“قتلة قمر الزهور”.. أو هكذا وُلدَت أمريكا الحديثة

هيثم مفيد

في المشهد الأخير من فيلم The Irishman (الأيرلندي)، يحاول القس تخليص فرانك شيران من آثامه، فيسأله عما إذا كان يشعر بالآسف على ماضيه الدموي- خاصة جريمة قتله الوحشية لصديقه المقرب جيمي هوفا- فيجيبه شيران “لا أشعر بذلك”، ثم يُعيد القس كرّته مجددًا أملاً في انتزاع اعتراف “ولكن لا مشاعر لديك على الإطلاق.. أي ندم؟”، فيرد القاتل العجوز بدم بارد “لا”.

تتشابك خيوط الحوار الذي صاغه مارتن سكورسيزي هنا مع مشهد آخر من فيلمه الأحدث Killers of the Flower Moon (قتلة قمر الزهور)، حيث تفشل المرأة الهندية “مولي كايل” هي الأخرى في انتزاع اعتراف صريح من زوجها “إرنست بوركهارت” بمحاولة تسميمها وقتلها للاستيلاء على ثروتها. إن ثقة مولي بإرنست، وخيانته اللاحقة لتلك الثقة، ما هي إلا صورة مصغرة لصراع أكبر تُحاك خلاله مؤامرة دنيئة بحق السكان الأصليين؛ ليقدم المخرج المخضرم ذو الثمانين عامًا، تشريحًا دقيقا لشخصيات معتلة اجتماعيًا، تتجاهل الأطر الأخلاقية للصواب والخطأ.

إن نشأة سكورسيزي القاسية في ضواحي نيويورك جعلته يُعايش العنف والقتل عند كل زاوية، حيث الأرصفة مبللة بالدماء تحت قدميه الصغيرتين، فليس من المستغرب أن اهتمامه يكمن في طبيعة الإنسان المظلمة. فغالبًا ما يضع سكورسيزي الجمهور من خلال وجهة نظر المجرمين، بدءًا من رجال العصابات في Goodfellas (رفاق صالحون)، وحتى المحتالين ذوي الياقات البيضاء في The Wolf of Wall Street (ذئب وول ستريت)، وصولاً إلى “Killers of the Flower Moon” حيث نختبر الجشع القاسي للرجل الأبيض وراء جرائم قتل السكان الأصليين (الأوساج) بغية الاستيلاء على أراضيهم الغنية بالنفط. فنشاهد صفقات خلف الكواليس مع قتلة مأجورين ومخططات احتيال في مجال التأمين تنبش في كيفية الاستفادة من وفاة هؤلاء الأبرياء. نرى استخفافًا تامًا بحياة الإنسان في السعي وراء المزيد والمزيد من المال غير المستحق.

من الكتاب للشاشة

بعد الانتشار الواسع الذي حققه كتاب ديفيد جران “قتلة قمر الزهور: جرائم قتل الأوساج وولادة مكتب التحقيقات الفيدرالي” في 2017، أبدى سكورسيزي رغبته في تحويل هذا الكتاب لعمل سينمائي؛ ولما لا؟.. فهوليوود لا تتمتع بسمعة طيبة فيما يتعلق بقصص السكان الأصليين – كحال العديد من الأقليات الذين تناولتهم على الشاشة – فغالبا ما تصورهم على أنهم مجموعة من الهمج والمتوحشين الذين يوجهون أقواسهم وسهامهم تجاه الرجل الأبيض البريء. فكانت تلك فرصة سانحة لتصحيح تلك الصورة واستكشاف جرائم القتل المنظمة لشعب “الأوساج” بداية من عام 1921 وحتى 1926، الفترة التي وصفها الكتاب والفيلم بـ “عهد الإرهاب”.

ينقسم كتاب جران إلى ثلاثة فصول. يغطي الفصل الأول بعنوان “المرأة المميزة” عهد الإرهاب، بالإضافة إلى تاريخ الانتقال القسري لقبيلة “الأوساج” إلى ولاية أوكلاهوما. أما الفصل الثاني “رجل الأدلة” فيركز على نشأة مكتب التحقيقات الفيدرالي ودوره في كشف ألغاز حالات القتل الغامضة للأوساج، فيما يتتبع الفصل الثالث “المُراسل” رحلات جران الشخصية إلى أوكلاهوما ومقابلة عائلات الأوساج والتي يكتشف خلالها أن هناك مئات من جرائم القتل التي لم يحقق فيها مكتب التحقيقات الفيدرالي، وبالتالي حُرم أصحابها من نيل العدالة.

قام سكورسيزي والكاتب المشارك إريك روث، بإدخال تعديلات في سيناريو الفيلم على الفصلين الأولين من الكتاب، حيث أعادا صياغة أو حذف عناصر معينة لتناسب المشروع بشكل أفضل. فبدلاً من التركيز بشكل أساسي على دور مكتب التحقيقات الفيدرالي في كشف جرائم قتل “الأوساج”، جعل سكورسيزي الخط الدرامي الخاص بزواج مولي كايل وإرنست بوركهارت (ذئب البراري) – كما أسمته – هو قلب الفيلم النابض الذي تحاك حوله خيوط الجرائم الوحشية.

