فيلم “الشجرة النائمة” البحريني.. تجربة جريئة رغم كل شيء

Print Friendly, PDF & Email

يتهم بعض النقاد صناع الفيلم البحريني “الشجرة النائمة” الذي عرض عام 2014، بالتعالي على المتلقي، مرجعين ذلك التعالي لعدم تقديم مخرج الفيلم محمد راشد بوعلي وكاتب نصه السينمائي فريد رمضان، أي دلالات واضحة لرمزيات ما استخدماه في فيلمهما من عناصر ثقافية تمثلت في شجرة الحياة التي حمل الفيلم إسمها من جانب، وفي آلة الجربة الموسيقية من جانب آخر.

قد يكون هذا الكلام مصيباً في جانب كبير منه، فالفيلم لم يكن واضحاً لكثير من المتلقين سواء من المتخصصين أم الجمهور غير المتخصص، في الطريقة التي وظف بها موسيقى الجربة والشجرة النائمة ولعب على الرمزية الخاصة لهذين المعطيين الثقافيين، وهما معطيان لهما امتداد عميق في الثقافة البحرينية، واستخدامهما في الفيلم فتح الباب لطرح كثير من الإشكالات على مستوى الهوية البحرينية .

من جانب آخر فقد وجد كثير من المتلقين عملية التنقل بين الأزمان الثلاثة التي تدور خلالها أحداث الفيلم، مبهما وغير مفهوم وربما مرتبك في بعض المشاهد، فالفيلم يتنقل بين زمن ماض كانت الأسرة تنعم فيه بوجود إبنتها في وسطها معافاة أو مريضة، وزمن حاضر تموت فيه الإبنة ويعيش فيه والداها لوعة فراقها، وزمن مستقبلي يحلم فيه الأب بلقاء الإبنة من جديد والاجتماع معها. ولعل هذا الأمر صحيحاً، لكن ما يحسب للفيلم في هذا الجانب، هو أن عملية التنقل بين الأزمان الثلاثة هذه مهما بدا ارتباكها، إلا أنها عملية مدروسة من قبل الكاتب على أقل تقدير، إذ جاءت متناغمة مع توظيف رمزية المعطيات الثقافية الأخرى لصالح قصة الفيلم وثيمته الأساس المتعلقة بفلسفة الموت.

هذه الثيمة الأساس التي لعب عليها الفيلم علل وجودها برغبة بطل الفيلم وهو جاسم (قام بدوره الفنان جمعان الرويعي) في التخلص من الألم وذلك عبر القيام برحلة ذاتية عاد خلالها هذا الأب المكلوم بفقد إبنته إلى جذوره وبداياته باحثاً في الأشياء حوله بدءًا من موسيقى الجربة وصولا إلى شجرة الحياة برمزيتها الثقافية. 

ومنذ بدايات رحلة الخلاص تلك، بدا وكأن الفيلم يوجهنا نحو التأمل كوسيلة للخلاص، وذلك بمشاهده  المغرقة في الشاعرية بموسيقاها التي أبدعها محمد الحداد وبحركة الكاميرا الرشيقة المعتادة في أفلام بوعلي والتي حملها هذه المرةمدير التصوير التونسي العالمي محمد مغراوي.  التأمل الذي دعى إليه الفيلم هو ذلك الذي يقود بطله إلى التفكير بعمق في ماهية الأشياء وفلسفتها، والأشياء هنا هي الموت وكل ما ينطوي تحته من معاني الفراق والفقد والحزن، وهو الذي انتزع من جاسم ابنته فملئ نفسه كدراً.

الفيلم بدا كتجسيد وبيان لفلسفة فريد رمضان حول الموت، سردها عبر محنة جاسم بطل فيلمه الذي ظل تائها بآلامه، يتعرف على مسبباتها ويبحث في جذورها، والبحث هنا قاده لموسيقى الجربة أولاً ثم لشجرة الحياة، هذه الشجرة التي ترمز للخلود وللحياة التي لا تنتهي، والتي تملك ما لا تملكه ابنته.

