“قبل أن ننسى”: ثلاثة قلوب عند شجرة جافة

في ثالث تجاربه الروائية الطويلة يقدم لنا المخرج الإماراتي نواف الجناحي فيلم “قبل أن ننسى” بعد تجربتين سابقتين هما “الدائرة”-2009، و” ظل البحر”-2011، بالإضافة إلى عدد كبير من الأفلام القصيرة المهمة.

في فيلم “قبل أن ننسى” الذي تم تصويره في العاصمة الإماراتية أبو ظبي بإنتاج سعودي إماراتي، يحاول الجناحي تقديم تجربة مختلفة عما قدمه سابقاً من حيث البناء السردي والتوظيف الجمالي والدلالي لعناصر التشكيل البصري.

يراهن الجناحي في فيلمه على وصف المشاعر الإنسانية بصرياً، ورصد الفراغ الذي يحاصر الأرواح، بلغة سينمائية مجردة مترفعة عن اشتهاء المبهر، تكتفى بما يبقى في الذاكرة، ويمتد الشريط البصري على امتداد الصحراء القاحلة، يصف حاله التصحر والبعاد التي غزت النفوس، وجعلت منها وديانا جافة يبس خضارها.

يقترب الفيلم من أزمات شخصياته الإنسانية التائهة في هموم الحياة، ويحكي من خلال إيقاع وئيد، عن اغتراب المشاعر، وعن تلك الجذور المتغلغلة في القلب التي نسيناها بعيداً، قبل أن نرجع ونرويها بما تبقى لدينا من حنين.

نواف الجناحي

يقتصد السيناريو- الذي كتبه البريطاني رون طوميسون- في كل شيء فنحن لسنا أمام فكرة تتطور ولا خيوط سرد تمتد وتتقاطع، ولا اشتباكا تتنامى معه الأحداث، وربما كان هذا مقصودا للولوج إلى العوالم الداخلية لتلك الشخصيات المتقاربة وسط قالب مجرد من تعقيدات السرد وألاعيبه.

 تدور قصة الفيلم حول ثلاث شخصيات، من أجيال مختلفة، الجد والإبن والحفيد، يذهبون في رحلة شاقة ومضنية للبحث عن سر دفين في مزرعة الجد المهجورة. فكيف تسير الأمور؟

يقوم الفنان المخضرم “إبراهيم الحساوي” بدور الجد إسماعيل، وهو الشخصية الأكثر ثراءً في العمل، رجل من بقايا الأزمنة الجميلة البكر التي لم تتلوث، مع امتداد الزمن ظهرت عليه عجائب الكبر من نوبات النسيان والعند الطفولي الدائم، لكنه مازال يتذكر زوجته فاطمة، ويرعى شجرة الليمون التي تذكره بها.

يقول عنها “كانت فاطمة تزرع الشجر المثمر على الطريق سبيلاً للعابرين”، بالكاد يتذكر حفيده عمر “غازي حمد”، ولا يري العالم إلا من خلال ابنه محمد، أخصائي العلاج الطبيعي الذي يتولى رعايته مع خادمة آسيوية لم تقبض راتبها منذ شهور، يسأل دائما عن كلاب المزرعة المهجورة ومن يطعمهم، يجيبه ابنه للمرة الألف، أنهم ماتوا جميعاً منذ سنوات بعيدة.

ينجح الحساوي بأداء رصين وواعٍ، في تصدير الملامح النفسية لهذه الشخصية التي تقف على أعتاب الموت، تحاول التشبث بأي ذكرى لكنها لا ترى من العالم إلا وجوه الراحلين. يضحكنا أحيانا، ويجعل الدموع تتجمع في عيوننا أحيانا أخرى.

يقوم مشعل المطيري بدور الابن “محمد إسماعيل”، تلك الشخصية المحورية في الفيلم، الذي يعاني من أزمة مالية طاحنة جراء تجديد مشفاه الطبي وعدم قدرته على الوفاء بدينه لصديقه المقاول الذي يطارده ويهدده بالسجن. لكن ليست هذه الأزمة الوحيدة، فالمرأة التي يريد الارتباط بها تتخلى عنه، وابنه الوحيد عمر يطالبه بمبلغ مالي كبير ليبدأ مشروعه التجاري ولا يستطيع أن يخيب رجاءه.

