فيها لتفاعل ذو معنى مع قصة تثير اهتمامنا بشخصية أو شخصيات أو أي قضية محددة. هنا يتحول الانسان وقضاياه الى مجرد “كومبارس” أو خلفية للاحتفاء بالحذلقة السينمائية كهدف للعمل السينمائي بحد ذاته. في هذا السياق، بقي فيلم “ميمينتو” يمثل بالنسبة للبعض اكثر افلام نولان قوة وابداعا واقربها اليهم. وهذا لا يمكن فصله عن المكون الانساني الذي طبع تعاطي الفيلم مع مسار وعواقب ضياع ذاكرة شخصيته الرئيسية.

فتركيز “ميمينتو” يبقى منصبا على البناء السردي للقصة بالتفاعل مع ثيمة “الذاكرة الانسانية” والسؤال الأساسي لسيناريو الفيلم: ماذا يحدث عندما يحاول رجل قتلت زوجته ويعاني من فقدان الذاكرة على المدى القصير، في ما اذا حاول التحقيق لمعرفة قاتل الزوجة؟ هنا يصبح من الصعب “التفركش” بمستنقع حذاقة البنية المبدعة نفسها، بل يصبح التماهي الثيمي مع أسلوب السرد أساسا للفيلم نفسه. فعبر القصور المتعمد في تسريب وتركيب تفاصيل القصة، يدفعنا الفيلم باتجاه تقصي تلك التفصيلات بنفسنا وذلك عبر محاولة ربط مرجعيات الماضي مع مجابهات ومرجعيات الحاضر الدائمة التراكم. وهو بالتالي لا يسمح لنا بأن نفلت من “الصحبة” التي قمنا ببنائها عبر متابعتنا للمسيرة المأساوية للحياة المقطعة الأوصال لشخصية ليونارد شيلبي )غاي بيرس(.

بدايات نولان اذا اقترنت بتقديم أحد أهم تعابير الابداع السينمائي عن مرحلة ما بعد الحداثة، والتي وصلت الى أوجها بشكل خاص في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي في تسعينات القرن الماضي. واتسمت تلك المرحلة بالطغيان الفكري والسياسي والمعرفي وعلى كافة المستويات الثقافية الشعبية منها والنخبوية، لمقولات “نهاية التاريخ” و”نهاية الايديولوجيات”، وبالتالي نهاية اي امكانية لاحداث أي تغيير ذو أبعاد جذرية في الواقع الجديد لعالمنا. وفي سياق هذا التصور، فان العالم يعيش اليوم في عصر الهيمنة المطلقة للنظام الرأسمالي الغير قابل لأي تحدي او مجابهة. اما البديل، فهو مزيد من الشيء نفسه، والمراوحة في خضم الازمات التي من الممكن أن تتفجر من وقت الى آخر الى ان نتعود على التأقلم معها لتصبح جزءا من حالة عادية.

من فيلم “ميمنتو”

وبنفس الأهمية، فان الفكر السياسي الذي اقترن بالعديد من الطروحات التي كانت تتداولها أوساط تصف توجهاتها بالما بعد حداثية وعبر عن قناعته بمقولة نهاية التاريخ وعدم امكانية فرز أي تغييرات بنيوية أساسية في الواقع الاجتماعي والسياسي الذي تعيشه البشرية، كان يعبر أيضا عن قناعته بأن محاولات الغوص في تقصي التاريخ أوالبحث في غياهب ما يوصف بالذاكرة الجمعية للشعوب وكل ما يمت اليهما بصلة، ما هي الا جزء من نزعات تخفي توجهات “ايديولوجية شمولية” لا طائل أو فائدة منها. وانسجاما مع هذا التفكير، أصبح التدوير العبثي، سواء في السياسة او في الاقتصاد او في الفكر او في الفن هو البديل “الابداعي” الوحيد الذي نستطيع العمل من خلاله في هذه المرحلة. من هنا كان احتفال بعض ما بعد الحداثيين بفكرة “اللعب العبثي” و”التفكيك” في حيز ما هو قائم ومتوفر، وذلك كهدف وكنمط حياة ومنهج فكري شامل لعملهم. هذه الطروحات الفكرية تقاطعت مع طروحات فنية كانت تتراكم منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي والتي عبرت عن نفسها سينمائيا بالتفكيك واعادة التدوير الجنري والخلط بين مرجعيات الزمان والمكان. ولنفهم بشكل أعمق ما مثله فيلم “ميمينتو”، سيكون من المفيد لنا أن نستطرد قليلا فنعرج لنضع أنفسنا في الأجواء الابداعية للسينما في نهايات القرن الماضي، وكيف يمكن لهذه التجارب أن تكون قد شكلت مساحة لظهور فيلم “مشغول” كليا بفكرة “اعادة التركيب” عوضا عن فكرة “التفكيك”.

