فيلمان من تونس وسورية في مهرجان كان

Print Friendly, PDF & Email

شاهدنا في مهرجان كان حتى الآن أربعة أفلام تنتمي الى العالم العربي، هي الفيلم المصري في المسابقة وهو فيلم “يوم الدين” أول أفلام مخرجه أبو بكر شوقي، والفيلم التونسي “ولدي” الذي عرض في تظاهرة “نصف شهر المخرجين”، والفيلم السوري “قماشتي المفضلة” الذي عرض في قسم “نظرة ما”، وأخيرا الفيلم المغربي “صوفيا” الذي عرض في “نظرة ما” أيضا. في هذا المقال نتناول الفيلمين التونسي والسوري.

الفيلم التونسي “ولدي” هو ثاني الأفلام الروائية الطويلة للمخرج الشاب محمد بن عطية بعد فيلمه الأول “نحبك هادي” الذي عرض في مسابقة مهرجان برلين قبل ثلاث سنوات وفاز بجائزتين، جائزة أفضل العمل الأول، وجائزة أحسن ممثل. وكان من أهم عناصر نجاح الفيلم وتوفيقه في معالجة موضوعه الذي يدور حول أزمة شاب يشعر بالإحباط في محيط الأسرة والمجتمع، براعة السيناريو ووضوح الشخصيات، إلا أن السيناريو هو نقطة الضعف الرئيسية في فيلم بن عطية الجديد، رغم أن موضوع الفيلم كان يمكن أن يصنع عملا متميزا، خاصة وقد توفر له ممثل يؤدي ببراعة وثقة كبيرتين.

في الجزء الأول من الفيلم يبدو كما لو كان الموضوع يدور أيضا حول شخصية شاب يدعى سامي (19 عاما)، وهو طالب جامعي متفوق في دراسته، لكنه وحيد والديه: رياض الذي يعمل مشرفا على العمال في الميناء ويتأهب للتقاعد، ونازلي معلمة في احدى المدارس. لكن سامي لا يشعر بالسعادة، فهو محبط لا يمكنه الاندماج وسط أصدقائه ولا يستطيع مشاركتهم اللهو والمرح، وربما كان يشعر في داخله برفض هذه الهيمنة الأبوية الت تنبع بالطبع من الحرص الشديد عليه: والده يبدي تجاهه كل ما يمكن من حب واهتمام، يشتري له قميصا كهدية من دون مناسبة، ينتظره لكي يقوم بتوصيله في آخر الليل، يحرص على ضرورة استذكاره دروسه، لكنه يصبح أيضا قيدا عليه. تطارده نوبات من الصداع النصفي، يأخذه والده الى الطبيب الذي يصف له الدواء، لكن من دون فائدة.

في القسم الثاني من الفيلم تقفز الأحداث فجأة ومن دون سابق تمهيد، فنعرف أن سامي قد اختفى بعد أن ترك وراءه رسالة يقول فيها لوالديه إنه ذهب الى سورية للالتحاق بتنظيم إسلامي لابد أن يكون تنظيم داعش. تنهار الدنيا بأسرها فوق رأس والده الذي يعتبر أنه فقد كنزه الثمين الذي كان يرعاه منذ مولده، وتشعر والدته بانهيار حلمها في أن تراه رجلا ناجحا، فكيف يمكن أن يفعل سامي ذلك، كيف له أن يختفي هكذا فجأة ويكسر قلبها، ويذهب للالتحاق بهؤلاء الأشرار (في تونس أعلى نسبة من الشباب الذي يلتحق بتنظيم داعش). هنا تأتي أولا مرحلة الإنكار من جانب والدي سامي.

ثم تأتي مرحلة البحث والتخبط والأفكار المتناقضة التي تهاجم الأب والأم. يذهب الأب الى الجامعة لكي يسأل زملاء ابنه الغائب عنه، فربما يعرف أحدهم شيئا، لكنه يفقد أعصابه ويعود خائبا، ثم يذهب إلى الطبيب الذي كان يعالج ابنه، يسأله عما إذا كان سامي يعاني من الاكتئاب كما أخبر والديه. ينكر الطبيب أن يكون قد ذكر موضوع الاكتئاب من قبل.

