فنُّ الدَّبلجة بين العاميَّة والفصحى

لقطة من فيلم "عمر المختار" لمصطفى العقاد لقطة من فيلم "عمر المختار" لمصطفى العقاد

الدَّبلَجَة هي عمليَّة يقوم فيها المُدبلِج بإبدال الشريط الصوتيّ لعمل فيلميّ بشريط صوتيّ بلغة أخرى. وتقتصر عمليَّة النقل والإبدال على نوعَيْن من أصوات العمل: الحوار وبعض المؤثرات الصوتيَّة. وعمليَّة الدبلجة من مُلحقات العمل الفيلميّ والسينمائيّ، بل الفنيّ عمومًا.

فالمُشاهد العربيّ لا يرى كل الإنتاج الفنيّ غير العربيّ إلا عن طرق ثلاث -لا رابع لها-: أنْ يكون عارفًا بنفسه بلُغة العمل الأخرى، أنْ يشاهد العمل مصحوبًا بالترجمة، أنْ يشاهد العمل مُدبلجًا مُستبدَلاً فيه أصوات الآخرين بصوت ابن لغته. وهي قائمة مقام الترجمة في مجال الكتب، ولا حاجة لمزيد تعريف بفوائدها العديدة وقيمتها التي تستطيع أن تقدِّمها بعد هذا التوضيح.

ودائمًا هناك حوار بين صانعي هذه العمليَّة والمتابعين لها حول سؤال: هل نُدبلج بالفصحى أم بالعاميَّة؟ (أيْ بلهجة كلّ بلد). وكانت قد انطلقت حملة قوية منذ سنوات تدعو لعودة دبلجة وإنتاج أفلام “ديزني” باللهجة العاميَّة المصريَّة، بديلة عن اللغة العربيَّة الفصحى.

وقد تعلل مُطلِقو الحملة بجودة الأفلام باللهجة المصريَّة وقُربها من المشاهدين، على خلاف الحال عند إخراجها بالفصحى -على حسب كلام مطلقي الحملة-. وقد برهنوا على ذلك بعرض مَشاهد أو قطع من مشاهد، من الفيلم نفسه؛ مرةً باللهجة العامية، ومرةً أخرى باللغة العربية الفصحى تثبت صحة كلامهم وتبين كيف كانت جودة المُنتج واقترابه من الجماهير عندما كان يدبلج بالعامية المصرية.

ولعلَّ الداعين إلى هذا قد وُفقوا تمامًا في اختيار بعض المشاهد. فإنها حقًا جاءت بالعامية أقرب للمشاهد، وأكثر تأثيرًا فيه، وجاءت إخراجيًّا أنجح، ودراميًّا أوفق مع الشخصيات التي قد مثلتها.

ولكنْ هل هذا يُكسب الصحة للرأي القائل بضرورة الدبلجة باللهجات لا بالفصحى؟ .. دعونا نطرح أسئلة نقاشيَّة توضح محل النقاش وتبلِّور الموضوع كلَّه للوصول إلى نقاش أقرب للعقل والعِلم لا للتعصب في الرأي.

أولًا: لماذا كانت الأفلام تدبلج باللهجة العامية؟

يجب أن نعود إلى ظروف هذا العصر؛ فقد كانت مصر –إلى سنوات قريبة جدًا- هي العاصمة الفنيَّة للوطن العربيّ كله. حيث كانت تسيطر رُوحيًّا على الإعلام العربيّ، وكانت -ومازلت- اللهجة المصرية هي الأكثر سهولة ووسطيَّة بين اللهجات العربية الأخرى. وأيضًا كان معظم مشاهير التمثيل والغناء من المصريين، فكان الوطن العربي كله يشاهد هؤلاء فقط دون غيرهم. وكانت الأفلام تخرج بالأصوات التي ألفها الناس.

ثانيًا: هل معنى هذا أنَّها الأقرب إلى النفوس؟

القُرب من النفس يأتي من أمور عديدة منها الاعتياد والألفة، وليست المحبة فقط هي التي تجعل الأمر قريبًا من النفس أو مُتقبَّلاً. والناس كانوا قد أحبوا واعتادوا أن يستمعوا إلى تلك الأصوات الشهيرة، من أمثال: “عبد الرحمن أبو زهرة”، “محمد هنيدي”، “سهير البدراوي”، “عبلة كامل”.

وللبرهنة على خطأ أنَّ لهجة بعينها هي الأقرب دومًا إلى القلوب دعونا نتذكر تجربة اللهجة السوريَّة في دبلجة المسلسلات التركيَّة عندما اقتحمت مجال الدبلجة بقوة في السنوات الأخيرة. فقد أثرت بقوة في الذوق العام، واستطاعتْ أن تكسر حاجز اعتياد سماع المصريَّة، واستطاعتْ أيضًا كسر حدّ الألفة فصارت هي نفسها أقرب إلى السماع، واستطاع الناس فهمها، بل بدأوا يشعرون بأنها الأجمل في الأعمال المُدبلجة، وزاد الأمر إلى أن أدخل العرب في كلامهم بعضًا من مفردات وتعابير اللهجة السوريَّة إلى كلامهم العاديّ.

