“عرب غربيون” للمخرج الفلسطيني عمر الشرقاوي
أمير العمري
يمكن القول إن المخرج الدنماركي- الفلسطيني عمر الشرقاوي، كان دائما يخرج الفيلم نفسه رغم أنه أخرج حتى الآن ستة أفلام، فهو يعبر خلال تلك الأفلام عن فكرة واحدة تؤرقه، ربما باستثناء الفيلم التسجيلي الطويل “نصف ثورة” (2011) الذي اشترك في إخراجه مع المصري كريم الحكيم.
اعتاد عمر الشرقاوي في كل أفلامه أن يعبر عن رؤية واحدة بأشكال مختلفة كما لو كان يعزف النغمة نفسها، ولكن بتنويعات مختلفة، لذلك فعمر الشرقاوي نموذج واضح للمخرج- المؤلف، الذي يعكس رؤيته الشخصية في كل أعماله، خاصة وأنه يستمد هذه الأفلام من حياته الخاصة، بتعقيداتها التي لا يسعى إلى إخفائها بقدر ما يرغب في أن يخرجها بكل ما يكتنفها من عنفوان وعنف، ومن فظاظة وقبح وتعبير عن تضاؤل الأمل لديه أحيانا.
إنه يرغب في فهم ذاته، والعثور على الحلقة المفقودة التي ترد إليه هويته الضائعة، لذلك فأفلامه تتسم بالقلق الوجودي الدائم، والعذاب الشخصي الذي يتركز، بشكل أو بآخر، حول “البحث عن الهوية”.
أبي من حيفا
ليس من الممكن رؤية فيلم عمر الشرقاوي الجديد “عرب غربيون”، دون العودة إلى فيلمه الثاني “أبي من حيفا” (2009).، ففي هذا الفيلم يصطحب عمر والده منير الشرقاوي في رحلة إلى دمشق أولا، حيث كان الأب يعيش بعد نزوحه مع أسرته من حيفا عقب وقوع النكبة الكبرى في 1948.
غادرت والدة منير إلى الأردن بينما بقي هو مع والده في دمشق قبل أن يهاجر في ما بعد إلى الدنمارك حيث تزوج من دنماركية أنجب منها ثلاثة أبناء أكبرهم هو عمر مخرج “عرب غربيون” المعذب الباحث عن أصوله وجذوره، الذي يأمل في رأب الهوة النفسية التي كانت تفصله دائما عن أبيه، من خلال رحلته معه إلى دمشق حيث يزور الاثنان قبر الجد، ثم إلى حيفا حيث يتعرف منير على منزل أسرته القديمة الذي لا يزال قائما مهجورا حتى الآن.
ويمكن اعتبار “أبي من حيفا” (52 دقيقة) مقدمة لفيلم “عرب غربيون” (77 دقيقة) الذي تمتد فيه القصة على استقامتها، وتتبين “ثيمة” الشعور بالغربة: عن أبيه وعن ماضيه وعن انتمائه الفلسطيني الأصلي، الذي يحاول على نحو ما، أن يتخلص منه، بالغضب والعنف حينا حتى ضد أقرب الناس إليه: شقيقه وأبوه، وحينا آخر بالتمرد على التراث الثقافي والسياسي بل والديني الذي يربط أبيه وجدانيا بوطنه الأصلي.
الأب منير الشرقاوي رغم أنه متزوج من دنماركية ومستقر في الدنمارك منذ سنوات بعيدة يمارس عمله التجاري في كوبنهاغن، إلاّ أنه لا يزال يشعر بالغربة، وبأن الأرض التي يقيم عليها ليست هي موطنه الأصلي.. وهنا يكمن سر غضبه الدائم رغم أنه في لحظات أخرى يتمتع بروح المرح والقدرة على الاسترخاء والمزاح والسخرية شأنه في ذلك شأن المكلوم الذي يخفي غضبه بالتسامي عليه.