     4( سينما ما قبل “ميمينتو”

يمكن رصد عدد من الممارسات التي جرى التعاطي معها في اطار تمثيلها للفكر الما بعد حداثي، خصوصا في العقدين الأخيرين للقرن الماضي. من ضمن هذه الممارسات، الاتجاه للخلط المتعمد والواسع في مابين معادلات لأنواع جنرية متنوعة، أو الاستعارة الواضحة من أفلام أخرى، أو استعمال النبرة العامة لأعمال فنية أخرى، كل ذلك في اطار الفيلم نفسه. واحدى الممارسات المتكررة هي الاحتفال بتقديم الأحداث باطر مختلطة تاريخيا ومكانيا. مثل هذه الاتجاهات شملت رسم مكونات بصرية للسياق العام لسرد القصة تتسم بجمعها لمكونات آتية من فترات زمنية متباينة )خلفيات لفترات مستقبلية مع فرعونية مع تلك التي تقرن بالغرب الأميركي في أواخر القرن التاسع عشر(، أو مكانية مائعة )كمدينة من المستقبل تضم تجسيدات عمارة ومطاعم وأمكنة وملابس متشابكة في ترابطها على الرغم من تمثيلها لخلفيات عربية وصينية وأوروبية وغيره(. في هذا الاطار من “البناء” السينمائي )الذين يعرفون أنفسم بأنهم مابعد حداثيين يرفضون تعبير “بناء” ويصفون ما يقومون به “بالتفكيك”(، الاتجاه هو للتعبير عن حالة من التوتر الدائم بين التجسيد للأفكار أو الرموز البصرية والثقافية والاحتماعية من ناحية، وما تعودنا على وصمها به ضمن هيمنة ونفوذ توجهات سياسية أو فلسفية أو “أخلاقية” محددة. فنحن هنا أمام

من فيلم بليد رانر

وفي كثير من الأحيان يطلق على هذا النوع الممارسة “الدمجية” للعناصر توصيف “اللعب” بالادوات والمرجعيات. واذا كان هذا النوع من هذا “اللعب” ليس غريبا عن بعض التيارات التي اقترنت مع مرحلة الحداثة )السوريالية هي مثال على ذلك(، فان التشديد هنا هو على “عبثية” اللعب والتأكيد على اعتباره بمثابة غاية بحد ذاته، والتي لا يجب أن يسمح لها بالارتقاء الى دعم أو تثبيت أو الاحتفال باتجاهات نظرية أو فكرية محددة. وعكس ما يتجلى في التقليد الفني المعروف بالمحاكاة الساخرة “Parody”  حيث يجري نوع من التقليد لأسلوب أو عمل فني محدد وذلك بهدف انتقاده والتصويب على بعض مكوناته )أفلام المخرج ميل بروكس في السبعينات على وجه الخصوص(، فان ما يحصل في الممارسة الما بعد حداثية هو شيء آخر. فهنا يكمن نوع من الاحتفال العبثي بالمرجعية التي يجري التعاطي معها عبر ما يطلق عليه عادة تعبير Pastiche والتي يعاد تدويرها جزئيا او بشكل عام. وهذا لا يرتبط بالضرورة بالتعبير عن توجه ايجابي، أو سلبي، أو حتى “حيادي” تجاه هذه المرجعية أو ما ترمز اليه أو تمثله.

