“صالون هدى”:أيقن المرأة.. وساوى بين الرَّجل والاحتلال

يمثل فيلم (صالون هُدى) للمخرج هاني أبو أسعد (من إنتاج 2021)، جانباً من الصراع الفلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي، ورغم أن الفيلم يناقش قضية الإسقاط بالعمالة مع العدو من خلال قصة حقيقية، إلا أنه يناقش في عمق القصة، المشاكل الاجتماعية التي تمهد الطريق – كما صور الفيلم-، لبعض السيدات لتقعن فريسة العَمالة.

نجح صانع الفيلم في مناقشة القضيتين معاً، لكنه في حقيقة الأمر نال من الرجل ومن المقاومين، بعدما وضعهما في كينونة واحدة، وأظهرهما بدلالات الفيلم البصرية، سطحيِّي التفكير، طفوليي النظرة، ساهموا من حيث لا يدرون، باستمرار من وقعوا في حبائل الاحتلال، بما هم عليه، خشية أن يقتلوا من مجتمع: الرجل أو المقاومين.

وسنحلل في هذا المقال الفيلم من منظور (سيميائي) دلالات الرموز المصاحبة لأحداثه، لنقرأه بعيون وعقل صانعيه.

لمحة عن الفلم:

تدور أحداث الفيلم في صالون للسيدات (صالون هُدى) في مدينة بيت لحم في الضفة الغربية، مستلهّمةً من قصةٍ حقيقية، تستخدمه صاحبته (منال عوض في دور هُدى) لإسقاط بعض السيدات في العمالة للاحتلال، عبر تنويمهن، وتصويرهن في أوضاع مخلّة، لابتزازهن، وتبحث عن ضحاياها – كما تقول – بين الزَّبونات اللواتي يعانين من مشاكل اجتماعية مع أزواجهن.

وفي وقت كانت بطلة الفيلم (ميساء عبد الهادي في دور ريم) في بداية للحدث الصاعد، قد صُورت حديثاً، ورفضت العمل معهم، لكنها في ذات الوقت كانت تعاني من مشكلة مع زوجها (جلال مصاروة في دور يوسف)، المُصاب بعُقدة الشّك في أن زوجته تقيم علاقة مع رجل آخر، فتقع ريم بين صراع ثلاثي الأطراف: الوقوع في براثن الاحتلال، أو تكذيبها من زوجها إن عرف ما حصل معها، أو يكشف أمر صورتها العارية لتلاقي المصير بالإعدام على يدي المقاومة.

وجاء تصاعد الحدث، عقب قيام إحدى الزبونات اللاتي وقعن في حبائل هُدى، بإخبار المقاومين في المدينة، والذين بدورهم اعتقلوا هُدى وصادروا ما معها من صور للضحايا، وأخضعوها للتحقيق لتواجه مصيرها في نهاية الفيلم.

أشار المخرج صراحه للمكان فاللقطة الأولى كانت واسعة لمدينة بيت لحم، مع ما تحمل من بعد ديني لكنسية المهد ومسجد عمر بن الخطاب المجاور لها.

تمثل بيت لحم مهد السيد المسيح ووالدته مريم العذراء، وهي دلالة رمزية لمدلول الطُهر للسيدة العذراء البتول، التي انجبت بلا خطيئة وبلا زوج وزواج، والتي سيسقطها صانع الفيلم فيما بعد، على بطلة الفيلم (ميساء عبدالهادي بدور ريم) ببراءتها من العمالة عقب تصويرها عارية بعد تنويمها بلا حول لها ولا قوة.

كما أظهر المشهد الأول بمجموع لقطاته، الجدار الفاصل كدلالة ضمنية، على الاحتلال وسطوته على المكان، كما دل الجدار على السجن والعزلة وتقييد الحركة، وارتفاعه عن ما حوله، على قوته وضعف البيوت التي حوله بصغر حجمها، وأظهر بعضاً من الرسوم على الجدار كدلالة ضمنية أخرى على المقاومة بما حملت من أيقونات، ومن بينها رسم يشكل سلماً لصعود الجدار والقفز عنه، في إشارة لأحلام من هم خلف هذا الجدار بالخروج والانعتاق منه.

وأظهرت الابراج المرتفعة في محيطه، تحكم الاحتلال في هذا المكان، علاوة على الطائرة المروحية التي ظهرت في مقدمة الفلم، وسمع صوتها في مجريات الفيلم بين وقت وأخرى، لتذكير المشاهدين بوجود الاحتلال، وعند ارتفاع الصراع الداخلي لدى بطلة الفيلم ما بين الاحتلال وقوتها الذاتية.