إنه يبحث عن الموت في عمق الحياة لأن الأشياء تفهم بنقائضها ولذا عاد جاسم إلى الحياة، مرة إلى الحاضر الذي عزف عن جزء منه ذلك المتعلق بزوجته وابنته المريضة اللتان تعامل معهما بلامبالاة،  فيما حاول إغراق نفسه في جزء آخر منه حين حاول الإنصراف إلى ملذات أخرى قد تلهيه عن اقعه لكنه فشل. العزوف عن أمر ما ثم الغرق فيه وهو الحياة هنا، هو بكل تأكيد سلوك ومحاولة لمواجهة نقيض ذلك الأمر والتعامل معه وهو الموت بكل تأكيد.

ومن الحاضر ينتقل الفيلم إلى الماضي حين يعود جاسم إلى الموسيقى الشعبية، موسيقى الجربة، ليذوب مع ألحانه لعلها تنسيه آلامه، وأخيراً إلى المستقبل الذي مثلته شجرة الحياة، هذه الشجرة القابعة منذ آلاف السنين لا تهزها الظروف ولا تنال منها السنون.

سيفهم جاسم الموت إذن عبر التأمل في الحياة، مجسداً إيمان كاتب الفيلم بأن التأمل في فلسفة الأول (الموت) سيقود إلى الآخر، الحياة والتأمل في ما مضى منه وما نعيشه اليوم وما سيأتي مستقبلا. الموت في الواقع هو حياة حقيقية وهو المستقبل والزمن الثالث الذي ينقلنا إليه الفيلم في بعض مشاهده. الموت أيضا مجال خصب للتأمل في ثيمات مثل النهاية، والحزن، والفراق والفقد وهي الثيمات التي بنيت عليها قصة الفيلم. وهكذا تأمل جاسم في ألم يعيشه في وقت حاضر في الفيلم، ليجد نفسه يعود إلى الماضي وإلى الأصول والبدايات، ثم ليجد أنه ينتقل نحو مستقبل يطمح لكونه أفضل.

ألم الفقد أخذ جاسم، إلى شجرة الحياة، هذه الشجرة التي تنتصب منذ آلاف السنين وسط مساحة أرض خالية لا تنبت فيها غيرها، والتي تبدو منفصلة عن أي حياة أخرى، تشبه جاسم الذي انفصل عن واقعه منذ أن رفض فكرة المرض الذي يأخذ ابنته نحو موت محتوم. شجرة الحياة وفرت لجاسم مساحة مناسبة تعزز انفصاله عن العالم من حوله، لكنها في الوقت ذاته وفرت له دعما معنوياً ليستمر واقفاً رغم الألم الذي يعيشه، تماما كما تقف هي وسط خواء وموت لا يملؤه إلا حياتها.

لا يهم نوع الرحلة التي قام بها البطل خلال تأمله ذاك، صوفية كانت أم روحية، المهم أنها كانت رحلة تأملية مرت بحيوات مختلفة، حياة مرت، وحياة حاضرة، وأخرى يطمح لها الأب المكلوم. رحلة ذاتية كان هدفها التعامل مع الموت، تمت عبر أزمان ثلاثة المختلفة تنقل البطل بينها ليخلص ذاته من الألم.

فريد وبوعلي عادا إلى الجذور ليفهما الموت والألم في هذا الفيلم التجريبي، المقدم بأسلوب شاعري، الذي يشبه معظم أفلام المخرج بوعلي السابقة، كما إنه نمط معتاد في نصوص وروايات فريد رمضان المعروف بشاعريته والذي يركز في كل أعماله على الهوية البحرينية بكل تفرعاتها.

وبعيدا عن الدلالات الفلسفية للشجرة والموسيقىى، فنحن أمام فيلم بحريني بامتياز، يحمل هوية بحرينية ويعزز الاحساس بها من خلال اعتماده ثيمات تمت للثقافة البحرينية أو تحمل رمزية ثقافية وشعبية بحرينياً، وهي الشجرة النائمة، والموسيقى الشعبية.