في القسم الثالث من الفيلم يقرر الأب الذهاب الى تركيا ومنها الى سورية بعد أن يقترض مبلغا من المال ويكون قد حصل على مكافأة التقاعد. وفي سلسلة من المشاهد التي تدور في معظمها في الداخل: ردهات وغرف الفنادق، ملهى ليلي، مع بعض المناظر العامة لمدينة إسطنبول، وبطريقة آلية للغاية تخلو من أي إقناع، ينجح الأب في تدبير وسيلة للتوجه الى سورية للعثور على ابنه. لكنه لا يقابله بل يحلم فقط بأنه قابله وأخذ يجذبه لكي ينهض ويعود معه إلا أن سامي يعبر عن رفضه الشديد للانصياع للمسار الذي اتخذه والده في حياته مصرا على أن يشق طريقه طبقا لقناعاته الشخصية. هذه الأفكار تأتي على صعيد الخيال في الفيلم، فالأب تطارده كوابيس في الليل، تحرمه من النوم، تدفعه للخروج من الفندق ليسير وحده. لعله كان يراجع علاقته بابنه، وكيف كان يعتبره جزءا من ملكيته الخاصة وأصبح الآن يقر ويعترف بأن سامي كيان آخر مختلف عنه. ولكن هل معنى هذا أنه تصالح وقبل بما حدث؟  

لقطة من الفيلم التونسي “ولدي”

ينتهي الفيلم نهاية سطحية ضعيفة من الناحية الدرامية، بل الحقيقة أن الفيلم يعاني بشكل عام من الضعف الدرامي، فنحن مثلا لا نعلم باختفاء سامي سوى بعد مرور وقت طويل من زمن الفيلم، كما كان من المتوقع أن يعود الفيلم لكي يسلط الأضواء على ماضي سامي ويوضح بشكل ما كيف وصل الى ما وصل إليه من قناعات رغم أنه بدا لنا وقت ظهوره على الشاشة، كشاب طبيعي ليس لديه أي سبب يدعوه لتغيير مسار حياته فجأة على هذا النحو. أضف على ذلك اننا لا نرى شيئا ذي أهمية في الجانب السوري بعد أن يعبر رياض الى هناك. مجرد فراغ وأحلام وظلام وكوابيس.

إن “ولدي” فيلم عن شاب يسلك طريقا على نحو ليس متوقعا منه (هل الدافع هو شعوره بالصداع النصفي مثلا!)، وعن أب لا يعرف ما يكفي عن ابنه أو هكذا يبدو، ثم يذهب للبحث عنه لكي يعود في نهاية المطاف كما ذهب، خائبا عديم الحيلة، أما الأم فهو مرآة لرد فعل غياب الابن المفاجئ. لدينا إذن مشكلة مركبة، فإن كان بن عطية يرغب في عمل فيلم عن اختفاء الشباب للالتحاق بجماعات التطرف الإسلامي، فقد فشل في تسليط الضوء على الظاهرة، وإن كان يرغب- كما صرح هو- في تقديم دراسة نفسية لشخصية أب يعاني بعد فقدانه ابنه فقد كان يمكن أن يكون هذا الفقدان نتيجة حادث آخر ذي نوعية أخرى وليس موضوعا يترقب الجميع أن يعرف عنه أكثر، هو في الحقيقة “موضوع الساعة”. إنه يكتفى رغم براعة الممثل “محمد دريف” في دور “رياض”- بالوصف السطحي الخارجي، وتكرار الانفعالات نفسها من مشهد إلى آخر، كما يؤدي فراغ الحبكة وغياب لموضوع القوي الى ترهل الإيقاع وامتداد الفيلم الى قرابة الساعتين من دون أي إشباع في النهاية.

قماشتي المفضلة

أما فيلم “قماشتي المفضلة” للمخرجة السورية المقيمة في باريس غاية جيجي، فمشكلته الأساسية هي نفس مشكلة الفيلم التونسي أي ضعف السيناريو وخواؤه وعدم قدرة كاتبته وهي المخرجة نفسها، على تطويره ودفع مواقفه وأحداثه بحيث يبدو أكثر إثارة لاهتمام المشاهد. إنها تريد أن تصنع عملا جريئا يستند الى “سينما المؤلف”، يعبر عن فكرها الخاص باعتبارها تنتمي إلى التيار النسائي الفكري المعروف بالفمينزم. ففيلمها يدور حول شخصية فتاة سورية شابة تدعى “نهلة” تعيش مع أسرتها المكونة من الأم وثلاث شقيقات (لا وجود للأب فقد توفي) في عمارة سكنية في دمشق. وهي تعمل في محل لبيع الفساتين والأقمشة في دمشق علما بأن التصوير تم في تركيا وباريس، كما أن الفيلم من الانتاج المشترك الفرنسي التركي الألماني.

