فيلمان سوريان قصيران: تباشير سينما ما بعد الحرب
فعلت المؤسسة العامة للسينما خيراً بإصرارها على عقد الدورة السابعة من مهرجان سينما الشباب و الأفلام القصيرة (25 – 29 يونيو) رغم ظروف انتشار وباء كورونا آخذة بعين الاعتبار الالتزام بقواعد الرعاية الصحية والتباعد الاجتماعي في صالة دار الأوبرا حيث عُرِضَت أفلام المسابقة و صالة كندي دمشق حيث عُرِضَت أحدث إنتاجات المؤسسة من الأفلام القصيرة الاحترافية ضمن تظاهرة خاصة، و يبدو بوضوح أن مشروع دعم سينما الشباب الذي أطلقته المؤسسة سنة 2012 قد أتى ثماره ولو متأخراً مع صدور عدّة أفلام روائية قصيرة متميّزة صنعها سينمائيون شباب تخرّج معظمهم من دبلوم العلوم السينمائية و فنونها، و قد تبلورت دراستهم السينمائية و نَضُجَت خلال سنوات الحرب عبر معايشتهم لأفعالها وتأثرهم بارتداداتها و شهاداتهم على مآلاتها، و تأتي أفلامهم اليوم بلغتها السينمائية الملفتة، و بينها و بين سينما الحرب و ما قبلها قطيعة بيّنة، و بمضامينها الغارقة في أوحال الواقع، بمثابة إعلان صريح و واضح عن سينما سورية جديدة تبحث في أسئلة ما بعد الحرب و قضية الإنسان النافض عن جسده غبارها، الساعي حثيثاً خلف لقمة عيشه حيناً و خلاصه الفردي أحياناً.
فول آيس
ضمن مجتمع منعزل و مكتظ و مفتوح على احتمالات الجنون، هو بار في أحد أحياء المدينة القديمة، يعمل محاسب شاب (خالد شباط) وزميله النادل (همام رضا) و البون بينهما منذ المشهد الأول شاسع، فالنادل لا يتوانَ عن سرقة ما تقع عليه يداه من أغراض الزبائن وأمتعتهم: ولاّعات، ساعات و حتى موبايلات، معتمداً مبدأً فحواه أن السارق من السارق كالوارث من أبيه فرواد البارات في الحرب، وحتى بعدها في ظلّ أوضاع اقتصادية ومعيشية خانقة، هم أناس ميسورون بطبيعة الحال حتى أنهم لا يكلفون أنفسهم عناء السؤال عن أغراضهم التي فُقِدَت، وإن كان هؤلاء قادرون على ارتياد البار و صرف المال على الملذات الشخصية غير عابئين بما يحيط بهم من عَوَز وفقر مدقع فهم بالتالي هدف مشروع للنشل و السرقة، بل إن سرقتهم تكاد تكون فرضاً واجباً!
على العكس من ذلك كلّه، يدحض المحاسب مبررات صديقه و يرفض بحزم اقتراح النادل بمساعدته في زيادة دخله عبر إرشاده لطاولات بعينها يمكن تسجيل مشروبات إضافية إلى فاتورتها يقبض المحاسب ثمنها و يضعه في جيبه، و لكن ذلك كلّه ينقلب رأساً على عقب حين تأتي حبيبة المحاسب (إنانا الراشد) لزيارته في البار.
ورغم رفضه لمجيئها إلى مكان عمله إلا أنها تصرّ على البقاء و تطلب مشروباً ثم سرعان ما تتعرف إلى شاب يبدو أنه ابن رجل أعمال أو متنفّذ ثري (حسن خليل) وتجلس إلى طاولته و تراقصه تالياً على أنغام الصخب والموسيقى بينما يتمزق المحاسب إرباً وهو يراقب ذلك ثم ينفجر ببكاء مكتوم في دورة المياه، أما النادل فلا يفوّت الفرصة فيظفر بولاّعة الفتاة باعتبارها غنيمة سريعة يلّوح بها في وجه صديقه الحانق، وفي اليوم التالي وبعد عتاب سريع يجري عبر محادثة واتسأب بين المحاسب وحبيبته يعجز الأخير عن تصديقها، فمن يقنعه بأنها لم تقضِ ليلتها عند الثري؟
من يقنعه بأنها لم تكن محض غنيمة سريعة كولاّعتها التي انتشلها صديقه بخفّة يده المعهودة؟ يأتي الشاب الثري في السهرة التالية فيصبح هدفاً مشروعاً للمحاسب طالما أن الأمر قد أضحى الآن شخصياً ولم يعد مجرد قضية عامة تتصل بالقيم والمبادئ، والثري قد سَرَقَ الحبيبة أو اشتراها وهي العزاء الوحيد للمحاسب الغارق في أتون العمل والسعي خلف لقمة العيش المغمّسة بالإهانة والذّل، ولكن قلّة الخبرة تفضح صاحبها، ويكتشف الثري تزويراً في الفاتورة ويشتكي لصاحب البار ولكن بدلاً من أن يطرد الأخير مرؤوسه، كما كان يتمنى صاحبنا أو يشتهي، يقول له “إن كنت تريد أن تسرق فاسرق ولكن لا تدعني أعلم”!
