فيلم “الصيد” وإطلاق الرصاص على الرأسماليَّة الأمريكيَّة

خلطة عجيبة ومميزة تلك التي ستشاهدها في فيلم “الصيد” The Hunt ستتأرجح فيها بين الغموض والإثارة والكوميديا والمعاني العميقة والمظاهر السطحيَّة.. كل هذه الأمور يقدِّمها لنا الفيلم ذو المظهر السطحيّ، والذي قد يتجنَّبه مُحبُّو الأفلام العميقة- بسبب مظهره السطحيّ هذا- لكنَّه في الحقيقة فيلم يشبه أصداف البحر؛ تراها فإذا هي مجرد صدفة، تدهسها بقدميْكَ وتبتعد، لتكتشف أنَّك قد تركت تحت مَوطئ قدمَيْك لؤلؤةً كانت داخل تلك الصدفة.

مثل هذه الأفلام لا يتمُّ إنتاجه بكثرة لا لأسباب جماهيريَّة، بل لأنَّها أفلام تقتضي ذكاءً حادًّا في الصناعة، ذكاءً هو الذي يصنع منها فيلمًا يشاهده الجمهور الغفير، ذكاءً هو الذي يضع فيها تلك الإشارات التي تلتقطها الأذهان لتربط فيما بينها وتعيد ما تركه الكاتب وراءه. وبالعموم فيلمنا العنصران المُميزان فيه هما الكتابة والتمثيل، ولا امتياز في أيّ شيء غيرهما.

فيلم ” The Hunt ” أو “الصَّيْد” أو القنص من إنتاج 2020. من تأليف نيك كيوز وديمون لينديلوف، وإخراج كريج زوبيل (أحد مُخرجي المسلسل الشهير “العالَم الغربيّ”). ومن بطولة بيتي جيلبن، وهيلاري سوينك، وآخرين. الفيلم يدخل تحت تصنيفات كثيرة بل إنّ قضيَّة تصنيفه إحدى أهم نقاط الحديث فيه؛ لكنَّ التصنيف العموميّ غموض، إثارة، كوميديا.

يبدأ الفيلم بوجوه كثيرة يعلوها الذهول تستيقظ وهي لا تدري أين هي؟ ولا متى الوقت؟ ولا ما هذا المكان؟ ولا كيف جاءت إلى هنا؟ يرون أرضًا تعلوها النجيل الأخضر وتحوطها الأشجار العالية، وبها بركة مياه كبيرة كل ما فيها من الممكن تخيله في فيلم رومانسيّ. لكنَّ أصدقاءنا -بدقَّة اثنا عشر شخصًا- سرعان ما يجدون أنفسهم -أثناء محاولة استكشاف المكان- أمام صندوق ضخم جدًّا في منتصف المساحة الخضراء الشاسعة. يبادر أحدهم بفتحه بينما الآخرون يجرون خوفًا من أن يكون فخًّا. ويُفاجأ الجميع بخروج خنزير من الصندوق! ويجلبون من الصندوق أيضًا منصة متحركة عليها أسلحة من جميع الأنواع. وفجأةً يجدون أن الرصاص ينهال عليهم من كل مكان، ويبدأ الموت يحصدهم واحدًا تلو الآخر.

يهرب ثلاثة منهم ويتسلقون السور الشائك إلى أحد محال البقالة المُلحق بمحطة تزويد للوقود. وهناك يجدون عجوزَيْنِ رجلاً وامرأته. يدخلون ويطلبون منهما التعرُّف على المكان الذي هم فيه، في ظلّ خوف العجوزين وذعرهما من الأسلحة التي يحملها الثلاثة معهم. وفي أثناء حوار يدور بين أحدهم وبين العجوزين نجد واحدة من الثلاثة تختنق إثر أكلها أحد المنتجات المتاحة أمامها. وعندما يسارع زميلاها بالمساعدة يكتشف الجميع أنَّ الزوجَيْنِ البريئَيْنِ الخائفَيْنِ قد أمسكا بالسلاح وفتحا غازًا سامًّا على الموجودين. ويُقتل الثلاثة ليبقى من كل الموجودين -منذ البداية- اثنان فقط؛ رجل عجوز وشابة. فكيف سينجوان من كل الأفخاخ التي دُبِّرتْ لهما من قبل؟