والعديد من الأفلام الهامة بنت، عمدا او عن غير قصد، قاسما مشتركا لملامح ثيمية وفنية طبعت العقد الثامن والتاسع من القرن الماضي. ولعل فيلم ريدلي سكوت عام 1982 Blade Runner مثل نقلة نوعية في رسم معالم الفيلم ما بعد الحداثي خاصة لجهة دمجه “العبثي” ما بين مظاهر عوالم من المستقبل والحاضر والعابرة للمكان وللاثنية وحتى للهوية “الانسانية” والتي تتحول بدورها الى ساحة للصراع على الهيمنة بين شقين: الآلي والبشري. والفيلم يجسد لنا مدينة متهالكة تعاني من التآكل والفراغ وهيمنة وسائل المراقبة التقنية على كل شيء فيها. أما فيلم Blue Velvet  لديفيد لينش عام 1986 فيدخلنا من بوابة ما يبدو حياة طبيعية في مجتمع معاصر نحو واقع مظلم من الفراغ النفسي الذي يستهلك نفسه الى ما لا نهاية. ويستحضر لينش في الفيلم خليط من الأجواء السينمائية للخمسينات والستينات مع اعادة تدوير لأسلوب “النوار” الآتي من الثلاثينات والاربعينات، لكن هذه المرة من غير عنصر الاثارة الذي كان يميزه. فيستبدله الفيلم بجو مشحون بالشك المزمن وبعدم القدرة على تمييز الواقع الحقيقي للشخصيات الرئيسية ولا أهدافها ولا الأسس “الأخلاقية” التي تحركها.

أما فيلم Sex, Lies, And Videotape لستيفن سودربيرغ عام 1989، فقدم نوعا من “التفكيك” الشامل للمجتمعات المعاصرة من خلال رصده لعالم الجنس في زمن “العلاقات الالكترونية”. ومن خلال هذا الرصد نعاين مظاهر عدة لتغير ملامح في رؤيتنا لنفسنا وللغير في ظل “مأسسة” وجود الوسيط التقني للعلاقات الانسانية. وقراءة سوديبرغ للموضوع تضفي عليه فنيا طابع “اعادة التدوير” لأسلوب “الانعكاسية” Reflexivity الذي يبرز تقنية التصوير والمشاهدة كوسيلة للفت النظر الى طبيعة السينما كتركيب مؤدلج. وهذا الأسلوب عرفناه من قبل مع جان لوك غودار. لكنه مع سودربرغ يكتسب بعدا جديدا، لجهة تحول تقنيات التواصل الى عنوانلواحدة من فتشيات المجتمعات المعاصرة.

بيد أن فيلم كوينتن تارانتينو Pulp Fiction عام 1994 كان له وقع أساسي لجهة ترسيخ العديد من المعالم التي اقترنت نظريا بالتوجهات الفنية لما بعد الحداثة في اطار السينما. فكان نجاح أسلوب تارانتينو على المستوى الجماهيري في مقاومة احترام “أصول” السرد التقليدي سواء في تجسيده لأزمنة وأمكنة وتراتبية الأحداث داخل سياق الفيلم، وعم التعاطف المسبق مع قيم أو شخصيات الفيلم، كل هذا كان له أثر هام في جعل هذا الأسلوب لصيقا بالذوق الشعبي للسينما المهيمنة. بالاضافة لأسلوب السرد الروائي العام، فان اتجاه الفيلم لاستحضار أنواع جنرية )وخصوصا الكوميديا مع أفلام الاثارة البوليسية( وموسيقية متنوعة واحالات لمراجع عديدة من أفلام أخرى ومن أزمنة مختلفة في تاريخ السينما كان له أيضا دورا مفصليا في نشر وتعميم الاتجاهات التي اقترنت بما أضحى يعرف بسينما ما بعد الحداثة.

ومنذ ثمانينات القرن الماضي وحتى اليوم ازداد بشكل غير مسبوق تنوع مصادر الإقتباسات السينمائية لروائيات خارج نطاق الرواية والقصة بأشكالها التقليدية. ومن أهم الأمثلة في هذا المجال كتب الكوميكس (Comics) مثل “سوبرمان” و”باتمان” و”سبايدرمان” و”الإكس من” وغيرها، وألعاب الفيديو مثل “سوبرماريو براذرز” و”بوكيمون” وغيرها. وبالرغم من أن هذه الإقتباسات السينمائية “العابرة للنصوص”)intertext(  لم تستنفر الكثير من المناقشات التي شهدناها مع الأعمال الروائية الأدبية “التقليدية” والفيكتورية منها بشكل خاص، لجهة مواضيع “الإخلاص للنص” و “المشابهة” و”اللغة”، فإن تزايد هذه الاقتباسات أعاد التذكير بأهمية التعاطي مع موضوع الإقتباس في إطار التعامل مع النص نفسه عوضا عن المضمون. فالتوسع الواضح في السينما “العابرة للنصوص” وتداخلها وتفاعلها مع مكونات ومصادر متنوعة بدرجات غير مسبوقة سواء على مستوى الانتاج، “النص”، أو على مستوى أشكال التلقي والمشاهدة ساهم بدوره في تحويل اهتمام المدارس النقدية والبحثية في السينما الى اعتماد القالب والنص كأساس في منهجيتهم. وبطبيعة الحال، دفعت هذه المعطيات الجديدة بإتجاه التعاطي مع موضوع الإقتباس السينمائي من قبل بعض الباحثين السينمائيين بتفاعل أكثر دينامية من ذي قبل.