وهذا الرجل الذي يظهر منذ البداية عصبياً عَكِرَ المزاج لا يعنيه سوى تدفق الرزق واستمراره بينما يبتسم في وجوه زبائنه قافزاً من طاولة إلى أخرى مجاملاً ومحابياً وسائلاً عن جودة الخدمة! أما بطلنا فيتقدم رويداً رويداً نحو الباب الرئيسي حاسماً قراره بالمغادرة، ولكنه يكتشف أن الباب موصد بإحكام فهذا على ما يبدو فخٌ أو مصيدة أبدية لا سبيل للخروج منها على الإطلاق!
تخرّج مؤلف الفيلم و مخرجه سليم صبّاغ من دبلوم العلوم السينمائية و فنونها كما عمل لسنوات في مجال النوادي السينمائية و تنظيم عروض الأفلام المحلية و العالمية، و يقدّم في فيلمه الروائي القصير الأول هذا رؤية لمجتمع هشّ تتجاوز أزمته حدود الصراع الطبقي بين شريحة تناضل في سبيل الصعود و النجاة من هول و مآسي الفقر و الحرمان و بين شريحة طفيلية مشكوك في مصدر ثرواتها و مطعونٌ بإنسانيتها، وصولاً إلى أزمة كبرى عنوانها العريض اضمحلال القيم و الأخلاق و تلاشيها فالجميع هنا يسرقون بعضهم بعضاً، أناسٌ يُباعون و يُشترَون بينما يتبادلون الابتسامات و المجاملات و يرقصون معاً على أنغام صخب لا يتوقف، بتواطؤ سرّي فيما بينهم على صبغ أفعالهم بأردية المدنية و سوق مبررات لا تلبث أن تسقط سريعاً أمام أبسط امتحان أخلاقي.
وإن كان الفيلم لا يدين شخصياته صراحةً فإنه يشير علانية إلى استحالة النجاة من هذا الواقع الآيل للإنفجار في لقطة أخيرة، وإن كانت تغاير برمزيتها شرطاً مغرقاً بالواقعية بُرِعَ في صنعه، لكنها تأتي منسجمة مع التطور الدرامي للشخصية الرئيسية.
معالجة ذكية و إسقاط مُلفت لأزمة مجتمع بأكمله خرج أفراده لتّوهم من حرب طويلة الأمد، يعزّزها تناغم و انسجام العناصر الفنية بدءً من الممثلين و هم من خريجي الدفعات الأخيرة من المعهد العالي للفنون المسرحية اللذين تتناقص فرص عملهم يوماً بعد يوم بالتزامن مع التراجع الكبير في الصناعة التلفزيونية لكنهم رغم ذلك يشحذون طاقاتهم و يقدمون أفضل ما لديهم في إثبات جديد لموهبة مشهودٌ لهم بها، توظيف واقعي للديكور والصوت في تهيئة المكان و تفاصيله رغم أنه كان بالإمكان استخدام شريط الصوت بفاعلية أكبر لتعزيز التباين والصراع بين البطل وما يجري من حوله، كاميرا متوثبة لا تهدأ حركتها وسط رصد مستمر للفعل و ردّ الفعل، تتنقل بخفّة بين الشاب وصديقه و فتاته، تزيد من وطأة التوتر بالتزامن مع التصاعد و الانقلاب الدرامي عند البطل (مدير التصوير ميّار النوري)، وإن كنا نأخذ على الفيلم طيلة الحوار في المشهد الافتتاحي بين المحاسب و النادل إلا أن ذلك تمَّ تداركه فيما بعد فجاء الحوار عفوياً دون زيادة أو نقصان وفق مقتضيات المشاهد، مع توظيف مدروس للتفاصيل وأبرزها ولاّعة الفتاة التي ينتشلها النادل كما ينتشل الثري صاحِبَتَها أمام عينيّ البطل و هي الصورة التي تتصدر ملصق الفيلم.
