فلسفة نيتشه كما تتبدى في فيلم”أنواع اللطف” ليورغوس لانثيموس

قد لا يلتقي الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه والمخرج اليوناني يورغوس لانثيموس في الزمن والمجال، لكن مشاهدة أفلام لانثيموس تمنحنا شعورًا بأن أفكار نيتشه وجدت طريقها إلى الشاشة، ولو بشكل غير مباشر. ولد نيتشه سنة ١٨٤٤ في مدينة روكن الألمانية وتوفي سنة ١٩٠٠، تميز بنقده الحاد للدين والأخلاق والمجتمع، وبقراءته العميقة للإنسان. دعا إلى ضرورة تجاوز الإنسان لضعفه وصياغة معنى جديد لوجوده عبر إرادة القوة، ممهدًا الطريق لفكرة “الإنسان الأعلى” التي شكلت إحدى أكثر المفاهيم إرباكًا وإلهامًا في الفكر الحديث.

في المقابل، يقدّم المخرج اليوناني يورغوس لانثيموس المولود سنة ١٩٧٣، سينما تجريدية تتعامل مع الصورة كأداة لبناء عوالم رمزية تتجاوز الواقعية، ويصعب حصرها في اتجاه سينمائي واحد. شخصياته غالبًا ما تبدومتأرجحة بين الخضوع والتمرّد، بين الحيوان والإنسان الأعلى، في صورة بصرية تستحضر قلق نيتشه وأسئلته حول المعنى، الحرية، والمصير. كما تتميز سينماه بأنها لا تبحث عن محاكاة الواقع، بل عن تفكيكه وإعادة صياغته بلغة الرموز والاستعارات، بحيث يبدوكل فيلم مرآة لفكرة فلسفية تتجاوزها.

تُعد فكرة الإنسان الأعلى، الفكرة الرئيسية في كتاب نيتشه “هكذا تكلم زرادشت”، وهي فكرة تتكرر كثيراً في سينما لانثيموس. ويشير المصطلح، إلى النوع الجديد الذي سيُولد من خلال تجاوز الإنسان لنفسه، بحيث يكون قادرًا على سيادة نفسه وتشكيلِ مصيرهِ دون الخضوعِ لأي قيودٍ خارجية. والإنسان كما يراه نيتشه ما هوإلا “حبلٌ معقودٌ بين الحيوان والإنسان الأعلى”1. وهكذا، فإن كل إنسان يعجز عن بلوغ هذا المستوى، ويظل أسيرًا لضعفه وخضوعه، لا يختلف في جوهره عن الحيوان.

هذه الفكرة المحورية تبرز بوضوح في فيلم لانثيموس « kinds of kindness » الصادر سنة 2024، والذي يروي ثلاث قصصٍ مختلفة تعكس ثلاثة أشكالٍ من الخضوعٍ الطوعِي.

 في الفصل الأول، يخضع روبرت (جيسي بليمنز ) بشكلٍ كامل لرئيسه في العمل ريموند (وليام دافو)  ، الذي يتحكَّمُ في أدقّ تفاصيل يومه: مواعيد النوم والطعام، علاقته مع زوجته التي اختارها له بنفسه، وحتى إجهاض جميع أطفاله. وعندما يتمرّد روبرت  ويرفض قتل شخص مجهول، ينفصل جزئياً عن ريموند؛ ليجد نفسه في مواجهة فراغٍ وجوديٍ يجعله غير قادر على الاستمرار دون أوامر. وفي النهاية، يُنفذ الجريمة ويعود طوعًا إلى سلطة ريموند. هذه القصة تطرح سؤالًا نيتشويًا بامتياز: هل جميع البشر مهيأون للحرية؟ أم أن البعض بحاجة دائمة إلى سلطة تُسيّرهم، لأنهم عاجزون عن احتمال العيش وفق قيم يصنعونها بأنفسهم؟ عند نيتشه، كما جاء في كتابه  »غسق الأوثان « ، الحرية لا تعني غياب القيود فحسب، بل تُقاس بمدى القدرة على المقاومة، وبالجهد الذي يتطلبه البقاء في مرتبة المتفوّق. والحرية الحقيقية، وفقًا لتعريفه، هي »أن يكون للمرء إرادة المسؤولية عن النفس2 «، وأن يقوى على مواجهة ضعفه والتغلب على ذاته. لكن “روبرت” يعجز عن بلوغ هذه المرتبة؛ إذ يكشف تمرده القصير أنه غير قادر على احتمال ثقل الحرية، فيعود أدراجه إلى الخضوع.

