فيلم “خارج الخدمة”.. رحلة عبثية الى الغيبوبة!

تعودنا الى حد كبير على تناقضات السينما المصرية، التى تجعلنا نضع قدما فى خانة التفاؤل والإعجاب، وقدما أخرى فى خانة الإحباط والحزن. ليس أدل على هذه المعادلة العجيبة من فيلم “خارج الخدمة” الذى كتبه عمر سامى، وأخرجه محمود كامل.

فى خانة التفاؤل لدينا تجربة مختلفة تماما عن السائد والمألوف، ولدينا عناصر مميزة للغاية كالتصوير والموسيقى وأداء أحمد الفيشاوى كممثل موهوب، بل إن الفيلم عموما هو أفضل أعمال مخرجه محمود كامل حتى الآن، ويتفوق بمراحل عن تجاربه السابقة.

ولكن “خارج الخدمة” يحبطنا بشدة بسبب مشكلات السيناريو المزعجة  التى جعلت من الفيلم مجرد رحلة عبثية الى غيبوبة المخدرات، ذلك أننا نشاهد بطلين لا نعرف شيئا عنهما تقريبا، أصبحنا نتأمل فعل الغيبوبة المتوالى دون أن نفهم الطريق إليها، شاهدنا السلوك ولم نستوعب الدافع إليه، اللهم إلا إذا كنا أمام ترجمة عملية لمذهب “الحشيش للحشيش” أو “المخدر للمخدر”!

تشعر بالغيظ حقا لأن بطلا الفيلم يبدوان مهمومان، على وجوهما معالم مأساة حقيقية، يكفى فقط أن يتكلما، ولكنك بالكاد تعرف اسميهما، تصبح الحالة الهروبية التى قدمها الفيلم بامتياز أقرب الى العبث أو الغرابة دون أى معنى، مع أن ذلك ليس مقصودا، بدليل تلك الإشارات الواضحة عن ثورة فى الخلفية، لايعبأ بها البطلان.

العلاقة بين البطلين أصلا تقفز بسرعة دون أن يجد المؤلف نفسه مكلفا بتفسير أى شىء، نتيجة ذلك تفرجنا على أزمة من الخارج، دون أن نكتشف داخل الشخصيات الممزق، الفيلم بالتأكيد يصف حالة، ولكن هذا الوصف سيفتقد المعنى تماما لو تجاهل رسم ملامح شخصيتيه كما شاهدنا، سيتحول الأمر الى فاترينة عجيبة يتعاطى اثنان خلف زجاجها المخدرات بلا توقف، يدور الفيلم ويلف، ويكرر ويزيد دون أن يفلح فى أن ينتقل من خانة الفعل الى خانة ما وراء الفعل، أو من مستوى الحركة الشكلية، الى التاثير الدرامى الفعلى الأعمق والأهم، أصبحنا أقرب الى تسجيل لطقوس للغيبوبة دون تحليل أو فهم لأسبابها من خلال رجل وامرأة يتصدران الشاشة طوال الوقت.

غيبوبة أم ثرثرة؟

فى فيلم “ثرثرة على النيل” المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ، وفى فيلم “المساطيل” الذى كتبه وحيد حامد، تتحدث الشخصيات، تثرثر عن همومها، فتكشف أزمتها، وتجعل من الغيبوبة هروبا له أسبابه العامة والخاصة.

أما “خارج الخدمة” فهى يكتفى فقط بعلاقة تفتقد الإقناع بين شاب مهمش لا نعرف عنه شيئا تقريبا سوى اسمه ، سعيد ( أحمد الفيشاوى)، وامرأة وحيدة نعرف عنها معلومات شحيحة للغاية اسمها هدى (شيرين رضا)، لا هو سعيد ولا هى قريبة من الحكمة والهدى، والتقاء سعيد وهدى يتم أصلا عن طريق حادث غريب للغاية: سعيد تحت تأثيرالمخدر طوال اليوم تقريبا، يتم طرد أحد سكان العمارة، يقتحم سعيد الشقة، يسرق بعض التماثيل الصغيرة التى تركها الساكن، يعثر بالصدفة على فلاشة (شريحة إليكترونية تضم مواد مصورة).