يوم عادي جداً
سائق تاكسي شاب (همام رضا) أثقلت ظروف الحياة كاهله فكَبُرَ قبل الآوان، يتجول بسيارته، بذقنه الكثّة وبشعره المبعثر، بحثاً عن زبائن يرتجل على مسامعهم حياة مُتخَيَلة حافلة بالمصائب والمآسي آملاً أن يظفر بليرات إضافية قد يتركونها له بدافع الشفقة.
يجوب السائق الشوارع بعينيّ صيّاد يفتّش عن فريسة و لمّا يضنّ عليه الشارع بالرزق لا يلبث أن يتوسّل المارة عارضاً عليهم توصيلة، وإن كانت طريقته هذه قد أثمرت في البداية مع زبونه الأول و هو مخرج سينمائي شاب (سليم صبّاغ) يترك له بقشيشاً عن طيب خاطر إلا أنه سرعان ما يصطدم بلامبالاة زبائنه التاليين أو فقرهم، فالسيدة الستينية (تماضر غانم) لا تملك رفاهية دفع البقشيش بل تقبض على الليرات القليلة التي في حوزتها و تجادل السائق حول مئة ومئتي ليرة رغم اجتهاد الأخير لكسب تعاطفها.
أما الفتاة العائدة إلى البلد من الغربة (إليانا سعد) فتبدو منفصلة عن الواقع المحيط بها وهي لا تنصت إلى السائق أصلاً بل تغرق في الموسيقى التي تسمعها عبر سمّاعات الأذن في محاولة لصدّ الطاقة السلبية و الانفصال عن موجة الشكوى والتسّول السائدة، و السائق رغم ذلك لا يكلّ ولا يملّ بل يندفع بسيارته بسرعة ثم يضغط على الفرامل لإجبار الفتاة على الإصغاء إليه قبل أن تترجل الأخيرة من السيارة وسط شجار سريع وهي تَلعَن ساعة عودتها إلى البلد وما عاد بها إليها، أما شرطي المرور (فؤاد علي) ببذلته الرسمية و بالبطيخة التي يحملها بيد و بالدجاجة النيئة بيد أخرى، باعتبارهما غنائم سريعة ظَفِرَ بها بعد وقوف طويل في الشارع تحت لهيب الشمس، فيعجز عن إنصاف السائق لمّا يتعرض لحادث من سيارة تقودها زوجة رجل متنفّذ، حتى أنه يرفض دفع الحساب بعد أن يوصله السائق إلى بيته بل ويهدّده بتسجيل ضبط في حقّه واقتياده إلى فرع المرور نظراً لمخالفاته الكثيرة منها عدم التزامه بحزام الأمان رغم أن هذه المخالفات لم تجعله يتوانَ في البداية عن الصعود إلى السيارة.
أما السائق فيبدو أمام البذلة الرسمية خائفاً ومسحوقاً ومتخلّياً عن كامل حيله وأساليبه مندفعاً نحو الاستكانة والصمت خشية العقوبة التي تنتظره إن أصرَّ على المطالبة بحقّه! هكذا يصطدم السائق بخيبات متتالية رغم مهاراته التي صُقِلَت مع الزمن في إثارة العطف والشفقة، وتصل الأمور إلى ذروتها عندما يعرض توصلية على رجل ستيني (محمد وحيد قزق) يوحي مظهره الخارجي بالرصانة والاتزان لكنه في الحقيقة مجنون أو مُصاب بلوثة عقلية فهو لا يعرف إلى أين يذهب ولا يُفلح سوى بترديد جمل متفرقة حفظها عن ظهر قلب، تارة يتحدّث عن ترخيص لفتح كشك في الطريق وتارة يتحدّث عن إبريق ماء يغلي فوق الغاز! هكذا تصطدم حيل السائق و أساليبه بجدار أصمّ و بجنون يفوق جنون الحيوات المُتَخَيَلة التي يقذف بها على مسامع زبائنه الغلابة، وتتلاشى آلامه و همومه و تبدو بلا قيمة وسط الجنون الماثل أمام ناظريه، و حين يقرر مساعدة العجوز و يترجل من السيارة لإيصاله إلى منزله القريب، يتهمه الرجل بالسرقة ويتجمهر المارة حول السائق باعتباره متهماً قبل أن يخلّصه مُتَّهِمَهُ من ورطته هذه في لحظة صحوة ضمير سريعة فيعود صاحبنا إلى سيارته و يغرق ببكاء مكتوم في لحظة إدراك حقيقي لما يحيط به، حتى أنه لم يعد مهتماً بالبحث عن الزبائن اللذين يمرّون جوار سيارته ويطلبون منه توصيلة فيرفض للمرة الأولى دون أن ينظر في وجوههم، قبل أن يتمالك أعصابه وينطلق بزبون جديد ماسحاً دموعه و ململماً أشلاء وجدانه المُبَعثر.
