“فيلا 69”: سحر الماضي والخروج إلى الحاضر

Print Friendly, PDF & Email

كل منا له ماضيه الخاص الذي يعيش ويتعايش معه وفي أحيان كثيرة يصبح هو الرفيق الأكثر صدقا في التعبير عن أنفسنا، وكثيرا ما يصبح كالأم الحنون التي “تطبطب” على ولدها في أوقات ضعفه.

 تلك هي الحاله التي صنعها “فيلم فيلا 69” للمخرجه أيتن أمين في أول تجاربها الروائية الطويلة بعد نجاحها في مشروع تخرجها بعنوان “راجلها” والذي أحدث ضجة كبيرة لجرأته وحصل على الكثير من الجوائز في عدد من المهرجانات التي عرض بها، ثم تجرتها الثانية في الجزء الخاص بها بعنوان “الشرس” (الضابط) في الفيلم الوثائقي التي اشتركت فيه مع المخرج عمرو سلامه والمخرج تامر عزت وهو فيلم “الطيب والشرس والسياسي” الذي يعبر عن ثورة يناير والذي حصل على جائزه أفضل فيلم في مهرجان أوسلو السينمائي الدولي بالنرويج 2011، كما حصل حصل على جائزة المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم، اليونسكو وذلك في مهرجان فينسيا السينمائي الدولي.

رمزية الفيلا

تلك التجارب قد أعطتها خبرة نضحت بها على الشاشة وجعلتنا نعيش حالة سينمائية رائعه وراقية في فيلمها الطويل الأول “فيلا 69”.. فحسين – الذي يقوم بدوره خالد أبو النجا بمنتهى البراعة، يبدو وكأنه بالفعل رجل خمسيني يحمل تجارب وخبرات كثيرة (كان مقررا في البداية أن يقوم بالدور رجل تجاوز الخمسين فعلا هو الفنان محمود حميدة).. ذلك الرجل الخمسيني الذي يحمل في طياته الكثير من الخبرات والذكريات التي يرفض ان يشاركه فيها أحد، تزوج مرتين ولكنه لم يوفق في كل زيجه ولم ينجب أطفالا فعاش وحيدا بسبب مرض خطير لا يفصح صناع الفيلم عنه طوال سير الاحداث فهو يجرد البطل من نوعيه مرضه فأيا كان المرض الذي يعاني منه فهو تعبير عن الآلام البشرية التي كثيرا ما تجبر الانسان على الانعزال عن العالم الذي يعيش فيه وتجعله يذهب بعيدا ويتشرنق حول عالمه الخاص الذي يجد فيه نفسه ومتعتها فيفرح كالطفل باشيائه التي يعشقها لذلك اُجبر حسين (مجبر باراداته) على العيش وحيدا في فيلته يمارس حياته بطريقه طبيعي، وكأنه لايعاني من أي مرض فهو يرسم تصميماته الهندسية ويرسلها الي المكتب مع أحد المهندسين الشباب الذي ارتضى حسين ان يجعله خليفته، ينقل له خبرته العملية ونصيبه في المكتب بعد مماته، يعيش حياة ساكنة رتيبة يرتب كتبه بمعاونة خادمه الخاص، يسجل أسماء تلك الكتب في دفتره الخاص ويرتبها بشكل منظم في مكتبته، يرفض أن يحرك أحد شيئا من مكانه أو ينظف أي جزء في بيته فهو يريده كما هو بترابه، يعيش مع هلوسات تتتمثل في ثلاثة اشخاص من السبعينيات الماضية، من فترة شبابه التي لا يريد ان يخرج منها.. ولكن يضعف السيناريو في تبريرها فتظهر كالجملة الاعتراضية دون أدنى تفسير وكان ينبغي أن يجد لها السيناريو تفسيرا دراميا.

هو يعتبر فيلته الخاصه حصنه المنيع في الدفاع عن ماضيه والتي ورثها عن ابيه وصمم على الاحتفاظ بها من عبث الحاضر وماديته التي تمثل جزءا منها اخته “نادرة” – تقوم بدورهها لبلبة- التي ترغب في بيعها لهدمها وبناء احد الابراج السكنية مكانها، وذلك كما فعلت في بيتهم في الاسكندريه.