معاناة حقيقية
اقتضى العمل في تصوير ومونتاج فيلم “عرب غربيون” اثني عشر عاما، فهو تجسيد لرحلة معاناة حقيقية لمخرجه، أراد خلالها أن يجعله المحاولة الأخيرة للتواصل الروحي مع والده بعد أن تقدم به العمر كثيرا، وقد سبق أن رأينا الوالد منير في “أبي من حيفا” يبكي على قبر والده، ويسر إليه أنه ذاهب إلى حيفا حيث ولد ونشأ لكي يرى ما إذا كان منزلهما لا يزال قائما، ثم يضيف وهو يبكي “الله أعلم أين سأدفن: بجوارك أم في بلد آخر؟”.
في هذا الفيلم نعود إلى المشاجرات التي كانت تحدث بين الأب والابن، وبين عمر وشقيقه أنور، وهو يستعين بالأب والشقيق في تصوير بعض أفلامه السابقة التي تمتلئ بالعنف والشجار والمطاردات، ويمزج الفيلم على نحو شخصي تماما، أي نابع من التداعيات الشخصية لمخرجه، بين لقطات من تلك الأفلام القديمة، وحوارات متقطعة على مسار الفيلم مع أبيه، دائما من خلال كاميرا مهتزة ولقطات قريبة وكبيرة جدا للوجوه، للعيون، تقترب دون وجل، تريد أن تسبر أغوار الشخصيات.
وبين هذه وتلك هناك الكثير من لقطات الأرشيف.. إننا هنا أمام عمل قريب من “سينما الحقيقة”، صحيح أن المونتاج يتدخل في الصياغة النهائية التي نراها، لكن تبقى المشاهد المصورة كما هي من دون تدخل أو إعداد مسبق، بكل تلقائيتها وحرارتها وتدفقها واندفاعها. ورغم بروز الجانب الشخصي من حياة عمر الشرقاوي بقوة في الفيلم، إلاّ أن الهم الأكبر الذي يطغى عليه يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي.. بالحالة الفلسطينية.. بما آلت إليه الأمور.
وفي الكثير من المشاهد يعبر عمر الشرقاوي عن شعوره بالاغتراب في المجتمع الدنماركي، فقد كان منذ طفولته يتعرض للمضايقات من جانب زملائه في المدرسة، وكانوا يصفونه حينا بالباكستاني رغم أنه نصف دنماركي نصف فلسطيني، وتارة أخرى بالعربي، أي يستبعدونه من الصورة، وقد نشأ وهو يتساءل عن أصل والده.. هذا الأصل الذي صبغه رغما عنه، سواء في ملامحه الخارجية أو في وجوده “الخاص” في الدنمارك كمواطن معترف به رسميا، ولكن غير معترف به عمليا.
وهو يريد أن يفهم والده ويفهم سر حزنه وشعوره بالاغتراب رغم أنه لا يشاركه نفس المشاعر والأحاسيس تجاه فلسطين التي لا يعرف عنها أكثر مما تبثه نشرات الأخبار، لكنه الآن بعد أن تجاوز الأربعين أصبح يريد أن يعرف، أن يفهم والده ويقترب منه ويتصالح معه قبل وقوع الفراق الطويل. أما أمه الدنماركية فظهورها في الفيلم هامشي وعابر، فهي لا تحصل على مساحة مناسبة للحديث، فمشكلته ليست مع الأم بل مع الأب الذي جاء من عالم آخر.
من دمشق ينتقل عمر ووالده منير إلى القدس، نشاهدهما في الطائرة معا حيث يسترخي منير وتتداعى في مخيلته صور من النزوح الكبير، ومن تل أبيب يذهب الاثنان إلى القدس، وقرب المسجد الأقصى تلتقط الكاميرا التي تتحرك بصورة مهتزة، انتشار جنود الجيش في كل مكان وفوهات بنادقهم منتصبة وعيونهم تدور تراقب وترقب وتترقب.