وربما من أهم الأمثلة وأكثرها وقعا على التوجهات السينمائية في فترة التسعينات وما بعد كان فيلمRun Lola Run  لتوم تايكوير عام 1998. الفيلم مبني على وقع مشابه لوقع لعب الفيديو، ويجمع بصريا في مابين السينما “الواقعية” والتحريكية ويستعمل صوتا معروفا في الثقافة الشعبية الألمانية لقصص الأطفال. ضمن هذا التوجه الملتبس في الأسلوب، يضيف الفيلم تكريسا للتوجهات النظرية ما بعد الحداثية، والتي تحتفي “بنسبية” الرؤية في قراءة الأحداث. حيث يصبح تسلسل الأحداث التي تستتبع بدء لولا لركضها لانقاذ شريكها، وتقديم لفيلم لعدة نسخ للقصة مع عدة نهايات، بمثابة رمز مجازي للاحتمالات التي تواجهنا في حياتنا ضمن عالم لم يعد من الممكن التنبؤ بمفاعيله أو بصيرورته.

عدة أفلام أخرى أعادت رسم معالم ما بعد حداثية في تناولها للقصة السينمائية خلال مرحلة التسعينات, ومن أهم هذه الأفلام التي يمكن الرجوع اليها في هذا الاطار The Big Lebowski عام 1998، و Fight Club لديفيد فينشر عام 1999، و  American Beauty لسام مينديز عام 1999. كل هذه الأعمال ساهمت، كل من ضمن خاصيات ثيمية ونصية مختلفة، في اعادة رسم خطوط لسينما جديدة ولدت من رحم متغيرات مفصلية لرأسمالية متقدمة وأكثر سطوة وهيمنة على وعي من يعيش تحتها. هذه الأفلام عبرت الى حد كبير حالة المراوحة والضياع والعبثية التي طبعت زمنها على وقع الزلزال الفكري الذي أصاب العالم بأشكال مختلفة منذ تسعينات القرن الماضي. الا أنها من ناحية أخرى ساهمت، كما أشرنا سابقا، الى توسع أشكال التعبير السينمائي وتداخل هذا التوسع بثقافة السينما الشعبية بما فيها السينما المهيمنة. وما توسع نفوذ سينما مارفيل في العقد الثاني للقرن الخالي الا تعبير عن تراكمات التوجهات المغايرة المضمون والأسلوب الذي رسمت معالمه الأولى السينما ما بعد الحداثية لآخر عقدين من القرن الماضي.

     5( “ميمينتو” و”تينيت” أو وجها مقاومة التفكيك المعرفي، أو التسليم به

“ميمينتو” كان واحدا من اهم الأفلام التي تناغمت رمزيا مع حالة الضياع الفكري المرتبطة بتصاعد لحالة فقدان الذاكرة الجمعية في واقع المجتمع الراسمالي المعاصر. فالفيلم المبني سرديا حول حكاية عن فقدان الذاكرة القصيرة المدى، ومحاولة الاعتماد على توظيف دلالات واشارات سيميائية متناثرة لاعادة تركيب قصة فقدت وعاء الذاكرة الانساني الذي ارتبطت به، حاكى الى حد كبير الحالة “اللاتاريخية” لذاكرة ما بعد الحداثة: هذه الذاكرة التي تميل الى العيش من لحظة للحظة.