وعلى صعيد آخر نكتشف أنَّ مجموعة من ذوي النفوذ وبالغي الثراء في “الولايات المتحدة الأمريكيَّة” هم الذين دبَّروا هذه اللعبة؛ أيْ لعبة الصيد أو القنص لهؤلاء الأبرياء الذين اقتادوهم إلى هذا المكان البعيد من أوربا الشرقيَّة ليتمتعوا بقتلهم. وفي مشهد البقالة وصف أحدُ العجوزين مجموعتَه لأحد المُحتضرين أنَّهم من النخبة المُلحدة. كانت هذه المجموعة الثرية قد سُرِّبت لها محادثات قبل عام فيها تدبيرهم لهذه اللعبة؛ فهاج الرأي العامّ الأمريكيّ مما اضطرهم جميعًا إلى الاستقالة أو الإقالة من مناصبهم. فاختاروا أكبر المُشهِّرين بهم على مواقع التواصل الاجتماعيّ ليكونوا هم الطرف الآخر في لعبة الصيد.

عملية اختطاف

الفيلم ليس الأول في هذا الإطار الذي يقدم قصة مجموعة من الأغنياء بالغي الثراء الذين يقتلون أو يعذبون مجموعة من الفقراء بعد اختطافهم؛ فهناك الكثير من الأفلام التي تعرضت لهذا الأمر إمَّا بتخصيص الفيلم كلّه للمغامرة، وإمَّا أن تكون هذه القصة جزءًا من الفيلم. كلُّ هذا يدلُّ على وجود هذه التجارب في الحقيقة؛ فهل لفيلمنا رأي في هذا؟ الإجابة هي نعم بالتأكيد فالفيلم كله يدور حول عملية اختطاف حقيقيَّة يقوم بها أثرياء للتسلية بقتل أبرياء، كلُّ ذنبهم أنهم فقراء.

بل إنَّ الفيلم قد أكَّد أنَّ هذه القصة ليست خرافيَّة فنحن نرى أحد الأثرياء المُشاركين، يقول للضحية: “للعِلم أيُّها السافل تغيُّر المناخ حقيقة” يقصد وجود هذه التجارب على أرض الواقع. نتأكد من مقصده حينما يُعيد العجوز تشغيل التلفاز على فيلم وثائقيّ لنسمع صوتًا يقول: خرافة تغيُّر المناخ. ولا ننسى أيضًا أن تجارة البشر (بيعهم إلى مَن يدفع) واختطاف الجميلات لأغراض الجنس من النشاطات التجاريَّة الرائجة في الغرب.

هذا عن وجود إطار القصة على وجه الحقيقة، لا على وجه الرمزيَّة. وفي هذا الإطار أيضًا نذكر الكثير من الأخبار التي كان قد أشاعها صحفيّ ومذيع أمريكيّ عام 2000 حينما دخل إلى موقع شهير في أمريكا اسمه “الغابة البوهيميَّة” يُقال إنّ أثرياء وقادة العالَم يجتمعون فيها مرة كل عام ليقوموا بمُمارسات عجيبة مثل التضحية بالأطفال. وقد نشر ساعتها هذا الصحفيّ فيديو مُسرَّبًا من احتفاليَّة ذاك العام، وقد أحدث بها دويًا ضخمًا. وعلى الشبكة العنكبوتيَّة نجد مقطعًا للرئيس الأمريكيّ السابق “بيل كلينتون” وأحدهم يسأله عن سبب ذهابه للغابة البوهيميَّة. فما كان منه إلا مُداراة الارتباك الذي حلَّ عليه وهو يقول: إنَّك مَن تحتاج إلى الذهاب هناك لتستنشق هواءً عليلاً. في الوقت نفسه الذي يدخل فيه الحرس ليسحبوا السائل إلى خارج القاعة أمام الجميع ولا أحد يتحدث!

معنى الكلام السابق والذي يؤكد عليه الفيلم أنَّ القصة وإطارها على وجه الحقيقة يحدث، بل يؤكد الفيلم حدوثه. لكنَّ الفيلم لمْ يتحجَّر أمام هذه النقطة، بل سعى لتوسيع إطار المعنى بتركيزه على أفعال الرأسماليَّة الأمريكيَّة والتوغُّل الشديد لأصحاب الثروات الضخمة في حياة المليارات من البشر من خلال قصة هؤلاء الأبرياء ومغامرتهم.