يبدو الفيلم للوهلة الأولى وكأنه مشاهد صّوِرَت بمحض الصدفة وبأقل قدر من التدّخل على الصعيد الشكلاني أو الجمالي، ثم أعيد توليفها وفق رؤية مُشبعة بهموم الواقع ومآزقه المستعصية، وساعية إلى إعادة تقديمها باعتبارها شهادة حول مدينة خرج سكانها لتّوهم من حرب ضروس مُثقلين بأزمات نفسية واقتصادية مزمنة. كاميرا محمولة تُذيب الحدود الفاصلة بين الروائي والتسجيلي بينما ترصد رحلة السائق في يومه العادي بحثاً عن رزقه بعيداً عن الزخرفة الجمالية أو الغرق في البنية السحرية على عادة معظم الأفلام السورية القصيرة (مدير التصوير ميّار النوري). موهبة كبيرة وأداء طازج يسفر عنهما بطل الفيلم النقاب وهي موهبة معجونة بلا شكّ بمعايشة حقيقية ويومية لشخوص من لحم و دمنصادفهم كل يوم في شوارع المدينة و أزقتها (همام رضا).
درس أنس زواهري، مؤلف ومخرج الفيلم، في دبلوم العلوم السينمائية وفنونها، ويأتي فيلمه الروائي القصير الأول هذا بمثابة اكتشاف سينمائي مدهش، وإن كانت موهبة مخرجه قد تبلورت عبر الدراسة الأكاديمية، إلا أنها بلا شكّ حصيلة مشاهدات سينمائية كثيرة أثمرت عن ترجمة أكثر من مئة فيلم نقلهم أنس إلى اللغة العربية بشكل تطوعي أو بأجر رمزي أحياناً.
مشروع دعم سينما الشباب
أُنتِجَ هذان الفيلمان ضمن مشروع دعم سينما الشباب لسنة 2019 وسط ظروف إنتاجية صعبة فقيمة المنحة تتراوح بين ثلاثمئة إلى خمسمئة ألف ليرة سورية كما أن المؤسسة تخصّص، حسب علمنا، يوماً واحداً لتصوير الأفلام ضمن هذا المشروع.
ولا شكّ أن إنجاز هذين الفيلمين ضمن هكذا ظروف يُحسَب لصنّاعهما اللذين و إن أثبتوا موهبة واعدة إلا أنهم يبشرون في الآن نفسه بسينما جديدة تنهل من الواقع و تعيد صياغته وفق رؤية تبلورت عبر سنوات الحرب المرّة حتى امتلأت وصارت تتوق للتعبير ببلاغة واقتدار.
ورغم الانتقادات الكثيرة التي وجهها متابعون كثر لمشروع دعم سينما الشباب بسبب تواضع مستوى الكثير من الأفلام المُنتَجة في إطاره، إلا أن عدداً كبيراً جداً من الأفلام لا يزال يُنتَج كل عام، إذ يشارك في المسابقة الحالية للمهرجان على سبيل المثال حوالي 25 فيلماً روائياً قصيراً معظمهم لا يرقَ للمستوى المأمول، ونحن بدورنا و إن كنا نثّمن جهود المؤسسة في تقديم منح إنتاجية للسينمائيين الشباب، إلا أننا نجدّد الدعوة إلى خفض عدد الأفلام المُنتَجة لصالح رفع الميزانيات بما يكفل مزيداً من الجودة الفنية و في اعتقادنا أن إنتاج عشرة أفلام جيّدة أفضل من إنتاج ثلاثين فيلماً متواضعاً.