ما دلالة هذا؟! يدلُّ هذا على أنَّ سرَّ “الاقتراب من النفس” هو الاعتياد؛ الذي يخلق -وحده ولطبيعة الإنسان- حالة “الألفة”. وكان متحققًا في السابق في العامية المصرية، والآن يتحقق في العامية السورية، وسيتحقق في أيَّة لهجة أو لغة متى اعتادت الأسماع عليها. فمسألة القرب ليست حكرًا على لهجة دون أخرى.

ثالثًا: فما الذي جعل الأفلام باللهجة المصريَّة -كتجربة دبلجة- أنجح في بعض الأحيان؟!

يعود هذا لعدة أسباب. منها:

  1. ميزانيات الإنتاج: حيث كانت تدبلج هذه الأفلام بميزانيات كبيرة جدًا. مما كان يسمح باستقدام الكثير من ذوي الخبرة والمهارة والشهرة في كل مجالات صناعة الدبلجة، فخرج العمل في إطار من الجودة المشهودة.
  2. الاعتماد على المشاهير من الممثلين، والممثلين الصوتيين (أيْ الذين يمثلون بأصواتهم فقط) الذين يساعدون على انتشار العمل وارتفاع نسبة المشاهدة بشدة. وهناك الكثير من الأفلام والمسلسلات الكرتونية تدبلج بالعاميَّة المصريَّة بغير المشاهير حتى اليوم ولا يلتفت لها أحد.
  3. الكفاءة الإخراجيَّة؛ حيث لم يكن يخرج المواد الصوتيَّة إلا المخرجون المؤهلون لمثل هذا العمل. فيستطيع أن ينقل لك الفيلم بكل دقائقه، اعتمادًا على ممثلين مهرة قادرين على الأداءات التمثيليَّة المختلفة.
  4. فضلًا عن كون حرفة “الدبلجة” فيما سبق حرفة هامة ومجالًا معتبرًا في حد ذاته، وفنًّا منفصلًا عن غيره من فنون الأداء. لدرجة أنَّ الكثير من الممثلين والمخرجين انقطع للعمل في هذا المجال دون أن يشركه بغيره من المجالات الأخرى؛ بسبب توفر الاعتبارَيْن: الماديّ، والمعنويّ. ولعلَّ العنصر الأبرز هو “العامل المادي” الذي يمثل السرّ وراء التفاصيل الأخرى.

رابعًا: هل يتوفر هذا في مجال الدبلجة الآن؟

وهذا على عكس الحال الآن تمامًا. حيث:

  1. أصبحت الميزانيات المرصودة لمثل هذه الأعمال ضئيلة جدًا. ولا يستطاع معها أبدًا مجاراة ما كان يحدث سابقًا. لدرجة لا تسمح للعمل المدبلج بالخروج بالجودة المطلوبة، أو في سياق الجودة أصلًا.
  2. لم يعد يشترك في دبلجة هذه الأفلام الممثلون المشاهير، ولا حتى مَن يمثلون صوتيًّا ويمتلكون الكثير من المهارة؛ لأنهم يطالبون بالكثير من المطالب الماديَّة. واضطر المنتجون بالاستعانة بالموجود من الممثلين، حتى إنْ افتقدوا للكثير من عناصر المهارة التمثيليَّة، مما يظهر أثره واضحًا في العمل النهائيّ.
  3. الإخراج الصوتيّ أصبح مهملًا جدًا؛ لدرجة لم يعد للمخرج في المجال الأهمية السابقة، بل لمْ يعد يستقدم مخرج في الكثير من عمليات الدبلجة ابتداءً.
  4. بسبب الانخفاض الحادّ في الميزانيات لم تعد مهنة الدبلجة ذات مكانة (بالقطع هناك أسباب عديدة أخرى لتراجع المهنة لكنْ يقتصر الحديث هنا على السياق) كما في السابق. وتركها الكثير ممن تخصص فيها، أو قلَّ نشاطه بشدة عن ذي قبل.

خامسًا: هل الفصحى مختلفة؟

وهنا تجدر الإشارة إلى نقطة في غاية الأهميَّة في مسألة إنتاج الأعمال بالفصحى عمومًا؛ وهي عدم تقدير الاختلاف في تنفيذ الفصحى عن تنفيذ اللهجات من قِبل مُنتجي هذه الأعمال والقائمين عليها. فإذا أردت أن تدبلج بالفصحى فيجب عليك أن تُسند الأمر للقادرين على أدائه؛ فإنْ كان كلُّ الممثلين قادرين على التمثيل بالعاميَّة فليست الحال كذا في الفصحى. فالأمر مختلف قليلًا ويحتاج إلى إدراك الفارق في المستويات التالية:

  1. الترجمة والإعداد يجب أن يكونا قادرين على الكتابة وإعادة تصنيع العمل وفق الفصحى؛ والقصد من هذا أنَّ غالب مَن يقومون بالإعداد بالفصحى يستخدمون “رُوح العاميَّة” في العمل ولا يدركون أنَّ للفصحى “رُوحًا” يجب أنْ تصنع العمل بها وتُشيعها فيه. ونتيجة لهذا الخلط ونتيجة لاستخدام ما يُسمَّى “تمييع الفصحى” أيْ تعلية العاميَّة حتى تُشابه الفصحى شكلاً وحسب تخرج الأعمال بالغة الرداءة غير قادرة على إحداث الأثر لدى المُشاهد (خاصةً في فنّ الكوميديا). وهذا العنصر به الكثير من الحديث والنقاش الذي يحتاج للشرح.
  2. التمثيل فليس كل مَن مثَّل بالعاميَّة يستطيع أن يمثل بالفصحى. وكما توفر للدبلجة اللهجيَّة مَن يستطيع أداءها، وفِّرْ للفصحى مَن يستطيع أداءها ثم احكم على مدى قربها منك، ومدى إيصالها للمادة المُمثَّلة.
  3. الإخراج عنصر بالغ التأثير؛ فيجب على مخرج المواد المدبلجة بالفصحى أن يمتلك عدة مهارات لا تتوفر في أغلب من يتصدى لهذا المجال الآن. كي يستطيع أن يوصل الإحساس، ويضبط الأداء الذي يتلاءم مع الفصحى.

سادسًا: المشكلة ليست مشكلة لغة أصلاً:

من يقُلْ إنَّ اللهجة العاميَّة المصريَّة هي التي تجعل العمل يتصف بالجودة والقرب من الناس يُغفلْ أنَّ:

  1. عنصر الصورة هو أحد أهم العناصر في مشاهدة المواد المدبلجة، بل هو العمل ذاته. غير أنك تبثُّ فيه الروح بالصوت.
  2. ليست العاميَّة دليلًا على النجاح أبدًا؛ فهناك الكثير مما دُبلج بالعاميَّة ويدبلج ولم يلتفت له أحد، ولم يثر أيَّ انتباه.
  3. الأعم الأغلب من الأعمال المدبلجة -خاصة الكرتونيَّة منها- قد خرج بالفصحى، ولأنه كان يمتلك عناصر النجاح نجح نجاحًا ضخمًا. فمَن منَّا ينسى النجاح الأسطوريّ لمسلسل “المحقق كونان” أو “سبونج بوب” الذي غزا العالم العربيّ كله، ومَن لمْ يتربَّ على حلقات “كعبول الأكول” وكرتون “الفواكه” وغيرها الكثير جدًا.
  4. العمل الجيد جيد، ولا دخل للهجة أو اللغة فيه. فإنَّ عنصر الجودة لا يشترط لغة ولا لهجة. العمل الجيد باكتمال عناصره، والعمل غير الجيد هو العمل المفتقر لعناصر الجودة فيه. وكم من عمل بالعاميَّة سقط سقوطًا لا مثيل له، وكم من عمل بالفصحى نجح نجاحًا لا مثيل له. والعكس صحيح في الحالتين.

سابعًا: لماذا ندبلج بالفصحى؟!

هناك عدة اعتبارات ذات قيمة تدعونا إلى استمرار الدبلجة باللغة العربيَّة الفصحى. منها:

  1. الفصحى لغة للجميع، ولا تقارنها لهجة من اللهجات. فأنت إذا تحدثت بها فهمك شعوب اثنتين وعشرين دولة في العالم، وعشرات الملايين في غير هذه الدول بلا خلاف. وهذا ما لا يتوفر في أيَّة لهجة أخرى مهما بلغت من حد الشهرة والذيوع.
  2. الفصحى لغة مدرجة ومعتبرة عالميًّا، والترجمة والنقل منها وإليها أفضل وأيسر من اللهجات كثيرًا.
  3. البُعد التربويّ: فنحن عندما نخرج الأفلام والمواد المدبلجة بالفصحى نربي أجيالًا على اللغة العربية. وبعيدًا عن محتوى تلك المواد، فإنَّ مجرد سماع الطفل للغته الأصليَّة يغذي فيه فهمها والتعود عليها واستخدامها في حياته. وذلك لا يتوفر عندما نخرجها باللهجات؛ فحتى إنْ فهمها الطفل من غير دولة اللهجة فلن يستخدمها في حياته مع غيره من البشر.
  4. البُعد الثقافيّ: إخراج الأعمال والمنتجات الثقافيَّة بالفصحى يغذي من الرابطة الثقافيّة بين هذه الدول، ويؤصّل لها. كما أنه يوسع من مدارك الطفل وينمي ثقافته ووعيه. ولا بُدَّ لنا أن نعرف أنَّ اللغة من وظائفها الأساسيَّة أنَّها ناقلة ثقافة عُظمى لا أداة للتواصل وحسب.
  5. الإعلاء من الذوق العام؛ فإذا كُنَّا جميعًا نعاني من مشكلة انحطاط الذوق العام، فليس من مصلحة أحد أن ننحي اللغة الفصحى، ونغرق في استخدام اللهجات أبدًا.

وأظنُّ-بعد كل ما سبق- أن للأمر أبعادًا أخرى يجب أن نراعيها عندما نفكر في مستقبل صناعة الدبلجة لدينا.

Visited 150 times, 1 visit(s) today