لدينا قصة ترويها بطلة الفيلم، هي قصة بالغة الشُّهرة تحكي عن الأرنب السريع (تقصد به الأغنياء والرأسماليَّة كفكرة) الذي دائمًا يهزم الجميع ودائمًا يجد كل متعته في أنْ يتباهى بسرعته، يذلّ الآخرين بما لديه وما ليس لديهم. وفي يوم تتحداه في سباق سلحفاة بطيئة (الشعب) ليس لديها أيّ مُقوِّم مما لدى الأرنب. يستهين بها الأرنب وينام ويستغرق في النوم مُطمئنًا للفوز. ثمّ يفيق ليجد أنَّ السلحفاة قد فازت وانتصرت عليه. إلى هنا تنتهي القصة التي نعرفها جميعًا؛ لكنَّ فيلمنا يزيد تذييلاً عليها ليوضح معناه. تكمل بطلة الفيلم القصة قائلةً: بينما عائلة السلحفاة تحتفل في المساء بالنصر المُبين على الأرنب، يدخل عليهم الأرنب ويقتل أبناء السلحفاة أمام ناظريها، ثم يقتل السلحفاة، ثم يجلس هادئًا بعد قتل الجميع يأكل ما كانت السلاحف ستأكله ابتهاجًا بالنصر. ثمّ تُنهي القصة بعبارة: لأنَّ الأرنب ينتصر دائمًا!

وآخر ما لدى الفيلم من أدوات لنقل حيِّز الفيلم من مجرد قصة وأحداث إلى إطار المعاني الكبير -ولعلَّها الأداة الأبرز- هو الاستعانة التضمينيَّة برواية الروائيّ الشهير “جورج أورويل” التي كتبها تحت عنوان “مزرعة الحيوانات”. وقد ضمَّنها الفيلم في حواراته، بل نسج عليها وبنى أفكاره. هذه الرواية من المذهب الرمزيّ تدور في مزرعة تستولي عليها الحيوانات بعد طرد صاحبها الإنسان منها، نرى فيها كيف كانت لكل شخصيَّة من الحيوانات وجهة نظر في إدارة شئون المزرعة. وهي رواية شديدة السُّخرية كتبت للاستهزاء من المذهب الشيوعيّ في بعض تطوراته، وهي كذلك في غاية الإمتاع جمعت بين المعاني والكوميديا الشديدة.

مزرعة الحيوانات

وهو الخليط نفسه الذي سعى الفيلم لاستلهامه. حيث نرى إدخال الرواية في الفيلم بمناحي كثيرة؛ منها ذِكرها مباشرةً أكثر من مرة، ومنها وجود خنزير حقيقيّ في الصندوق الذي فتحه الأبرياء في أول المغامرة، واسم هذا الخنزير “أورويل” -وهو اسم كاتب الرواية-، ومنها تكنية (أيْ إطلاق كُنية) على بطلة الفيلم بـ”سنوبول” وهو خنزير وشخصيَّة من شخصيَّات الرواية.

فما هي دلالات استلهام الرواية في الفيلم؟

لهذا الاستلهام الكثير من الدلالات؛ منها ما هو خارج عن بنية الرواية، فيما يتعلَّق بصاحبها “جورج أورويل” لكونه رمزًا من رموز المقاومة في الأدب بروايتَيْه “مزرعة الحيوانات” و”1984″. ولكون الرواية مُخصصةً لنقد النظام كُلاً أيْ هيئة النظام القائم كليَّةً وليست ملامح أو أجزاءً منه؛ كان النظام المُنتَقَد أيام الرواية هو الشيوعيَّة، ولا شكَّ أنَّ النظام المُنتَقَد في الفيلم هو العدوّ اللدود للشيوعيَّة “الرأسماليَّة”. بل الرأسماليَّة في أفحش صورة ترميزيَّة لها؛ وهي أنْ تأتي بالأبرياء المُنقادين الذين لمْ يفعلوا شيئًا إلا أن عبروا عن رأي وتقتلهم تسليةً. وكذلك يبدو اسم الرواية له دخل في موضوع فيلمنا “مزرعة الحيوانات” حينما يكون نظام الدولة المُعتَرَف به مزرعة للحيوانات حقيقةً لا رمزًا.

