في مهرجان القاهرة السينمائي: “دخل الربيع يضحك”

لم أنزعج قط، كما حدث للبعض، من فيلم “دخل الربيع يضحك” الفيلم المصري المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الـ45، وأول الأفلام الروائية الطويلة لمخرجته الشابة نهى عادل.

نهى عادل تريد أن تتبنى أسلوبا سينمائيا مغايرا، لا يسير طبقا للسرد التقليدي الخطي، أو حتى المتعرج، لرواية قصة، بل تريد أن تجرب أسلوبا آخر، يقوم على الرصد شبه التسجيلي للمفارقات التي تولدها المواقف التي تضع فيها شخصيات فيلمها الكثيرة جدا. وهي تتبنى أسلوبا يذكرنا على نحو ما، بالأسلوب السينمائي للمخرج الفرنسي- التونسي الأصل عبد اللطيف كشيش في أفلامه الأولى على الأقل، مثل “كسكسي بالسمك” وهو الفيلم الذي كان بداية شهرته الواسعة في أوساط السينما الفرنسية.

تتلخص معالم هذا الأسلوب أولا، في استخدام الكاميرا التي تحصر الشخصيات طوال الوقت، في لقطات قريبة (كلوز أب)، باستثناء قلة نادرة من اللقطات، تكشف فيها عن بعض ملامح المكان، وخصوصا عندما تخرج إلى الشارع في مرة وحيدة، خارج المكان المغلق، الذي يدور فيه الجزء الثالث من الفيلم، في حين تقع سائر أجزاء الفيلم داخل أماكن مغلقة حيث تدور محادثات ومشاجرات في الأجزاء الأربعة التي يتكون منها الفيلم، ولا أقول “القصص” الأربع، لأن هذه الأجزاء لا تروي قصصا، بقدر ما تصور مواقف، وتعكس مشاعر، وتراقب الانفعالات في تطورها، والعلاقات في تدهورها، بين شريحة محددة لنساء الطبقة الوسطى الثرية.

ما يجمع بين الأجزاء الأربعة للفيلم أنها تتعامل مع شريحة معينة من نساء هذه الطبقة التي يخلط أفرادها في أحاديثهم، أطفالا وكبارا، بين اللغة العربية والإنجليزية، ويتظاهرون في علاقاتهم مع بعضهم البعض، بالثقة والثبات، ويتفاخرون بما حققوه وحصلوا عليه من مكاسب ومقتنيات مادية، بعيدة كل البعد عن الثقافة والفنون، ولكن تأتي لحظة ما تنكشف فيها تلك القشرة الزائفة المصطنعة التي تجمع بين هذه الشخصيات، وينشب الشجار نتيجة سوء فهم، أو سوء تقدير، وسوء نوايا كامنة في النفوس، بحيث يتضح لنا أن الصداقة المفترضة التي تجمع بين النساء، هي صداقة هشة، أو مصطنعة، لا تقوم على أي أساس حقيقي.

إنها علاقات نفاق وادعاء وتظاهر مع وجود الريبة وسوء الظن والطوية، والأنانية المفرطة، والميل إلى التدمير، تدمير الذات، وقصف الآخرين.

العنصر الثاني الذي يميز الأسلوب، هو استخدام الممثلين غير المحترفين، وإدارتهم مع إتاحة هامش كبير للارتجال والتعبير التلقائي والاندماج في الموقف، الأمر الذي يجعل الحوارات كثيرا ما تصل إلى درجة من الحدة، والاشتباك الذي قد ينتج عنه صراخ وضجيج وشتائم.. وكلها تعبر عن تلك الشخصيات النسائية التي تبدو من السطح كما لو كانت تتمتع بقدر من التهذيب والرقي الذي يتسق مع وضعها الاجتماعي، إلا أنها تكشف عن سلوك هابط، وغياب للقيم الإنسانية.