أراد صانع الفيلم تشبيه بيت لحم المحتلة، بكل المناطق المحتلة، فهي وإن اختلفت بأشكالها وجغرافيتها، لكنها تتشابه بمضمونها، لوجود ذات الاحتلال في كل تلك المناطق.

وأبان المشهد الأول شاباً يجلس قرب الجدار مطرفاً عن زحام المدينة، التي تمثل بيئته، وقرب الجدار مستخدماً هاتفه النقال، الذي يمثل التواصل مع البعيد، وفي حديث سرّي، وهو جانب من حديث ورسالة الفيلم.  

الصالون هو المكان المفتوح للجميع من كل الطبقات تقريباً، تحبه النساء ويعتبرونه مكاناً للاسترخاء وبث ما في نفوسهن من هموم، لكنه كدلالة في الفيلم مثل الجزء المستتر من الاحتلال، العيون التي تتصيد حركات المواطنين بقالب جميل وادع مغري لزيارته، لكنه يحمل في باطنه العذاب.

فالواجهة الجميلة للصالون المزينة بالأشجار والورد والعصافير، كانت تخفي وراءها سقوطاً أخلاقياً ووطنياً، وألفاظاً وفعلاً من العالم السفلي، كما حوار هُدى مع رجل المخابرات في الغرفة الداخلية للصالون.

كما أن الصالون يعمل على إخفاء عيوب الوجه والبشرة وإظهار وجه آخر، وهو ذات الشيء الذي يسعى له الاحتلال بتجميل صورته البشعة.

 وهي ذات رسالة الاحتلال التجميلية التي حملها اسم الصالون (هُدى) المغايرة للحقيقة، فالهُدى يمثل استقامة الطريق والهداية، لكنه حمل في باطنه السقوط والعمالة.

شبه صانع الفيلم الصالون بالاحتلال، الذي عرّى السيدة ريم التي تمثل الأسرة والأم الفلسطينية، وأبان سوءتها، لتدميرها واستباحتها، لكنها قاومت حتى النفس الأخير.

دافع صانع الفيلم عن هدى المهتمة بالإسقاط، بصورة جمعتها قبيل اعتقالها وهي تقراً رواية (مؤنس الملك) للكاتب المغربي (ماحي بيدين) وقد دلل صانع الفيلم بالكتاب الذي بمحتواه يشير الى صراع داخلي بين مؤنس الملك المغربي الذي يتوجب عليه إضحاك الملك وبين نجله الذي اعتقله الملك لاتهامه بمحاولة قلب نظام الحكم، ليدلل على الصراع الداخلي التي تعيشه هدى، ما بين عملها وشعورها الداخلي، رغم أنها اسقطت 15 سيدة.

سعى صانع الفيلم عبر مجريات الأحداث، لترسيخ أيقونة مريم العذراء وطفلها المسيح، الذي منحها البراءة والطهر، وربطها كأيقونة، ببطلة الفيلم ريم المتهمة ظلماً، وذلك بالدلالة بالمصاحبة بينها وبين طفلتها، مع العذراء، والتي تشابهت معها حتى بِبُنية اسمها ريم مع مريم.

فلقد لازمت ريم طفلتها عبر أحداث الفيلم من بدايته بظهورها في صالون هدى، وحتى الأحداث ما قبل الأخيرة، قبل أن ينتزعَ الزوج يوسف منها الطفلة، ويخرج من بيته تاركاً إياها تواجه مصيرها مع العالم.

وظهر التماهي بين ريم وأيقونة العذراء جلياً، بعدما جمعهما صانع الفيلم في لقطة صريحة، مع الأيقونة المرسومة على أحد جدران مدينة بيت لحم.

لقد استغل صانع الفيلم، الطفل دلالياً، وحول دلالته عدة مرات، بداية منحَ في دلاته المصاحبة لوالدته ريم: الطهر والبراءة، ومن ثم وفي صراعها الداخلي، مثل دور ضعفها في حالات كثيرة أمام صراعها ما بين مواجهة المجتمع أو الارتماء في أحضان الاحتلال، وشكل رمزية بكاء الطفل، حقيقةً بكاء ريم، التي سعت في أحد مشاهد الفيلم لإسكات بكائها الداخلي، مدعيةً أنها الأغنية التي تحبها طفلتها، بأغنية للفنانة الراحلة ريم البنا ابنة مدينة الناصرة تقديراً لها، وبعنوان: الحُر.. وحملت الأغنية كلمات:

الحُر ما بين الانذال مخنوق يُصعب صياحو

ك الطير ما بين الاوحال جات ضربتوا في جناحو

يا وقت داويه بالنار بالكي تَبرا جراحو

يزّيه ما شْرَب مُرّار سنّيه من الهم طاحوا

الحُرّ مهما تدمّر لا يساوم

لا يطبّل ولا يزمّر يموت واقف والسلاح معمّر

كما تحولت دلالة الطفلة عند والدها، لتَسمه بالضعف وعدم القدرة كالأطفال على تحمل المسؤولية، فعند حوار ريم مع زوجها يوسف، في المطبخ، وتشكيكها في مقدرته على تفهم وتحمل المسؤولية إن هي أخبرته بما حصل؟! صمت يوسف صمتاً طويلاً، وحل مكانه صوت بكاء الطفلة من بعيد.