أما “سنوبول” الذي كُنِّيَتْ به بطلة الفيلم فهو خنزير طيب يسعى لصالح الجميع ولصالح المزرعة، ويعمل جاهدًا لذلك. لكنَّ الأشرار يشيعون عنه إشاعات غير صحيحة بأنَّه يريد الشرّ بالجميع، ويُلصقون به ما هو فيهم من شناعات. مما يؤدى إلى أنْ يتجنبه الجميع ويبتعدوا عنه. وهذا الخنزير هنا هو الشعب نفسه الذي هو وحده يعمل، ثم يأتي الخنزير “نابليون” -الشرير ذو النفوذ والأعوان- ليُبعده ويجني هو كل الثمار من كدحه وعمله.

ولا تظنّ من كل هذه النقاشات الجديَّة أنَّ الفيلم جادّ أو يلتزم الجديَّة في عرضه للأفكار التي بثَّها طوال دقائقه؛ بل إنَّ غالب الفيلم كوميديّ محض. وهنا نأتي لمسألة تصنيف الفيلم حيث تصنيفه الصحيح هو أنَّه مَلهاة أيْ أنَّه عمل كوميديّ. لكنَّ الكوميديا فيه ذات لون خاصّ تُسمَّى بالمَلهاة الهزليَّة أو بفنّ “الفارس” -في الاصطلاح المسرحيّ-. ويقصدون بها وصول الكوميديا إلى حيِّز الهزل ودرجة الهزليَّة، وهي أعلى درجات استخدام الكوميديا في الفنّ عمومًا. نرى ذلك بوضوح في الفيلم وخارجه. ولعلَّ أحدًا رأى مُلصق الفيلم يسترعيه ما كتبه صُنَّاع الفيلم عليه بلهجة هزليَّة تمامًا: “إنَّ فيلم العام المُرتقب هو الفيلم الذي لمْ يصنع بعدُ”. وفي داخل الفيلم نرى الكثير من المشاهد واللقطات الهزليَّة مثل المشهد الذي تقع فيه إحدى الضحايا على أسياخ، وكذلك مشهد ما قبل النهاية بعد معركة البطلتَيْن، وكثير من المشاهد الأخرى. وبالعموم هذا الملمح كانت تمتاز به رواية “مزرعة الحيوانات” أيضًا.

يدعوك أسلوب الملهاة الهزليَّة إلى عدم تصديق ما تراه أمامك؛ إنَّه يقول لك: لا تصدِّقْنِي فإنَّني أهزل، الأهمّ أنْ تصدق ما أعنيه بالهزل لا الحدث المُستخدم. ولعلّ هذا الأسلوب يُخرج الفيلم من إطار الغموض والإثارة إلى كون الفيلم فيلمًا كوميديًّا في الاعتبار الأول له. لكنَّه على كل حال سيجعلك مستمتعًا حتى النهاية.

ولمْ يضف الإخراج للفيلم شيئًا، لا يعني هذا أنَّ الإخراج كان سيئًا بل كان عاديًّا فقط. ولمْ يكنْ فيه ما يسترعي اهتمام أحد إلا في مشهد الاقتتال بالأيدي في نهاية الفيلم؛ حيث نرى تناسقًا بين القتال وبين موسيقى “بيتهوفن” في الخلفيَّة، ونرى بعض الاجتهاد في زوايا التصوير لإخفاء الاستعانة بالبديلتَيْن للمُمثلتَيْن.

نقطة أخرى يجب التنويه عنها هي الملصق الثاني للفيلم حيث نرى ظبيًا يقف بين أشجار هي الحقيقة أسلحة مزروعة في الأرض، أيْ أنَّ الأرض تنبت أسلحة لا خيرًا ونماءً، ونرى على الجانبَيْن شخصَيْنِ يحاولان الهرب. وفيه ما فيه من التعبير عن معنى الفيلم وهذه الظبية الواقعة بين براثن الأُسُود التي تنتظر التهامها.

Visited 119 times, 1 visit(s) today