فمن خلال هذه العلاقة نتورط داخل قصة الحب المربكة التي يتقاسمها الاثنان، والتي بدأت بفكرة داخل ذهن الخال ويليام وهيل – الملقب بـ “ملك تلال الأوساج” – عندما أغوى ابن أخيه الأبله إرنست، بالتودد للمرأة الهندية لاقتناص حصتها الوفيرة من عائدات النفط ليصبح بعدها أداة طيعة في يد هيل لتصفية عائلة مولي بأكملها بشكل منهجي، حتى نصل إلى العقبة الأهم وهي تآمر إرنست لقتل زوجته مولي. ليصبح السؤال الأساسي هنا “لماذا ظلت مولي مع إرنست؟”، هل كانت تعرف ما كان يفعله، وهل كانت تخدع نفسها بهذه الحقيقة؟ أم أنها اعتقدت أن حبهما يمكن أن يتغلب على جرائمه؟ هذه هي الأفكار التي لا يتعمق فيها كتاب جران، مما يترك الباب مفتوحًا على مصراعيه أمام سكورسيزي للتعمق أكثر في شخصية مولي، وإبراز القصة من منظور “الأوساج”.

إن إلغاء مركزية مكتب التحقيقات الفدرالي في الفيلم، يجعلنا لا نهتم بكشف هويات القتلة- على عكس الكتاب – فنراهم بوضوح على الشاشة منذ اللحظة الأولى لا يتورعون في اخفاء نواياهم. فملك التلال “هيل” يرى أن “الأوساج” مجرد عقبات في طريق الحصول على المال “انتهى وقتهم، ستكون مجرد مأساة أخرى”. هذه المعرفة عن شخصية “هيل” – التي صيغت بدهاء شديد – تدفعنا للشعور بالتقزز من أفعاله في العلن، فلا يوجد ما هو أكثر إيلامًا من حزنه على الضحايا ومواساة أقربائهم بقصائد رثاء زائفة، أو حضور اجتماعات “الأوساج” لتقديم المساعدة والتحقيق في جرائم القتل. لقد كان “هيل” وشبكة المتآمرين الضخمة مجرد ذئاب يرتدون ملابس الحملان.

عائد من الحرب

هناك خط مشترك يجمع أبطال سكورسيزي في عدد من أفلامه يتمثل في كونهم شخصيات عائدة من الحرب؛ فجندي المارينز ترافيس بيكل في فيلم Taxi Driver (سائق التاكسي) يصب غضبه وعنفه على نيويورك بعد عودته من حرب فيتنام، رغبة منه في تطهير تلك المدينة الآثمة التي تبجل المجرمين وتنبذ الأبطال أمثاله. كذلك الحال بالنسبة لشخصية فرانك شيران في فيلم “The Irishman” الذي ينضم لواحدة من عصابات المافيا عقب عودته من الحرب العالمية الثانية رغبة منه في تأمين مستقبل أسرته من خلال تحقيق الثراء السريع.

إرنست بوركهارت، في فيلم “Killers of The Flower Moon“، لا يختلف كثيرًا عن الشخصيات السابقة، فمنذ الوهلة الأولى للفيلم وخلال حواره مع الخال هيل نكتشف أنه عائد أيضًا من الحرب العالمية الأولى ولا يمتلك أي مهارة أو حرفة سوى القيادة، تمامًا كشخصيتي بيكل وشيران، وكأنها استعارة يكررها سكورسيزي عادة للدلالة على توق شخصياته للسيطرة على حيوات الأخرين والسير في الطريق الخاطئ.

توظيف سردية العودة من الحرب في أفلام سكورسيزي عادة ما يتم إغفالها بشكل واضح على السطح، ولكنها تلعب كخلفية أساسية أو محرك وراء اعتلال الشخصيات ودوافعها المختلة. فإرنست الذي يصفه الخال بـ”بطل الحرب” لم ترحب به المدينة وتغدق عليه من رغد العيش تكريمًا لبطولته في الحرب – وهو نفس الحال مع بيكل وشيران – وإنما أعادته للشارع مجددًا فأصبح لا يبرع سوى في ممارسة ما تعوَّد عليه طيلة سنوات الحرب الماضية من قتل وتفجير ودمار. نلحظ هذا الملمح أيضًا في فيلم “The Irishman“، حين يتم تكليف شيران بمهمة التخلص من احدى الشركات التي تنافس أخرى في السوق وتكبدها خسائر كبيرة. في هذا المشهد يتجلى السبب وراء اسناد هذه المهمة له وهو خبرته السابقة في الحرب ومعرفته الجيدة بأمور الحرائق والتفجير، فيخبره الرجل “أفعل بهذا المكان كما فعلت ببرلين، محروقًا مسوّى بالتراب”.

