فيلم “الخادمة” الكوري.. “مبتذل” في زمانه سابق لعصره اليوم

منصورة الجمري *

يعتبر فيلم “الخادمة” The Housemaid وهو فيلم كوري جنوبي، أحد أبرز كلاسيكيات سينما كوريا الجنوبية، وهو فيلم شكّل وقت عرضه، مدرسة سينمائية لصناع سينما كوريا الجنوبية وربما للسينمائيين في كل مكان في ذلك الوقت، ولا يزال كذلك حتى يومنا هذا.

طالته انتقادات كثيرة، وأثار جدلا كبير عندما عرض عام 1960، فقد وصف بالفيلم “المبتذل”، و “البشع”، و”المبالغ فيه”، وذلك نظرا للجانب الأخلاقي الذي تناوله، لكن في المقابل، كان هناك اجماع نقدي لا يزال قائما حتى اليوم، على اعتباره أحد أهم الأفلام في تاريخ السينما الكورية، بل إن مؤسسة أرشيف الأفلام الكورية اعتبرته في عام 2014 أفضل فيلم كوري على الإطلاق.

يرى النقاد أن هذا الفيلم غير وجه السينما الكورية، يصفونه بأنه سابق لعصره، كما بلغ الاحتفاء العالمي به حداً جعل مؤسسة مارتن سكورسيزي للسينما العالمية تختاره ضمن مجموعة من أهم وأبرز كلاسيكيات السينما العالمية التي شكلت علامات فارقة في سينما بلادها، لتتكفل المؤسسة بترميمه واعادة عرضه على بعض منصات عروض الأفلام مثل منصة موبي التي شاهدت الفيلم عبرها.

يمكن الوقوف على أسباب هذا الاحتفاء الكبير بالفيلم منذ أول مشاهدة له، فهو بداية يناقش قضية هامة ومحورية في المجتمع الكوري الجنوبي في ذلك الوقت تتعلق بظهور الطبقة الوسطى العليا في تلك الفترة التي شهدت طفرة في الاقتصاد الكوري الجنوبي.

ويلقي مخرج الفيلم كيم كي يونغ وهو كاتبه أيضا، نظرة على واقع هذه الطبقة وعلى التحديات التي يواجهها أفراد المجتمع الكوري الجنوبي في محاولتهم الانتقال من الطبقات الأدنى إلى هذه الطبقة.

تشمل هذه التحديات أو المعضلات الأخلاقية التي يصورها الفيلم قضايا مثل الخيانة والتجرد من بعض القيم والأخلاقيات، وهي موضوعات كانت في ذلك الوقت محرمات (تابوهات) لا يتم الاقتراب منها عادة، حتى في صناعة سينمائية بارزة مثل هوليوود، لكن مخرج هذا الفيلم وهو كاتبه كما أسلفنا، ارتأى تقديم درس أخلاقي بتعرضه لهذه المعضلات التي كانت تواجه المنتمين لهذه الطبقة أو الطامحين إلى الارتقاء إليها.

هكذا جاء الفيلم ليناقش ثيمات مثل تفتت الأسرة، والانحرافات الأخلاقية، وتغيير موازين القوى داخل الأسرة الواحدة وداخل المجتمع، ولينتقد سلوكيات مثل الطموح الأعمى والجشع اللذان قد يستوجبان التضحية بالقيم العائلية الكورية مثل الحب والإخلاص والتفاني في خدمة الأسرة، عدا عن نقله لحالة الضياع والقلق والتشتت التي يمر بها الكوريون الجنوبيون ممن عاشوا حالة مشابهة لحال العائلة بطلة الفيلم. عن ذلك صرح المخرج في أحد لقاءاته “أردت تصوير التغييرات في المجتمع الكوري وأزمة الأسرة البرجوازية”.

ومن بين الأسباب التي جعلت هذا الفيلم واحدا من أهم الأفلام حتى يومنا هذا، ما جاء على لسان المخرج الكوري البارز بونغ جون هو، الذي وصف الفيلم بأنه تمرين على تقديم “نوع” Genre مهجنا، مضيفا بأنه أحد الأسباب العديدة التي جعلت هذا الفيلم سابقا لعصره.

بالفعل يقدم الفيلم جونرا متنوعة، فهو أولا فيلم اثارة Thriller، وهو أيضا فيلم جريمة، وربما أمكن اعتباره فيلم رعب كوري يشبه ذلك النوع من أفلام الرعب الكورية التي راجت في تلك الفترة، وهو اضافة إلى ذلك، ميلودراما عائلية اجتماعية تعبر عن المجتمع الكوري الجنوبي في فترة الستينيات.

إلى جانب ذلك، فقد وجد النقاد الأمريكيون أسلوب الجريمة والاثارة (الثريلر) والأسلوب الانتقامي الذي اتبعته الخادمة في الفيلم يشبه ذلك المتبع في أفلام المخرج الشهير ألفريد هيتشكوك، لكنهم في الوقت ذاته لم يتهموا مخرج الفيلم أبدا بتقليد هيتشكوك.