وبغض النظر عن أي نواحي قصور وجدها البعض، إلا أنني أجد في الفيلم محاولة جريئة لعمل اضافة للفيلم السينمائي الطويل خليجياً. وتأتي الجرأة من المخرج محمد راشد بوعلي أولا، وهو الذي يضم تاريخه عدداً لا يصل للعشرة من الأفلام القصيرة، وهي على رغم كونها أفلام مميزة لفتت الأنظار لموهبته وحدد من خلالها خطاً خاصاً به، إلا أنها لا تكفي ليقفز بوعلي بعدها للفيلم الطويل في غضون عشرة أعوام من  دخوله عالم الإخراج السينمائي.

هي أيضاً جرأة تحسب للشركة المنتجة للفيلم “نوران بيكتشرز” وهي التي قررت أن يكون أول مشاريعها الإنتاجية فيلم روائي طويل، وبطبيعة الحال فإن صناعة فيلم روائي طويل خليجي، هي خطوة جريئة في منطقة لا تصنع السينما، وفي بلد كانت آخر محاولاته في السينما قبل 8 أعوام مع فيلم “حكاية بحرينية”.

هذه الجرأة من المخرج والشركة لفتت الأنظار، محليا واقليمياً وعالمياً، لموهبة الشباب البحريني، فهذا شاب بحريني كانت أولى محاولاته عام 2005  وهو بعد عشرة أعوام يخوض تجربة فيلما طويلا، وهو لا يقدم فيلماً درامياً عادياً، لكنه يتجه للفيلم التجريبي، وبطبيعة الحال فإن هذه النوعية من الأفلام هي أصعب إن قدمت على نحو مدروس وسليم.

كذلك لفت الفيلم الأنظار لوجود سينما بحرينية مختلفة، من ناحية كونه فيلم روائي طويل، يتم انتاجه بعد توقف ثمانية أعوام، يترشح لجائزة المهر الذهبي في مهرجان دبي السينمائي الدولي عام 2014، كما يتنافس مشروع سيناريو الفيلم على “جائزة آي دبليو سي للمخرجين” في أولى دوراتها في مهرجان دبي عام 2012، عدا عن حصوله على دعم من برنامج “انجاز” وهو جزء من مبادرة سوق دبي السينمائي.

ولا تتوقف انجازات الفيلم عنذ ذلك بل إنه فاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 2015 في دورته السابعة والثلاثين، كما حصل على الجائزة الثانية لأفضل فيلم خليجي بمهرجان مجلس التعاون الخليجي الثالث الذي أقيم في الإمارات العربية المتحدة، وترشح لثلاث جوائز في مهرجان صناع السينما في برلين عدا عن عرضه في أكثر من 22 مهرجانا دوليا.

لن ننسى بكل تأكيد الدعم الذي حصل عليه الفيلم من هيئة شئون الإعلام لإنتاجها وكذلك من بنك التنمية وبعض مؤسسات القطاع الخاص، وتلك خطوة تحسب للجهة الرسمية بحرينيا في إيمانها بقدرات الشباب البحريني وطاقاتهم، لكنها في الوقت ذاته تحسب للفيلم باعتباره أول فيلم روائي طويل يحظى بتلك المباركة الرسمية.

أخيراً، قد يتهمني البعض بالإنحياز للفيلم ولصانعيه كما حدث مسبقاً، والواقع هو أنني لا أجد ذلك صحيحا، كل في الأمر هو أن كتابات فريد، روايات ونصوص، تصلني بشكل جيد، كما أجدني أتمكن من قراءة رؤى بوعلي الإخراجية أتلقاها هي الأخرى بشكل لا بأس به، ولذا وصلتني تجربتهما الروائية الطويلة الأولى.

وختاماً فإنه مهما كان تفاعل المتلقي مع هذه التجربة إلا أنه لا يمكن إنكار كونها تجربة سينمائية جيدة  بإعتبارها المحاولة الأولى لمخرجها في الفيلم الطويل، والثالثة لكاتبها في النوع ذاته، وذلك بعد فيلمي”زائر” (2004)، و”حكاية بحرينية” (2006).

لا أنحاز ولا أجامل، لكن فيلم “الشجرة النائمة” تجربة جيدة، غير مكتملة، قد تصل البعض ولا تصل آخرين.

* ناقدة وكاتبة من البحرين

Visited 67 times, 1 visit(s) today