قراءتان لفيلم “حرب كرموز”من عين المتفرج ومن عين الناقد

هناك نوعية من الأفلام لا تستطيع أن تصدر عليها حكماً سلبياً لجودة الصناعة، ولا تستطيع أن تصدر حكماً إيجابياً بسبب غياب المضمون. وفيلم “حرب كرموز” الذي أخرجه بيتر ميمي وقام ببطولته أمير كرارة وحقق إيرادات مرتفعة منذ عرضه في دور السينما في عيد الفطر الماضي، يعتبر واحداً من هذه النوعية.

وحتى لا نظلم هذه الأعمال، ينبغي أن نقرأها من مستويين: مستوى المشاهد العادي، الذي يقف عند حدود الرسالة المباشرة للعمل، ومستوى الناقد المدقق الذي يستطيع أن ينفذ إلى المعاني الخفية والرسائل المضمرة في ثنايا العمل.

وبهذا الاعتبار سنحاول أن نحقق هاتين القراءتين فيما يتعلق بفيلم “حروب كرموز” بأن نضع أنفسنا مرة مكان المشاهد العادي، وأخرى مكان الناقد المدقق حتى نستطيع أن نفي الفيلم حقه.

عين المشاهد العادي

يعتبر فيلم “حرب كرموز” من الأفلام الجماهيرية، التي تعتمد على ملحمة إنسانية شعبية تجذب المشاهدين، من مختلف الأعمار، وتترك في نفوسهم أثراً إيجابياً يستمر لفترات طويلة قبل أن يمحى، بل إنه في كثير من الأحيان يتحول إلى أسطورة تسهم في إعادة تشكيل الوعي الجمعي.

وقصة “حرب كرموز” بسيطة للغاية، وهي رغم بساطتها تفي بالغرض، لأن الحدث الرئيس فيه من السخونة ما يمكنه من تحريك باقي أحداث الفيلم، وكذا الاستحواز على مشاعر المشاهدين طوال زمن العرض.

تبدأ الأحداث بمشهد اغتصاب فتاة مصرية في حي كرموز بالإسكندرية من قبل جنود الاحتلال الإنجليزي في الأربعينيات من القرن الماضي.

يقع الحدث في أجواء ليلية قاتمة ومثيرة في آن. ولا تأتي السخونة من واقعة الاغتصاب التي لم تستغرق زمناً طويلاً على الشاشة، ولكن من مشهد الانتقام التالي للاغتصاب، والذي يقوم به ثلاثة من شباب المصريين، ويستطيعون خلاله الثأر لشرف الفتاة المغتصبة واسترداد الكرامة المصرية التي دنست في الوحل تحت جنح الظلام. وينجح الشباب في قتل أحد الجنود الإنجليز وتلقين الآخرين درساً قاسياً حتى يكسروا شوكتهم.

وفي قسم شرطة كرموز يتم إيداع الشابين المصريين والجندي الإنجليزي بمعرفة الضابط المصري “يوسف المصري” الذي يقوم بدوره أمير كرارة. ولأن المصري صاحب مبادئ أخلاقية ووطنية فإنه يرفض تسليم الجندي الإنجليزي أو الشابين المصريين لقوات الاحتلال، وهنا يقرر الجنرال آدمز اقتحام القسم بالدبابات في مشهد أسطوري يذكرك بأجواء الحرب العالمية الثانية.

ينجح كرارة في تجسيد دور الضابط الوطني الشجاع نفسياً وبدنياً، حيث يتمتع بقامة مهيبة ونظرات ثاقبة ذات ثقة وجاذبية خاصة، معرضاً نفسه لخطر الموت أكثر من مرة. تقف مع كرارة مجموعة من الشخصيات البسيطة التي تملك حساً وطنياً وتقبل التحدي في مشهد مؤثر عندما يطلب الضابط “يوسف المصري” إخلاء القسم من المساجين والعساكر، معلناً وقوفه وحده أمام الجحيم القادم من مدفعيات الجيش المحتل، الذي يحاصر القسم من الخارج.

وهنا تقرر العاهرة “زوبة” (غادة عبد الرازق) البقاء في القسم بجوار “المصري” لأنها ليست أقل وطنية منه، ويتخذ نفس الموقف اللص “عصفورة” (مصطفى خاطر) و”عزت الوحش” (محمود حميدة)، والضابط الصغير (محمود حجازي) الذي يعمل تحت رئاسة “يوسف المصري”.

تبقى “زوبة” بالقسم من أجل رعاية الفتاة المغتصبة، ويبقى “عصفورة” لاستخدام مهارته في تسلق المواسير والقفز من فوق الأسطح من أجل الخروج والدخول إلى القسم إذا دعت الحاجة، ويبقى “عزت الوحش” باعتباره “بكباشي” أو ضابط جيش متقاعد لديه خبرة سابقة في مقاومة قوات الاحتلال.