فالاوشام وصور كاميرا البولارويد المقرونة بكتابات وتعليقات عن أشخاص وأحداث، كما نراها في الفيلم، هي اشبه بومضات المعلومات المجتزأة والمبعثرة التي يجترها الكثيرون في عالمنا المعاصر خلال تتبعهم للعالم من خلال وسائل الاعلام السائدة والانترنت وبشكل خاص من خلال وسائل التواصل الاجتماعي على اختلافها. فهذه المعلومات لا يمكن لها ان تكون ذات فائدة جدية على المدى البعيد أو حتى القريب ان لم يتم وضعها ضمن ابعادها واطرها الاوسع والاشمل. وضمن هذه المحدودية في القدرة على اعادة تركيب الأحداث في سياقها الكرونولوجي، يتراوح مصير شخصية ليونارد شلبي في مكانه ليبقيه في النهاية ضحية تلاعب من يتمتعون بذاكرتهم وبالتالي قدرتهم على اعادة تركيب تفاصيل الاحداث في سياق الأطر التي تناسب رؤيتهم ومصالحهم.  

في هذا السياق مثل “ميمينتو” ايقونة لسينما مستقلة جديدة وواعدة، استطاعت أن ترصد واحدا من اهم تجليات حالة العجز التي هيمنت على عالمنا في مرحلة ما بعد انهيار التجربة الاشتراكية السوفياتية. وهي الحالة التي كانت مفهومة من الناحيتين الاجتماعية والسياسية في المراحل الأولى للأحداث، لكنها تدريجيا تحولت الى حالة مرضية مزمنة يسهم في تدويرها بشكل مباشروغير مباشر من قبل القوى الطبقية المهيمنة وضمن المقولات التي تحدثنا عنها سابقا عن”نهاية التاريخ” و”نهاية الايديولوجيات”. و”ميمينتو” جاء بتعاط مختلف، في الفكرة وفي الأسلوب السردي، مع حالة المراوحة في مستنقع التفكير الآني وعدم القدرة على ربط القضايا ببعضها البعض. وفي هذا الاطار، قدم الفيلم مقاربة هامة لقصة عن محاولة منفردة ويائسة، وان تكن في الواقع بطولية، لشخص يحاول تحدي ما فرض عليه من خلل جذري في ذاكرته. وهذا التحدي ومحاولة اعادة تركيب كرونولوجيا تاريخه الشخصي، هو ما يستعيد لشيلبي بعضا من هويته الانسانية المفقودة في غياهب عالم مفترس لا هم له سوى استغلال حالة ضعفه وتشتت قدرته على الفهم المنهجي لواقعه وتاريخه.

وعلى مستوى المقاربة التأويلية، يتفاعل الفيلم بقوة مع حالة فقدان الذا كرة والعجز الفكري المزمن، الذي يشابه الى حد كبير الحالة الايديولوجية المهيمنة، خصوصا لجهة تناغمها المباشر وغير المباشر مع تهميش الفكر النقدي والتاريخي تجاه مآلات حياتنا وواقعنا المعاصرين. فيصبح عدم ربط القضايا ببعضها ورفض المقاربة العلمية لقضايانا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتركها “للمختصين”، من ناحية، كما “العبث” في الفكر وفي الممارسة، من ناحية ثانية، عناوين عامة لأسلوب تعاطينا المعرفي مع “الواقع” الذي نعيش فيه. وضمن هذه الرؤية تصبح أي محاولة لمقاومة هذا الواقع والعمل من اجل تغييره، بمثابة ممارسة لا طائل منها ومجرد مضيعة للوقت.  

في “تينيت” يتحول اللعب السردي العبثي بالدلائل والاشارات الى هدف متكامل بحد ذاته، يتخذ هدفه القصصي والثيمي بعدا محدودا. فبالرغم من براعة تصميم الانتاج وتنظيم مشاهد الحركة وانفجارات المباني ثم استعادتها لشكلها ثم تفجيرها من الداخل، وتفجير طائرة حقيقية أمام أعين الكاميرا، وتحليق الطيور نحو الخلف، وتسيير الجنود وكأنهم يتبعون مشية “الموون” التي ابتدعها مايكل جاكسون، وبالرغم من انبهارنا بقيام شخصيات الفيلم بالقفز عبر الزمن بين المستقبل والماضي وما بينهما، فان هذه الانجازات البصرية للفيلم تبدو بعيدة عن اغناء أو مواكبة البنية العامة لقصة يفترض بشكل أو بآخر أن يكون لها معالم درامية وثيمية محددة يمكن التفاعل معها.  