عندما يقوم بتشغيل الشريحة ، تظهر عليها لقطات لهدى وهى تخنق طفلة ثم تهرب، البناء بأكمله قائم على تهديد سعيد لهدى لكى يحصل منها على أموال ، يسدد من خلالها ما عليه من ديون، نظير الحشيش الذى حصل عليه سعيد من الشاب الشرس ممدوح (محمد فاروق)، ابتزاز لامرأة ارتكبت جريمة قتل مصورة على شريحة إليكترونية.

معظم مشاهد الفيلم داخل شقة هدى، يدهشك أنهم تعرفوا علي  المرأة بسرعة من مشاهدة اللقطات المصورة، لايكلف السيناريو جهده لمجرد البحث عن صاحبة اللقطات ولو فى مشهد أو مشهدين، المهم فقط هو أن يذهب سعيد الى هدى، فما الذى سيحدث عندما يلتقيان؟

الحقيقة أنه لن يحدث الكثير، فبدلا من قيام سعيد بتعاطى المخدر بمفرده سيتعاطاه مع هدى، وبدلا من أن يكون سلوك هدى الأول هو الخوف والرفض لزائر أشعث أغبر الهيئة والثياب، فإنها ستسمح له بالدخول، وستصنع له الشاى، وسيصطنع الفيلم دوما مشاجرات بينهما تنتهى باغتصاب سعيد لهدى فى كل مرة !!

كلمات متقاطعة

عليك طوال الفيلم أن تخمن كل شىء على طريقة مسابقات الكلمات المتقاطعة، تقريبا لايجيب الفيلم عن أى سؤال، كل ما ستقوله هدى (التى تكرمت مشكورة بذكر اسمها) هو أنها تعيش فى الشقة وحيدة منذ وفاة زوجها إثر حادث سيارة وقع من 18 سنة، يعتبر السيناريو هذا الأمر كافيا لكى تستقبل امرأة شابا مخدورا، وأن تستسلم لاغتصابه، بل وأن تشاركه تجربة أنواع أخرى من المخدر.

بينما يبدو سعيد ابنا للشارع، وربما ينتمى الى طبقة إجتماعية فقيرة، فإن هدى ترتدى الروب المنزلى، وتبدو أكبر سنا، اثنان من عالمين مختلفين، ولكننا لانعرف بالضبط طبيعة العالمين،  يفترض السيناريو أن تقوم أنت باقتراح المعلومات، وسد الخانات.

المخرج محمود كامل

تلزم عن هذه الثغرات نتيجة خطيرة ومزعجة هو افتقاد صدقية ما تراه، لديك شخصيات ضائعة لاتعرفها على الإطلاق، تماما مثل أولئك الهائمين فى الشوارع تحت تأثير المخدر، أو نتيجة لأمراض عقلية مجهولة.

تحوّل الفيلم الى فرجة من الخارج على شخوص تتعاطى المخدر، دون أن يجيب عن السؤال المفصلى وهو : ما الذى جمع بين هذين العالمين الغامضين؟ بل ما هى أصلا أزمة البطلين اللهم إلا إذا كانا من عشاق الكيف والسلام.

افتقد السيناريو العمود الفقرى للسرد، فصار يلف فى دائرة عبثية تماما، كل ما يفعله سعيد (بالإضافة الى الإغتصاب وتعاطى الحشيش وأنواع أخرى مع هدى) هو سرقة تماثيل من شقة هدى لبيعها وتسديد ديونه لمروجى المخدر، وأحيانا يشترى لهدى ما يلزمها من الكيوف، وفى بعض الحالات، يتخيل تحت تأثير المخدر أن هدى تنتقم منه، أو أنها دفنت الطفلة (التى نسيناها ) أسفل بلاط الشقة.

فن اللامبالاة

قال الفيلم كلمته بسرعة فلم يجد ما يضيفه، فطفق يكرر ويكرر:؛ هناك من يحترفون الغيبوية، بشر مرفوعون من الخدمة، مثل مصعد البناية المعطل، مقدمات الثورة على حكم الإخوان فى 30 يونيو لا تعنيهم، وماذا بعد ؟ هناك حكاية اللقطات التى تجعل من هدى قاتلة لطفلة، هنا يجد السيناريو نفسه متورطا فى ضرورة الإجابة لحل اللغز.