يحتوي الفيلم على مجموعة من المشاهد المؤثرة التي ساهمت في تأجيج نار الصراع بين قوات المقاومة وقوات الاحتلال، مثل مشهد موت الضابط الصغير داخل القسم في ظل انقطاع المياه ومحاولة العاهرة إنقاذه بقليل من الماء الذي تبقى في زجاجتها، ومشهد خروج الضابط “يوسف المصري” من القسم كي يُشنق على يد قوات الاحتلال أمام جمع غفير من المصريين القانطين بحي كرموز بدلاً من اللص “عصفورة” الذي سبق وأن أنقذ “المصري” وسقط في أسر الإنجليز.

هناك بعض العبارات ذات الدلالة مثل عبارة “زوبة” التي وجهتها للبنت المغتصبة “أنت هنا في القسم علشان الشرف، وأنا كمان.. بس أنت جيتي علشان تحافظي عليه، لكن أنا جيت أخد رخصة علشان أبيعه”. وعبارة بيومي فؤاد للجنرال الإنجليزي “يعني هى حياة الجنود الإنجليز أهم من حياة الجنود المصريين؟”. وعبارة “يوسف المصري” “لو حياتي وجعتكم، فموتي هيوجعكم أكثر بكثير، والميت ما بيتوجعش”.

تكتسي معظم شخصيات الفيلم بالمسحة الوطنية، حتى هؤلاء الذين
لا يعملون بالسياسة، على نحو يذكرنا برائعة هنري بركات “في بيتنا رجل”. فجلال الحدث هو الذي يستفز الشعور الوطني داخل الأفراد العاديين، بل إن المواقف الكبرى والمصير الجمعي يعملان على تطهير ذوي النفوس الآثمة من الذنوب.

مشهد البكباشي “حمزة الهواري” (فتحي عبد الوهاب) وهو ينضم بقواته إلى فريق المقاومة بقيادة “يوسف المصري” في مواجهة جيش الاحتلال، وهو الذي كان مكلفاً من قبل القيادة بمهاجمة القسم كان مثيراً ومعبراً عن لحظة وطنية فارقة.

مشاهد المعارك التي تدور بين نجم الكونج فو العالمي “سكوت أدكنز” و”يوسف المصري” لم تكن في صالح الأخير بدنياً وحركياً، إلا أنه قد تم حسمها بطريقة ذكية ترضي المشاهد: حيث تعامل “المصري” مع الموقف، رغم سخونته، بخفة ظل مصرية واثقة عندما أطلق عبارته الأخيرة “مع السلامة يا خواجة” قبل أن يدفع بالضابط الإنجليزي المجنون إلى جحيم النيران المتفجرة.

استطاع المخرج “بيتر ميمي” أن يقدم تجربة سينمائية جديدة تُعد إضافة حقيقية لأفلام الحركة في مصر، ساعده في ذلك سخاء الإنتاج والرغبة في تقديم سينما مختلفة تقترب من العالمية. نجح بيتر ميمي في اختيار زوايا التصوير، خاصة في مشاهد المطاردات في حواري كرموز الضيقة، كما كان موفقاً في الحفاظ على إيقاع الفيلم المثير بحيث لم يشعر المشاهد بالملل في أي لحظة بالرغم من محدودية الفضاء البصري الذي كانت تدور فيه الأحداث.

ساعدت الموسيقى المتصاعدة لخالد داغر في إبراز المواقف البطولية لشخصيات الفيلم على اختلاف أدوارها، كما نجحت في وضع المشاهد داخل الجو النفسي للأحداث.

وفي كل الاحوال “حرب كرموز” تجربة سينمائية تستحق المشاهدة.

من عين الناقد المدقق

يأتي فيلم “حرب كرموز” كحلقة في سلسلة بدأها المخرج “بيتر ميمي” في مسلسل “كلبش” بجزئيه ضمن مشروع كبير يهدف إلى تجميل وجه وزارة الداخلية، خاصة بعد أحداث 25 يناير التي شهدت مواجهات مباشرة بين الشرطة والشعب راح ضحيتها الكثير من الشباب، مما أدى إلى اهتزاز صورة رجل الشرطة في عيون المواطنين، بالإضافة إلى شعورهم بالنفور والاستفزاز تجاه الزي العسكري الملطخ بدماء الأبرياء من وجهة نظرهم.