تندلع أحدث ثورة الغضب السورية في مارس 2011، وتتمدد الأحداث التي نشاهدها من خلال لقطات تسجيلية، ويظهر الرئيس بشار الأسد مرات عدة، ثم نسمع صوته وهو يلقي خطابا من خطاباته الديماغوجية المألوفة التي يدين فيها الثورة ويؤكد على وحدة الصف، وتنفجر الحرب الأهلية، وعمليات القصف الجوي للمدن الآمنة، وترويع المدنيين بواسطة الجيش والميليشيات، إلا أنه لا يجب أن يتوقع أحد أن يكون للفيلم أدنى علاقة بالثورة لا من قريب ولا من بعيد، فهي تظهر على فترات متقطعة خلال السياق، سواء من خلال لقطات لما تعرضه قنوات التليفزيون (غير السورية) مع مقاطع من أحاديث بعض أقطاب المعارضة أو ممثلي السلطة، ثم بعض اللقطات التي ألفناها في الأفلام التسجيلية عن الثورة للتعذيب وقمع الثوار على أيدي رجال الأمن، ثم القصف وتدمير المدن السورية. أما علاقة “نهلة” بهذه الأحداث فلا وجود لها في سيناريو الفيلم، فهي تقريبا لا تغادر البناية التي تقيم فيها، إلا لكي تصعد إلى شقة في الطابق الأعلى تقيم فيها سيدة تدعى “مدام جيجي” حولت شقتها الى “بيت دعارة” حيث تعمل معها مجموعة فتيات وتستقبل الزبائن من الرجال ومن بينهم شاب تصنع منه “نهلا” في خيالها الخاص صورة عاشق ولهان، يحبها ويخضع لها خضوعا تاما في الفراش، ولمن من دون أي مشاهد للقاء الجنسي فالفيلم يلمس الموضوع من على الأطراف رغم وجود بعض مشاهد العري.

لقطة من الفيلم السوري “قماشتي المفضلة”

نهلة إذن تعيش من البداية داخل عالمها الذي صنعته في خيالها، بكل ما فيه من أحاسيس ومشاعر جنسية مكبوتة، تريد أن تعبر عن نفسها لكنها تبدو مشلولة. أمها تدبر لها زيجة من شاب سوري مهاجر الى أميركا مع أسرته منذ أن كان صغيرا، لعله يتيح لنهلة وأسرتها فرصة الهجرة الى أميركا وبالتالي الفرار من الواقع الخانق في دمشق. وهذا هو “سمير” الذي يأتي مع أسرته لخطبتها لكنها تعامله بنوع من التحدي بل وتوجه له أيضا بعض الاهانات احتجاجا على قبوله هذا النوع من الزيجات المدبرة. ورغم رفض نهلة له بوضوح من خلال الحوار الذي يدور بينهما، إلا أنها تشعر بالغضب الشديد والاحباط بعدما يقرر سمير أن يخطب شقيقتها الصغرى “مريم” ويتخلى عنها وتحلم بأنه عاد إليها واعترف لها بخطئه، ثم تزداد عزلتها ووحدتها واستغراقها في أحلامها المليئة بالمشاعر الجنسية التي لا ترتوي قط، لدرجة أنها تستأجر غرفة في شقة مدام جيجي بدعوى أنها ستستقبل فيها حبيبها، لكن الحبيب المنتظر لا يأتي أبدا بالطبع، وتكتفي هي بالاستلقاء فوق الفراش والعيش في أحلامها بل وفي مرحلة ما سيحل محل الحبيب المجهول شاب آخر، جندي يرتدي ملابس الجيش السوري، عنيف وسادي وفظ، يطلب منها أن تقص عليه قصة سيدنا يوسف، فتأخذ في تكرارها مرارا دون أن نفلح في الربط بينها وبين خيالات نهلة والواقع السوري في الخارج.

ربما كانت غاية جيجي تريد أن تقول إن نهلة بكل احباطها وعجزها عن التحقق وممارسة حياتها كما تحب، هي نتاج لمجتمع القهر السوري، لكن هذه تبقى مجرد فكرة طموحة للغاية في سياق سينمائي غامض ملتبس على نحو يستعصي على الفهم ناهيك عن عدم القدرة على الاستمتاع. هناك بعض اللقطات المشغولة جيدا من حيث توزيع الضوء وزاوية الكاميرا وتنسيق المناظر والتكوين. ولكن الفيلم يبدو بشكل عام مقطوع الصلة بالأحداث التي تدور في سورية اليوم وهو موضوع يستغله الفيلم فقط من الخارج من دون أن تنجح المخرجة في جعله مرتبطا بشكل عضوي بشخصية بطلتها المحبطة.

رغم ذلك من الجوانب الإيجابية في الفيلم عنصر التمثيل، فهنا يمكن القول إن منال عيسى في دور نهلة، استطاعت أن تعبر عن جبال الحزن واليأس المبكر الكامن داخل الشخصية، لكن المشكلة انها كانت مضطرة لتكرار التعبير عن المشاعر نفسها بسبب عدم تطور الشخصية في سياق السيناريو، كما تميز كثيرا أداء علا طباري في دور مدام جيجي، بحضورها القوي وقدرتها على التماهي مع الشخصية التي تؤديها. لكن أمام غايا جيجي الكثير لكي تتعلمه وتعمل عليه قبل أن يمكنها إنجاز عمل أكثر تماسكا.

Visited 65 times, 1 visit(s) today