واقعية الشخصيات والحوار، تضفي مصداقية على المواقف التي نراها في الفيلم والتي تقسمها المخرجة على أشهر الربيع الأربعة (حسب فهمها للربيع بالطبع!) في ترتيب تنازلي يبدأ من شهر يونية، ويصل إلى شهر إلى مارس، مقتبسة من رباعية صلاح جاهين “دخل الربيع يضحك لقاني حزين”. هو تعبير تقوله احدى السيدات ويعكس شعورا بالشجن والنوستالجيا، لكنه يعبر أيضا عن المسار الذي يهبط من التفاؤل إلى الحزن، ومن التألق إلى الكآبة.

في القصة الأولى من الفيلم، أو الموقف الأول، الذي يعتبر مدخلنا الى الفيلم وهو مدخل مفاجيء، رجل عجوز وحيد ماتت زوجته من فترة، يقوم مع ابنه الشاب بزيارة جارتهما الأرملة وابنتها المطلقة الشابة، لإعادة قطتهما التي كانت قد فقدت طريقها في الخارج. ومن الحديث عن القطة، إلى الحديث عن الشعر والغناء الرومانسي، من عبد الحليم حافظ وليلى مراد وأم كلثوم، إلى أن يكشف الابن عن الهدف الحقيقي من الزيارة، أي رغبة الأب في طلب الزواج من الجارة الطيبة القلب. إلا أن رد فعل ابنتها يأتي حادا وعدائيا وفاضحا لأشياء كثيرة في الخلفية الشخصية للابن الشاب، فهي لا تتصور أن تتزوج أمها ولم يمض عامان فقط على وفاة الأب- الزوج، ليتصاعد القصف المتبادل وينتهي المشهد بمغادرة الرجل وابنه!

وفي الموقف الثاني أثناء الاحتفال بعيد ميلاد سيدة من سيدات المجتمع الراقي، في مطعم فندق من الفنادق الراقية، تجلس مجموعة من صديقات السيدة المحتفلة، ومن عبارات الود والادعاء والتظاهر واستعراض الثراء ينفجر الموقف، حينما تتصور صاحبة الاحتفال أن احدى صديقاتها تغمز عمدا ضدها بالحديث عن خيانة زوجها لها وزواجه من فتاة سورية.

ويدور الموقف الثالث داخل صالون تجميل صاحبته امرأة مترهلة محجبة متقدمة في العمر لا تتناسب شخصيتها الطيبة المستكينة قط مع طبيعة عملها، ومن الأحاديث الهادئة يتطور الأمر الى الشجار العنيف بين إحداهن وباقي النساء بعد أن تفقد إحدى فردتي القرط، فتتصور أن سيدة من الحاضرات سرقته.

وفي الموقف الرابع نرى سيدة تقيم حفلا لتزويج ابنتها، لينقلب الموقف الموقف من معالم الفرح الى مشاجرات تنتج عنها الدموع والاخزان..

وينتهي الفيلم في الموقف الأخير، بنوع من التفاؤل والأمل، أي بإمكانية التغلب على سوء الظن والتفاهم، عندما يشير الفيلم إلى انتصار الحب بين جيل الماضي الرومانسي على إحباطات جيل التدهور الحالي.

الفيلم شديد الواقعية، سواء في اختيار الشخصيات، أو الحوار، أو الأسلوب الذي ترصد فيه الكاميرا تعبيرات ومشاعر الشخصيات كما تنعكس على الوجوه في اللقطات القريبة، وهو أسلوب شديد الصعوبة أيضا، خصوصا في مرحلة المونتاج، حينما يصبح مطلوبا تحقيق السلاسة في الانتقال من لقطة لأخرى داخل المشهد نفسه، مع صعوبة تصوير الشخصيات المتعددة الكثيرة داخل اللقطة الواحدة أو الانتقال فيما بينها في اللحظة المناسبة لرصد انفعالاتها في سياق المشهد وتطوره، مع تداخل عبارات الحوار بحيث يصعب أحيانا تبين ما تنطق به الشخصيات، ولكن هذا ما يحدث عادة في الواقع.

تجربة سينمائية ذات نفس جديد في السينما المصرية، تستحق أن نرحب بها وندعمها ونقف وراء مخرجة هذا الفيلم في طموحها للتجديد واختبار أسلوب جديد في السرد، وسوف ننتظر في تشوق، لكي نرى فيلمها التالي.

Visited 74 times, 1 visit(s) today