في الفصل الثاني، يتجسد الخضوع هذه المرة من خلال العلاقة العاطفية والزواج. دانيال (جيسي بليمز ) ، شرطي فقد زوجته ليز ( ايما ستون)  في البحر، تفاجئه بعودتها الغامضة بعد فترةٍ من الغياب. غير أن دانيال يرفض تصديق أنها هي زوجته فعلاً، ويشكُّ بأنها امرأة تنتحل شخصيتها. ولِيحسم شكَّه، يضعها أمام اختبارٍ مرعب، يطلب منها أن تطهوله كبدها لأنه جائع؛ تستجيب ليز، وينتهي بها الأمر ميتة. غير أن ما يجعل هذا الفصل أكثر رمزيةً هوالحلم الذي روته ليز قبل موتها عن الجزيرة التي يحكمها الكلاب؛ والمشهد الختامي الذي تظهر فيه كلاباً تؤدي أدوارًا بشرية. هذه الاستعارة البصرية تقرّبنا مجددًا من تصور نيتشه، إذ توحي بأن الشخصيات التي تبدوبشرية في ملامحها لم تكن في جوهرها بشراً، بل أقرب إلى حيواناتٍ عاجزة عن تجاوز ذاتها والعبور نحومرتبة الإنسان الأعلى.

الفصل الثالث، وهوالأطول بين فصول الفيلم. ينتقل مركز السلطة إلى طائفة دينية غريبة تفرِض على أتباعها قوانين صارمة وطقوساً عبثية، كقطع الصلة بالماضي، وشرب مياه استحمام الزعيمين بدل الماء، واحتكار الجسد والروح معًا. ورغم لا معقولية هذه الطقوس، يقبل بها الأتباع كأنها جزءٌ طبيعيٌ من حياتهم. هنا تؤدي  ( إيما ستون)  دور إيميلي، إلى جانب ( بليمنز )  في دور أندرو، وهما من أتباع الطائفة المكلّفين بالعثور على امرأة تملك قوة خارقة تتمثل في إحياء الموتى. لكن أثناء أداء المهمة تتعرض إيميلي للتلوث وتُطرَد من الجماعة. فتجد نفسها خارج النظام الذي كان يمنحها هوية ومعنى. وهنا يصبح الخروج من الطائفة بمثابة مواجهة مباشرة لفكرة “موت الإله” عند نيتشه وانهيار المرجع المطلق الذي كان ينظم الحياة. وفي سبيل استعادة مكانتها ضمن الطائفة، تُقدم ايميلي على خطف المرأة المنشودة، غير أن مسعاها لا يكتمل بسبب حادث على الطريق يودي بحياة هذه الفتاة. وهكذا يُذكّرنا لانثيموس بما حذر منه نيتشه،  وهوحين يعجز الإنسان عن تحمل الحرية وصناعة معنى خاص به، يسقط في العدمية ويلجأ إلى أوهام جماعية تُخدّره عن مواجهة فراغ ما بعد موت الإله. وكأن الفيلم يقول لنا إن الإنسان، إن لم يتجاوز ذاته في اتجاه الإنسان الأعلى، سيظل أسيرًا لأصنام جديدة تمنحه وهم الطمأنينة.

وبهذا، ما يطرحه لانثيموس في فيلمه « Kinds of Kindness » ليس مجرد سرد غرائبي أوعبث بصري، بل هوتفكيك لأسئلة نيتشوية عميقة حول الحرية، العبودية، موت الإله، والإنسان الأعلى. فشخصياته العالقة بين الرفض والقبول، وبين الخضوع للأصنام والبحث عن معنى خاص، تجسد مأزق الإنسان الحديث الذي لم يعد يجد يقينًا مطلقًا يوجّهه. وهنا يكمن جوهر اللقاء بين نيتشه ولانثيموس، كلاهما يضعنا أمام مرآة قاسية، تقول إن التحرر لا يتحقق بالانفلات من سلطة قديمة فحسب، بل بقدرتنا على مواجهة العدم وصياغة قيم جديدة بأنفسنا. والسؤال الذي يظل مفتوحًا هوهل نملك الشجاعة لنكون أحرارًا حقًا، أم أننا سنظل نعيد إنتاج أصنام جديدة كلما تحطم صنم قديم؟

1- هكذا تكلم زرادشت، فريدريش نيتشه، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل، ص ٤٥.

2- غسق الأوثان، فريديريش نيتشه، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل، ص ١٤٦.