بين نزق الأب المرضي، وجفاء عمر الذى عاش بعيداً مع أمه المطلقة، يكابد محمد لإرضاء الجميع، يحاول الخروج من الأزمة بإقناع والده المريض ببيع بيته الكبير لكنه يرفض رفضاً قاطعاً ويخبر ابنه محمد عن سر النقود المدفونة في المزرعة عند شجرة الغاف، ولكن كيف يعول محمد على كلام رجل أكل الزمن ذاكرته.

في النهاية يجد نفسه يسير وراء هذا الأمل الذي سينقذه من السجن وتبدأ رحلة الأب والجد والحفيد نحو المجهول. وفي هذه الرحلة الممتدة يجتمع ثلاثة رجال من دم واحد في سيارة تقطع الصحاري الطويلة، يأخذنا الجناحي في رحلة بصرية تتحول فيها الصحراء مع نسق سردي وبعد فلسفي، باستخدام لقطات تسجيلية لمعالم الطريق الطويل الذى تحول بدوره إلى ملخص لخط الحياة بكل ما فيها من معاناة، هذا الاجتماع للشخصيات الثلاث هو إعادة قراءة ذكية لمراحل الانسان العمرية في رحلة الشقاء الدنيوية المليئة بالعبث.

 في مشهد بديع يركض الجد بشكل جنوني، يلحق به الحفيد والابن لاهثين. وعندما يسقط ويسألونه عن السبب لا يعرف ما الذي جعله يركض بهذا الشكل. الجد يبحث عن رائحة الراحلين، يحكي عن زوجته ندية القلب في مشهد يفيض بالشاعرية، وابنه وحفيده مشغولان بالنقود التي ترقد تحت الرمال، لكن عندما يتبدد الأمل ولا يعثران على شيء يعترف محمد لأبيه بأنه قامر بأمواله في الأسهم وخسرها.

هنا تظهر عظمة الأبوة في الاحتواء، تلك العاطفة التي تبقى رغم غفوة العقل، فالأب هو السند الذى لا يمكن تعويضه مهما كان ضعيفاَ، يدخر الجد معلومة أن الشجرة التي خبأ تحتها النقود هي شجرة “غاف” مقطوعة ‘ إذاً محمد وعمر كانا يبحثان تحت شجرة غاف مثمرة، والنقود مدفونة تحت هذا الجذر المبتور، يتجدد الأمل ويتجدد الحفر ولكن بعد أن يعثروا على النقود يفاجئهم فهد المقاول المجرم، وفى مشهد ركيك يأخذ منهم النقود بمنتهى البساطة بعد تهديدهم بمسدس مزيف ويهرب ساخراً منهم .

في مشهد سابق أكثر ضعفاً كان فهد قد ضبطهم وهم يستخرجون حقيبة مدفونة بها كرات زجاجية (بلي أطفال)، ولا نجد تفسيراً مقنعاً لدفنها هناك إلا لخلق حدث (مفبرك) تورط فيه السيناريو ليمهد لتلك المصارحة بين عمر وأبيه.

بعد ضياع النقود، تترقرق المشاعر وتلتقي الخواطر التي صقلتها الرحلة العجيبة، ويبدأ السيناريو في حصد ما زرعه، الجد يغرس شجرة على الطريق لزوجته الحبيبة.. عمر يتخلى عن مطلبه الأناني، ومحمد حلقة الوصل بين الجيلين، يغمرهما بمحبة كان يحتاجها هو أكثر منهما. 

يدخر السيناريو النهاية السعيدة في المشهد الأخير الذي يدور على طاولة الطعام، وهنا يكتشف عمر أن جده قد خبأ الكثير من المال في حافظة أدويته دون علمهم.

ينجح هذا النص البصري في الوصول لغاياته التي تمناها بفريق عمل متناغم بقيادة نواف الجناحي. من بين هذا الفريق مدير التصوير المصري طارق حفني الذي سبق وقدم أعمالا هامه مثل “فرش وغطا”، “ميكروفون”، “القط” و”18 يوم”، والمونتير على سلوم، ومصمم المناظر مارتن سوليفان، وموسيقى طه العجمي، ونغمات البيانو التي جاءت من تجاويف القلب وكان لها تأثير درامي ساحر، بالإضافة إلى الانسجام الأدائي بين مشعل المطيري وإبراهيم الحساوي في ثاني لقاء يجمعهما بعد الفيلم القصير “فضيلة أن تكون لا أحد”، الذي فاز بعدة جوائز عربية هامة.

Visited 13 times, 1 visit(s) today