تأتى الإجابة لتضيف سخفا على سخف، اللقطات ليست إلا مشاهد تمثيلية شاركت فيها هدى، والطفلة ما زالت على قيد الحياة، لماذا إذن لم تطرد سعيد عندما ابتزها؟ لماذا سمحت له أن ينتهك جسدها؟ هنا يسكت الكلام، ينتهى الفيلم مع كوب شاى إضافى بين اثنين مخدورين لا نعرف عنهما شيئا !

لا محل للقول بأن السيناريو ترك الإجابات متعمدا، ليترك هامشا لمشاركة المشاهد، فقد اضطر الفيلم كما رأينا أن يبنى موضوعه على علاقة السبب والمسبب فى شأن الحساب بين المتعاطى ومروج المخدرات ممدوح (محمد فاروق ممثل جيد جدا وفى دوره تماما) ، ونتيجة لذلك حدث ابتزاز المرأة، كما اضطر الفيلم أن يبحث عن تفسير للقطات هدى، ليس منهج الفيلم التجريب ولا التجريد، بل إنه يقدم تفاصيل التفاصيل الواقعية عن جلسات الحشيش مثلا، بل إن افضل ما فى  العمل كله هو تلك الحوارات الحية التى تأخذ إيقاع ومفردات الواقع، هذا فيلم تكاد تلمس فيه الأماكن والأجواء ، هناك محيط واقعى صرف كان يتطلب تفسيرات تمنح العلاقات وبطلى الفيلم المعنى والصدقية، وتجعل المتفرج يدخل عقول الشخصيات، وليس بيوتها فقط.

اكتفى الفيلم بوصف حالة يستوعبها فيلم قصير، أما أن تصنع فيلما طويلا يدور فى الفراغ، وتهدر نماذج إنسانية ثرية، فهو أمر عجيب، ويدعو للحيرة والحزن، خصوصا مع وجود إتقان لافت وغير معهود فى التنفيذ، وفى عناصر فنية كثيرة مثل صورة أروتور سميث الضبابية الباهتة التى جعلت الشخصيات أقرب الى الاشباح الخاوية، ومثل موسيقى تامر كروان التى ملأت  ثغرات مشاهد بأكملها، فحولتها الى مشاعر وأحاسيس، طالما أن السيناريو عاجز عن التفسير، ومثل مونتاج هبة عثمان الذى أشبع مشاهد كثيرة محافظا على عفويتها وتأثيرها، ومثل شريط الصوت القوى والذى منح العمل حياة إضافية، ومثل الملابس التى بدا كما لو أنها جزءا من الشخصيات وفوضى حياتها، ومثل براعة المخرج محمود كامل فى استغلال زوايا المكان المحدود فى الشقة، وفى إدارة ممثليه رغم غرابة وغموض دوافعهم.

هناك لمسة عفوية مدهشة ونادرة فى أداء الممثلين عموما، بل إن هناك لمسات كوميدية خففت كثيرا من فجاجة شخصية سعيد، لاشك أنه أفضل أدوار أحمد الفيشاوى حتى الآن، سيحصل بالتأكيد على جوائز مستحقة، لم يفلت منه التعبير ولا الأداء مرة واحدة: العين التائهة والعبارات المتثائبة ورد الفعل البطىء، كلها أدوات جعلها هذ الممثل الموهوب تنبع من الشخصية، وليست مجرد حليات إضافية كما يفعل عادة بعض ممثلى أدوار المخدورين، شيرين رضا كانت تائهة، مرة تبدو مضطربة نفسيا، ومرة تريد أن تكون مسطولة، أحيانا تبدو مثل بنت بلد، ومرات تظهر كامرأة من طبقة أعلى، أعتقد أن غموض الشخصية على الورق أثر كثيرا على أدائها، وأعطاها هذا الإرتباك الملحوظ.

“خارج الخدمة” كان يمكن أن يكون عملا استثنائيا لولا أنه افتقد تلك الحلقة الذهبية التى تجعل الأفلام تؤثر فى مشاهديها، وتعيش أطول فى الذاكرة، أعنى بذلك أن تعرف الشخصيات التى تتصرف أمامك، تفهم تجربتها ومأساتها، تراها من الداخل وليس من الخارج فقط، وليس فى فيلمنا مع الأسف سوى هذه الحركة العبثية المتتالية وسط دخان أزرق، لذلك نندهش ولا ننفعل، لأننا ببساطة لا نعرف حكاية هؤلاء الناس، ولا دوافع تصرفاتهم العجيبة.

Visited 104 times, 1 visit(s) today