ولأن الشرطي مواطن مصري في المقام الأول، فهو يقوم بوظيفته كأي مواطن آخر، ويمكنه أن يتعرض للظلم والهوان وسوء الفهم كما حدث في “كلبش (1)” ، كما أنه مواطن شريف يجازف بحياته من أجل حماية الآخرين كما في “كلبش (2)”. ليس هذا فحسب، بل إن ميمي يسمح لخياله البرئ بأن يعزي للشرطي دوراً وطنياً كبيراً، يقوم من خلاله بمواجهة جيش الاحتلال البريطاني بكامل عدته وعتاده، وهو لا يملك سوى مسدسه ومجموعة قليلة من المساجين والعساكر بقسم كرموز.

يستعين ميمي بأمير كرارة في كل هذه الأدوار، لأنه – فيما يبدو – يرى فيه صورة الشرطي التي يمكن أن تحقق له رؤيته الخاصة التي لا تخلو من إيديولوجيا تصالحية متفقة مع الاتجاه السياسي للنظام الحاكم. وبهذا المعني لا يجد المشاهد صعوبة في إدراك مدى التشابه الكبير الذي بين شخصيتي “سليم الأنصاري” في “كلبش”، و”يوسف المصري” في “حرب كرموز” إلى الدرجة التي يمكن معها اعتبار إن إحداهما هي مجرد نسخة كربونية من الأخرى.

 أمام الإنتاج السخي والرغبة في توصيل الرسالة القومية لا يجهد ميمي نفسه في البحث التاريخي عن وقائع حقيقية، أو حتى في ابتكار حبكة جديدة أو شخوص مقنعة، لكنه يعمد إلى إعادة توليف تيمات قديمة مكررة ومستهلكة. يتضح ذلك على أكثر مستوى، وفي أكثر من موقف.

فالمشهد الاستهلالي للفيلم، والذي يصور فتاة تتعرض للاغتصاب، ثم يقوم آخرون بالثأر لها من المعتدين، يعتمد على تيمة هندية، مصرية، قديمة، شاهدها المتفرجون عشرات المرات من قبل، ومن أبرزها في السينما المصرية فيلم “الثأر” الذى أخرجه محمد خان عام 1980، وقام ببطولته محمود ياسين ويسرا، و”الشيطان يعظ” الذي أخرجه أشرف فهمي عام 1981، و”أرزاق يا دنيا” الذى أخرجه نادر جلال عام 1982، والفيلمان من بطولة نور الشريف.

وتيمة “المومس الفاضلة” المأخوذة عن رائعة إلكسندر ديماس (الإبن) “غادة الكاميليا”، التي أدتها غادة عبد الرازق في دور “زوبة”، التي أتت إلى القسم لاستخراج ترخيص لممارسة البغاء، نجد لها أصداءً واسعة في العديد من الأفلام المصرية القديمة، ومن أبرزها فيلم “عهد الهوى” الذي أخرجه أحمد بدرخان عام 1955 وقام ببطولته فريد الأطرش ومريم فخر الدين، وكذلك فيلم “السكاكيني” الذي أخرجه حسام الدين مصطفى عام 1986 وقام ببطولته نور الشريف ومعالي زايد.

وشخصية “اللص الظريف” التي لعبها مصطفى خاطر ببراعة تجد أساسها في شخصية “أرسين لوبين اللص الظريف” التي ابتكرها الفرنسي موريس لوبلان وتحولت إلى أكثر من عمل سينمائي ناجح. كما تردنا إلى “روبين هود” الشخصية الفولكلورية الإنجليزية، التي كانت تمثل “اللص الشريف” الذي يسرق من الأغنياء ليعطي الفقراء.

وقد تكررت هذه الشخصية كثيراً في السينما العربية منها “اللص الشريف” الذي أخرجه حمادة عبد الوهاب عام 1953 وقام ببطولته اسماعيل يس وشادية، وفيلم “اللص الظريف” الذي أخرجه يوسف عيسى عام 1970 وقام ببطولته دريد لحام ونيللي.

لا يتوقف الأمر عند الشخصيات النمطية المتكررة، ولكن المشاهد أيضاً. فموقف الضابط محمود حجازي من الحصار الإنجليزي وإصراره على مخالفة الأوامر والوقوف بجانب الضابط الأعلى “يوسف المصري” حتى أنه يلقى حتفه أثناء المقاومة في مشهد تراجيدي مؤثر، يذكرنا بمشهد أحمد السعدني (الضابط رجائي حتاتة) في فيلم “يوم الكرامة” الذي اخرجه علي عبد الخالق عام 2004، عندما خالف أوامر رئيسه محمد رياض (عوني عازر) الضابط بسلاح البحرية، وظل باقياً معه على ظهر اللنش الذي مضى باتجاه المدمرة إيلات ليلقى الجميع حتفهم في عملية انتحارية استشهادية كبيرة.

ومشهد الضابط “حمزة الهواري” الذي يخالف الأوامر وينضم إلى جانب “يوسف المصري” ورفاقه في القسم ضد قوات الاحتلال يذكرنا بتيمة الأصدقاء المتخاصمين الذين يتناسون أسباب الخلاف، ويتحدون سوياً – في اللحظات الأخيرة – من أجل مواجهة عدو مشترك.