فإن كان الدافع وراء جرائم شيران هو المال، فإرنست هو الآخر محب له بشراهة، لذلك سرعان ما يجد نفسه متورطًا في جرائم السرقة وقتل الأبرياء وغض الطرف عن مؤامرة شديدة الدهاء. لذلك لا يتم تقديم إرنست على الشاشة كوحش عنيف، ولكنه أشبه بطفل أبله سيفعل كل ما يطلبه الخال هيل، حتى لو وصل الأمر لقتل أقرب الناس إليه، لأن هذه ببساطة هي حدود تفكيره. تمامًا مثل الجندي الذي ينفذ أوامر قادته في الميدان حتى لو كانت خاطئة.

تكريم ثقافة “الأوساج”

إن فيلم “Killers of The Flower Moon” يتمتع بأصالة شديدة في الحفاظ على هوية “الأوساج”؛ فهو لا يتوقف عند سرد وقائع الفصل الدموي في تاريخهم، وإنما يحتفي بثقافة هذه الشعوب الأصلية سواء على مستوى الأزياء والديكور أو حتى اختيار ممثلين ينتمون لهذه القبيلة (ليلي جلادستون في دور مولي بوركهارت). ولكن المثير للاهتمام توظيف سكورسيزي لرمزيات عدة تلعب بمثابة تقليد تتوارثه هذه القبائل طيلة قرون.

تتضح هذه الرمزيات بداية من عنوان الفيلم “قتلة قمر الزهور” حيث يشير كل من الكتاب والفيلم إلى أنه في “أبريل تنتشر ملايين الزهور الصغيرة فوق تلال البلاك جاك في إقليم أوساج في أوكلاهوما، ثم تبدأ النباتات الأطول تدريجيا في الظهور لتزحف على الأزهار الصغيرة، فتنكسر أعناقها وسرعان ما تُدفن تحت الأرض”. ولهذا السبب يشير الأوساج إلى شهر مايو على أنه وقت القمر الذي يقتل الزهور. وهي إشارة يوظفها النص السينمائي للدلالة على جرائم القتل التي مارسها المستعمرين البيض بحق السكان الأصليين.

ميزة أخرى ركز عليها نص سكورسيزي وروث، هي تقديس هذه القبائل للطبيعة الأم ولأي كائن كان يسير عليها. فبعد فترة وجيزة من لقائهما، تعطي مولي لإرنست – كما سبق وأشرنا – لقب “ذئب البراري” وتظل تكرره طوال الفيلم، ما يعطينا لمحة لفهم شخصيته المعقدة وديناميكية العلاقة بينهما. ففي الأساطير الأمريكية الأصلية، يحمل الذئب دلالات سلبية للشراهة والخداع والجشع، وبالتالي يمكن أن تنطبق هذه الصفات على إرنست الذي لا يخفي حبه للمال ويسلك كل السبل الماكرة من أجل الوصول لهدفه. ورغم أن مولي انتبهت لتلك الصفات منذ البداية تجاه إرنست، وهو ما يتضح خلال حوارها مع أخواتها بأنه يسعى وراء ثروتها، إلا أنها قررت الزواج منه لأنها شعرت بعلاقة حقيقية معه وأرادت التركيز على جوانبها الإيجابية، قبل أن تكتشف في نهاية الفيلم أساليبه الخادعة للتخلص منها ومن عائلتها.

وبالحديث عن دلالة الذئاب، فهناك إشارة أخرى تحملها ظهور “البومة” في عدد من مشاهد الفيلم؛ باعتبارها رمز مقدس لدى الأوساج للدلالة على الموت وانتقال أرواحهم إلى الحياة الأخرى. تتجلى هذه الإشارات في المشاهد التي ترى فيها الأم هذا الطائر وهي على فراش الموت، بعد فترة وجيزة من زواج مولي وإرنست، ما يعني أن دخول هذا الشخص لمنزلهم هو بمثابة نذير شؤوم للعائلة. لتعاود هذه الرمزية التكرار حين ترى مولي الطائر يحلق في غرفتها وهي تنازع الموت بعد أن عزم إرنست على تسميمها بالبطيء.

إن تكريم سكورسيزي لثقافة السكان الأصليين لم يقف عند مستوى الدلالات والرموز فقط، ولكننا نلمسه في شعور الآسف والحزن الذي يخيم عليه وهو يقرأ نعي مولي (بنفسه) في نهاية الفيلم، وكأنه إدانة بالفشل لعدم تسليط الضوء على هذه المؤامرة طيلة عقود طويلة. ورغم هذا الآسف ينتهي الفيلم بصورة مفعمة بالأمل لقبائل الأوساج في وقتنا الحالي وهم يرقصون في دائرة حول مجموعة من قارعي الطبول، كعلامة على استدامة هذه الثقافة التي قُطعت ومُزقت لأشلاء لكنها استطاعت النهوض من رماد ماضيها.

Visited 2 times, 1 visit(s) today