كذلك فإن تركيب الشخصيات يعد واحدا من عناصر تميز الفيلم. الفيلم قدم شخصيات شديدة التعقيد لكنها ليست بغيضة أو مكروهة من قبل المتفرج، حتى الخادمة التي تمثل الشر المطلق تكسب تعاطف المتفرج في بعض المشاهد.

من جهة أخرى فإن الشخصيات التي تمثل الجانب الخيّر، تثير غضب المشاهد في بعض مواقفها، كالزوجة التي يتم خيانتها وهي زوجة محبة لأسرتها متسامحة مع أخطاء زوجها، لكنها في الوقت ذاته تبدو مادية جدا، مهووسة على الدوام بتجميع المال وبالحياة الأفضل حتى لو جاء ذلك على حساب عائلتها. بل إنها وحين يعترف لها زوجها بخيانتها مع الخادمة، لا تبدو متأثرة بالقدر الذي تعلن فيه رغبتها في الحفاظ على صورة الأسرة المتوازنة، مهما كلف الأمر وإن عنى ذلك دفعها الخادمة لاجهاض جنينها، أو موافقتها على أن يقضي زوجها الوقت مع الخادمة.  

إلى ذلك، يمتلئ الفيلم بالكثير من الاستعارات والرموز، أبرزها الاستخدام الرمزي للسلالم بشكل كبير، ذلك الموقع من منزل العائلة الذي تحدث عليه كل الأحداث الهامة والمحورية. ذلك المكان الذي يشهد سقوط شخصيات وصعود أخرى، عليه تموت الخادمة حين تسقط من أعلى درجاته حتى الأسفل، وعليه يتم تشجيع الابنة المشلولة لتتحرر من عكازيها، بل إنها تقف بالفعل في أحد المشاهد لتنتزع من شقيقها أمرا ما. على السلالم يهدد الزوج وهو مدرس موسيقى، إحدى طالباته بالقول “أنظري إلى الأسفل، يمكنني قتلك بسهولة” في اشارة إلى أنه يمكن له أن ينقلها من طبقة لأخرى إن أحدث لها فضيحة أخلاقية وذلك على إثر إعترافها له بحبها.

السلالم بشكل عام، في ارتقائها صعودا أو نزولا، تشير بشكل عام إلى معاناة أفراد المجتمع وكفاحهم من أجل الإنتقال إلى طبقة إجتماعية أعلى وكذلك إلى التضحيات الكبيرة التي يجب عليهم أن يتخذوها من أجل الحفاظ على موقعهم في الطبقة الجديدة.

وإلى جانب هذا التوظيف الفعال لسلم المنزل، يوظف المخرج المكان وهو منزل الأسرة الذي تدور فيه معظم الأحداث خير توظيف. بل يمكن القول إن المكان (منزل الأسرة) يلعب الدور الأكثر أهمية في الفيلم، فكل شيء مقسّم فيه بشكل مدروس.  هنالك طابق أرضي سكنته الأسرة أولا قبل أن تتمكن من اتمام الطابق الثاني ونقل بعض غرفها إليه. الطوابق إشارة واضحة إلى الطبقات الاجتماعية، الطبقة السابقة التي انتمت إليها الأسرة ثم الطبقة الأعلى التي ظلت ترتفع إليها شيئا فشيئا طوال مدة الفيلم البالغة 108 دقيقة. تظل الأم في الطابق الأول (الأدنى) في غرفة نومها التي تحتل مساحة بارزة منها ماكينة خياطة، تعد هي الأداة أو الوسيلة التي ستنقل الأسرة من طبقة إلى أخرى. تقل غرفة النوم أسفل السلالم مباشرة.

هنالك أيضا المقارنة بين داخل المنزل وكل ما يدور فيه، وخارجه الذي تصوره الكاميرا من خلف الزجاج الذي يملئ غرف الطابق الثاني، وهنا تبرز نقطة تميز أخرى تتمثل في كاميرا المخرج التي تتنقل بسلاسة بين داخل المنزل وخارجه، عدا عن تنقلها الأنيق بين غرف المنزل المختلفة. عدا عن دلالات الداخل الذي يمثل الواقع الذي تعيشه الأسرة بكل تفاصيله ومعاناته، في مقابل الخارج الذي يرمز إلى الحلم والطموح والواجهة الجميلة التي تبدو أجمل بكثير من حقيقة الداخل. 

أخيرا فإن حقيقة كون فيلم الإثارة النفسية هذا (الثريلر) هو بمثابة تحليل اجتماعي، ونظرة تأملية فاحصة للمجتمع الكوري الجنوبي في نهاية فترة الخمسينيات من القرن العشرين، يجعله، بلا شك، واحدا من أهم الأفلام في وقته، وفيلما يستحق التوقف أمامه لا لجودته وسبقه الفنيين وحسب، بل لطرحه الاجتماعي المثير للجدل، يومها، وربما الآن أيضًا.

  • ناقدة سينمائية من البحرين السينمائي*
Visited 16 times, 1 visit(s) today