شاهدنا ذلك كثيراً عالمياً وعربياً، ويحضرني الآن مشهد رشدي أباظة “الريس مجاهد” في فيلم “صراع في النيل” الذي أخرجه عاطف سالم في عام 1959، عندما وقف بجوار عمر الشريف (محسب)، الذي سبق وأن ألقى به فى النهر، لمواجهة أفراد العصابة التي اقتحمت مركب “محسب” وحاولت سرقة الأموال التي كان يخفيها “محسب” لشراء صندل جديد لأعمال النقل النهري.

على مستوى اللغة البصرية أكثر ميمي من اللقطات القريبة close up في المشاهد التي يظهر فيها كرارة، خاصة التي تحمل روح التحدي مثلما وقف في منتصف القسم وهو يردد بثقة “محدش هيموت النهاردة”، في مقابل استخدامه للقطات الطويلة (العامة) long- shotsفى المشاهد التي تصور قوات الاحتلال. وذلك من اجل عملقة الضابط المصري من ناحية وتقزيم قوات الاحتلال من ناحية اخرى، كما أن تلك المقابلة بين اللقطات المكبرة والبانورامية من شأنها أن تؤجج الصراع بين الطرفين، وتشعر المشاهد بمدى خطورة الصدام القادم مع توالي الأحداث.

لم يكن ميمي معنياً بتصوير تفاصيل الحياة في حي كرموز، لأنه كان محدداً لهدفه منذ البداية، وهو إخراج فيلم حركة بمستوى يقترب من العالمية لتوصيل رسالة وطنية شعاراتية مباشرة، ولذلك لم يشعر المشاهد بأجواء هذا الحي، خاصة الذي لم يعش بالإسكندرية ولا تربطه صلة مباشرة بالمكان.

الفيلم برمته يمكنك أن تشتم فيه رائحة الفيلم الدعائي “بورسعيد” الذي قيل إنه تم إنتاجه بناءً على تكليف مباشر من الرئيس جمال عبد الناصر، وتم عرضه في 8 يوليو 1957، أي بعد جلاء العدوان الثلاثي على مصر بأقل من سبعة أشهر، وكان من إخراج عز الدين ذو الفقار وبطولة فريد شوقي وهدى سلطان ومجموعة كبيرة من ألمع النجوم.

والحقيقة أن ثمة فارقاً كبيراً بين الفيلمين، فخلافاً ، لفيلم “حرب كرموز”، جاء فيلم “بورسعيد” بمثابة رد الفعل الفني إزاء عدوان دولي غاشم ، ليرصد بذلك لحظة تاريخية فارقة في عمر الوطن، ويقدم صورة المعتدي عليه (مصر) عن معاني الحق والحرية والكرامة في مقابل صورة المعتدي الغازي (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل) .

فقد كتب السادات بخط يده في الكلمة التي ضمها الكتيب الخاص بالفيلم: “جاء هذا الفيلم محققاً لما قصد منتجوه إليه من وقوف العالم بأجمعه على ما ارتكبه أعداء مصر. لا ضد مصر وحدها، ولكن ضد العالم الحر وضد مبادئ العدالة والأصول الإنسانية. هذا هو فيلم “بورسعيد” الذي ستلمسون فيه الوطنية والإباء والتضحية والفداء”.

كتب فريد شوقي للرئيس جمال عبد الناصر رسالة حول الفيلم الذي أهداه نسخة منه قائلاً: “إن فيلم بورسعيد سيقول للعالم الحر المؤمن بحق الإنسان في أن يعيش في سلام، بأنه رغم ما ارتكبته قوات الاستعمار الغاشم في المدينة الباسلة بورسعيد، إلا أنها عاشت لتعلن للعالم أن الحرية ستنتصر في النهاية”.

إننا – بهذا المعنى – أمام فيلم يمكن إدراجه ضمن اتجاه “السينما ما بعد الاستعمارية”، التي تمثل الوجه البصري للدراسات ما بعد الكلونيالية. وهي الفرصة الذهبية التي أهدرها بيتر ميمي لدخول التاريخ من أوسع أبوابه إذا ما اعتمد على وقائع حقيقية وحاول تقديم رؤية جديدة للعلاقة بين المصريين والبريطانيين خلال فترة الاحتلال، أي بين المستعمرين (بفتح الميم)، والمستعمرين (بكسر الميم) بصفة عامة. وهو اتجاه برز في السينما الإفريقية، ودول المغرب العربي، غير أنه مازال أرضاً بكراً في السينما المصرية بالرغم من تاريخها الريادي الطويل في المنطقة.

Visited 133 times, 1 visit(s) today