العلاقة مع الشباب

 ورغم حياته الساكنة التي اختارها بنفسه ليعيش مع ذكرياته حتى يقضي الله أمره فان طبيعة الكون لا تعطي الانسان فرصة في الوقوف امامها وفي تطبيق قوانينها فالتغيير حتمى ويتسلل الي حياتنا في كثير من الاحيان بطريقه همجية فبرغم انه اتخذ من بيته حصنا منيعا ضد الحاضر وتغيراته الا ان نور الشمس لايترك الفيلا، ويدخلها من كل جانب ومع ذلك فاضاءة المكان القيم يزيد الجمال جمالا، هذا الي جانب دخول اخته وحفيدها ذو الـ18 عاما في حياته بحجة انها تقوم بطلاء بيتها ولا تجد مكانا خيرا من بيت ابيها لتنتقل اليه مؤقتا لحين انتهاء العمال من عمليات الطلاء فيدخل حياته حفيدها الذي يمثل له الحاضر الذي تركه منذ زمن بعيد فالشاب مراهق ليس لديه تجارب في الحياه تعينه على السير في طريق لا يجد له ملامح، يدخن الحشيش ويشاهد افلام الجنس الاباحية، ولكن بمجرد علم البطل ان الشاب يدخن الحشيش يطلب منه ان يتذوقه وعلى الفور يبدي شعوره بالقرف من رداءة الصنف، ثم يقدم له “قطعة حشيش” قديمة كان يحتفظ بها.. فحتى المزاج في الماضي كان له طعمه الخاص وله متعته التي وجد فيها الشاب مع صديقته طعما ومذاقا خاصا.

 حتى الموسيقى التي تؤثر في وجدان اي انسان طبيعي فان القديم منها له متعته الخاصة.. فهو يحتج على رداءة الموسيقى والأغاني المستخدمة في التدرب على مسرحية من طرف الحفيد الشاب وزملائه في الفيلا، فحسين يدخل عليهم ويقول بجرأته وسخريته  التي تصل في كثير من الاجيان إلى “قله الذوق” التي تعود عليها كل من حوله “ايه القرف اللي بتغنيه ده” ثم يطلب منه أن يأتي بالعود من الدولاب – فكل شئ جميل وقديم ذو قيمه قد احتفظ به داخل الادراج والدولاب – ثم يعزف عليه.. ووراءه تبدأ الفرقه في العزف خلفه في تعبير عن أنه من الممكن ان يتداخل الماضي بقيمته مع حداثة الحاضر.. وفي هذا التكامل تُخلق المتعه فالاحتفاظ بالماضي وتقديره مع الاندماج في الحاضر دون نسيان الماضي يمكن ان يصنع المرء بهجه ومتعة.

ديوان الشعر

وعندما يهدي حسين ديوان شعر للشاب يكون هذا تعبيرا دراميا رائعا يظهر تطور شخصية البطل في تنازله عن انانيته (كما سبق وأعطى طاقم الأطباق الصيني للممرضة التي تعطي له الدواء لكي تتذكره هي وزوجها فهو يريد ان تعيش ذكراه في عقول ووجدان من حوله برغم عدم اهتمامه الذي يبديه لهم ظاهريا). إنه يعطيه ديوان الشعر لكي يقرأه لصديقته التي يحبها – رغم انه صعب القراءة فالتعبير عن الحب بقيمة الماضي قد يكون من الصعب على شباب الحاضر- وقد كان لا يجد منها اي رد فعل طوال فتره علاقتهما حتى صرحت له بأنها تعتبر نفسها صديقته ولا شئ غير ذلك، ولكن بتوجيهات حسين ذي الخمسين عاما صاحب الخبرات النسائيه الكثيرة.. فان الفتاة تستجيب لرومانسية الشاب وتمسك بيده ويتوجها سويا الي احد اسوار الفيلا التي تقع على شاطئ النيل في تعبير عن الحب.

ومع كل محاولات حسين في السباحه ضد تيار الحاضر والتشرنق حول ماضيه فهو يختار في النهايه الخروج من بيته ويطلب منه الشاب (حفيد اخته) ان يذهبا معه فيوافق ويخرجوا جميعا في سيارته القديمة التي ورثها عن ابيه يمشي في شوارع القاهره ويجوب في وسطها.

اذا كانت أيتن أمين قد حصلت من قبل على جوائز عن أفلامها القصيرة فمن الطبيعي أن تحصل على جائزهلجنه التحكيم في مهرجان أبوظبي السينمائي، كما أرى انه بجانب أداء خالد ابو النجا الرائع فان الديكور لايقل بطولة عن دور البطل، كما لعبت موسيقى واغاني عبد الوهاب التي بدأ الفيلم بها ” كان اجمل يوم” دورها في إضفاء المسة الحنين الي الماضي وسحره.

أتمنى أن يغير فيلم فيلا 69 وغيره من الأفلام المستقلة مفاهيم كثيرة تعودنا عليها وأن تثور في وجهه السينما التقليدية.

* كاتب سيناريو من مصر

Visited 54 times, 1 visit(s) today