الوجود العسكري قرب حائط المبكى أكثر كثافة، الأب يطلب أن يقترب من الحائط.. هل سيسمحون له؟ يشجعه المرافق على أن يفعل، يحمل ورقة كتب عليها “يا رب.. هل سيكون هناك سلام في أرض السلام؟”، يذهب إلى الحائط ويدسها بين أحجاره.
اليقين الديني
يدور حوار طويل في الفيلم بين عمر ووالده حول الدين الإسلامي والقرآن، فعمر يريد أن يعرف سر اليقين الديني عند والده.. هذه القناعة الراسخة بوجود الله وحتمية العدالة، يريد أن يصل إلى أعماقه.. والأب في لحظة ما، يرفض التمادي في الإجابة عن أسئلة تحمل التشكك والتشكيك، لكن عمر في رحلته الروحية مع والده بحثا عن الحقيقة في فلسطين سيكتشف هناك عمق العلاقة مع الشرق، مع الموت ومع الأسلاف، وسيتساءل في حيرة عن مصير العالم وإلى ماذا سيؤدي ذلك العنف المستمر؟ ثم نرى الدم يغرق الشاشة.
عمر الشرقاوي مهموم أيضا بقضايا فلسفية مثل الحرب والألم ومسار التاريخ والعنف الذي يجتاح العالم، يريد أن يعرف وأن يفهم ما الذي يحدث من حوله، لكنه لا يريد تكرار تجربة والده الذي يعيش جزء كبير منه في الماضي، في المأساة إنه يرغب في التخلص من إرث الماضي، ولكن هل يمكنه أن يحقق هذا؟
في الفيلم لقطات من قصف غزة وإطلاق الرصاص على المتظاهرين في القاهرة أثناء الثورة المصرية في 2011، وهي لقطات مأخوذة من فيلم “نصف ثورة” التسجيلي الذي اشترك الشرقاوي مع المخرج المصري كريم الحكيم في إخراجه (يعكس تجربة كل منهما في الثورة)، ولقطات أخرى من العنف الإسرائيلي والعنف المضاد داخل إسرائيل.
عنوان الفيلم “عرب غربيون” يشير إلى عمر الشرقاوي ووالده وشقيقه، يخاطب الأب منير والده (المتوفّى) وهو يركع عند قبره في دمشق، فيقول إنه أصبح لديه ثلاثة أحفاد: عمر وأنور وكريم، لقد أطلق عليهم جميعا أسماء عربية.
ويضيف أن الثلاثة أنجبوا ثلاث بنات هن: أمينة وآية وياسمينة، لقد أصبح الجيل الثالث أيضا سجينا في هويته العربية الأصلية، رغم أنه لا يعرف عنها شيئا بعد.
في وقت ما بعد أن يعتدي عمر على شقيقه ويضربه بعنف (سيتصالح معه في النهاية)، يحظر منير عليه أن يدخل بيته، لكن المصالحة تحدث في ما بينهما، يحتضن الأب ولده في مشهد مؤثر فقد انتصر الحب، وعندما يرقد الأب على فراش الموت في النهاية تصبح لقطات الفيلم وصوره أكثر وضوحا مما كانت بعد أن كانت الصور تتسم بالضبابية والحركة المهتزة التي تعكس التشوش والاضطراب والبحث الشاق عن حقيقة النفس وحقيقة ما يجري في العالم من جانب عمر الذي يردد “أنا أكبر عدو لنفسي”. وبعد موت الأب ينتهي الفيلم بعبارة عمر التي تعكس حبه الشديد لأبيه وشعوره بالندم على ضياع السنين في الشجار والغضب وسوء الفهم، قائلا “إنني أفتقده”.
الفيلم مليء بالشجن والحزن، يفيض بالصدق ويعبر بقسوة عن التمزق الداخلي من دون أي محاولة لتجميل النفس أو تبرير الذات، ولهذا يبقى في الذاكرة.