ويفقد القطع التوليفي ضمن هذا السياق ما يفترض أن يقوم به في اطار أي فيلم )وخصوصا بالنسبة لفيلم هوليوودي( يعتمد على ربط منظومة المعلومات المبعثرة لتوضيح المسار القصصي العام للفيلم. وهذا لا يطال فقط ربط القضايا التفصيلية العلمية المعقدة التي يرميها الفيلم يمينا وشمالا، بل يشمل أيضا تعاطي الفيلم مع ربط قضايا بديهية ببعضها البعض، مثل، على سبيل المثال لا الحصر، كيفية وصول وسيلة نقل البطل الى العالم المعكوس. مثل هذه المكونات السردية لا يمكن تركها من غير توضيح. بل ان ومضات الفيلم المدهشة بصريا تتحول بالنهاية الى مشاهد احتفالية يستعرض فيها نولان عضلاته التقنية والمالية لاثبات قدرته على ابهارنا وجعل تجربتنا مع تقنية “الآيماكس” اقرب الى حالة “فتشية” خاصة تتجاوز الفيلم نفسه، وقصته التي نحاول متابعنها.

نحن هنا اذا أمام لعب “حول القصة” بدلا من أن يكون متناغما معها. الفيلم يجعلنا ندرك أننا في سباق مع الزمن (سواء بالاتجاه نحو الماضي أو المستقبل) لايقاف “الشرير” من تحقيق هدفه بانهاء كل ما كان وبالتالي انهاء الوجود البشري نفسه. لكننا لا نفهم على سبيل المثل ماذا يعني هذا لا بالنسبة للبروتاغونست ولا للشرير الروسي. وبالتالي فان الفيلم يتركنا نلملم بعض الاحتمالات لنعبث بها ليس الا، لكن من غير أن يدفعنا للاهتمام جديا او وجدانيا او فكريا بمصائر هذه الاحتمالات ومعانيها. بالنهاية، ما يبقى لنا من الساعتين ونصف من هذه الدوامة السينمائية لا يتجاوز التمتع باستعراضات لمؤثرات بصرية مبهرة تمر في سياق قصة مشتتة وغير مركزة، لا مرساة تشدنا اليها او تشدها الينا.

خاتمة

فاذا كنت ماساة فقدان الذاكرة الطويلة في اساس حالة الضياع والمراوحة التي تعيشها الشخصية الرئيسية في “ميمينتو” قد مثلت تعبيرا بليغا عن مكون ايديولوجي يطبع مرحلة الراسمالية المتاخرة، فان هذه المراوحة داخل الفيلم كانت أيضا بمثابة حافز للمشاهد لمحاولة فك الطلاسم التي يزودنا شكل سرد القصة بها. بالمقابل، فان اختلاط مسار القصة نفسها في “تينيت” يقود بالمشاهد الى الاهتمام بشيء مختلف جذريا. فيصبح عامل الاثارة الرئيس رهنا بمتابعة استعراض العضلات التقني في مشاهد الآكشن والمطاردة والانفجارات وما تحمله من رعشة تشويق وانفعال اشبه بتلك التي نشعر بها ونحن نتسلى بالعاب الفيديو، ولكن على شاشة اضخم.

نحن هنا اذا امام مزيد من دق الاسفين في روح السينما كممارسة ثقافية انسانية غنية ومتفاعلة مع واقعها. ويبدو أن نولان الذي قدم ذروة ابداعه في أوائل عمله السينمائي حين جعل من الميزانية البسيطة للفيلم حافزا لبناء تركيبة سينمائية يتكامل فيها الأسلوب مع الحبكة الدرامية والثيمة الانسانية، قد وصل الآن الى مرحلة تمخض فيها “معبود” ميزانيته الضخمة فلم يلد الا المزيد من “العبث” الذي لا معنى ولا روح له.

السينما دائما تنحو باتجاهات جديدة وتعيد تركيب نفسها أو تنفض عنها جذريا طرقها وأساليبها السابقة، وهذا أساس جمالها وشعبيتها التي لا تتوقف. لكنها، كما قال المخرج مارتن سكورسيزي في معرض تعليقه على ما تمثله اليوم “أفلام مارفيل”، تبقى بالنهاية مبهرة بسبب قدرتها على تشويقنا للدخول في نوع جديد من الكشف الفني أو العاطفي أو الروحي. وهذا يرتبط بالنهاية بالشخصيات التي تقدمهم هذه السينما لنا وهم يواجهون تناقضاتهم، وأحلامهم، وآلامهم، وتقاطع تجاربهم.

Visited 14 times, 1 visit(s) today