ليعيد صانع الفيلم الدلالة بالطفل للطهر ثانية، في المشاهد الأخيرة من الفيلم، بعدما انتزعها الأب من الأم ريم وغادر المنزل، وكأنه انتزع منها براءتها من التهمة، تاركاً إياها في المنزل وحيدة بعدما أوصد الباب عليها بالمفتاح، ليعيد صانع الفيلم تشفير الشُّباك بالسجن وريم بالسجينة المتهمة خلف القضبان بعيون المجتمع ومن هم خارج المنزل.

لقد وَصَم صانع الفيلم، المقاومة التي لاحقت (هُدى)، بالسذاجة والطفولية، ففي مشهد اقتحام المقاومين منزل هُدى واعتقالها، وقف قائد خلية المقاومة، (علي سليمان بدور حسن) أمام لوحة (الطفل الباكي) للفنان الإيطالي (جيوفاني براغولين)، متأملاً فيها، ومن ثم أخرج قطرة عيونه ووضع منها نقطتين في عينيه الاثنتين، لتحاكي بكاء صورة الطفل ليربط بينهما، كدال ومدلول ما بين المقاوم والطفل.

وبالانتقال الى مشهد التحقيق مع هدى، نرى أن حسن جلس مع هُدى، وتتوسطهُما طاولة صغيرة، تغطيها صور النساء الضحايا اللواتي التقطت صورهن.

وحملت الطاولة دلالة تساوي من هم على طفريها، وهي دلالة ضمنية على تسبب الطرفين في هذه النتيجة، وهي إشارة الفيلم منذ بدايته أن من وقوعهن في حبائل العمالة، هو بحال من الأحوال لكونهن مضطهدات ويعانين من مشاكل في أسرهن، والتي مثلها هنا الرجل في صفته الذكورية والمقاوم كدوره في الصراع مع الاحتلال.

لكن الإضاءة التي توسطت الطاولة، كانت مسلطة بشكل ساطع، لما فوق الحد المطلوب للرؤية، فقط على هُدى، فيما جلس المقاوم حسن خلف الاضاءة، في دلالة أنه خارج دائرة الاتهام وتسليط الضوء.

وكشف الحوار الذي دار بينهما وبصريح الكلام، عن قيام حسن طفلاً، بالوشاية للاحتلال عن صديقه مهند لتبرئة نفسه، بعدما ألقى حجراً على دورية للجيش، واقتادهم إلى منزله، ليكون مصير مهند القتل أمام ناظري عائله.

وفي هذه الجلسة كسر صانع الفيلم قاعدة 180 درجة، وأبدل مواقع هدى وحسن على الشاشة، وأظهر هدى على يمين الشاشة وحسن على اليسار، وكأنها هي من تحقق مع حسن، في تأكيد على أنهما شركاء في المسؤولية ومتساوون بالفعل.

كان الاحتلال حاضراً وبشكل شبه دائم، بتضمين أصوات الطائرات وهدير الدبابات في خليفة التمثيل، وخلال سير ريم في شوارع المدينة، في ذهابها وعودتها من عيادة الطبيب، وفي ساعات الليل، في صراعها الداخلي، وكما في صور الجدار الفاصل.

ظهر الرجل في الفيلم سطحي وساذج وأناني، فظهر الزوج يوسف في جلسة الغداء مع زوجته ريم، غير عابئ بتعبها، سعى لإطعام الطفلة الرضيعة من طعام الكبار، و يسأل فقط عن حاجاته ورغباته، عن طعام اليوم التالي، وفنجانٍ من القهوة، وأنه دعا عائلته لزيارته ووجوب قيام ريم بالواجب بعمل وليمة الطعام لهم، وليلاً يريد متعة مع زوجته، رغم شرودها الدائم وتعبها النفسي.

كما ظهر بلا مسؤولية، بعد شكوى الزوجة أن جبهة طفلتهما تعلوها حرارة مرتفعة، لكنه لم يعبأ وظل نائماً طالبا تأجيل الموضوع إلى الصباح؟!

لقد استخدم صانع الفيلم النار عدة مرات في تسلسل الأحداث، وبشكل صريح، النار هناك كدال في العقوبة، على مدلول العقاب الأُخروي.

فقد أحرق المقاومون، الشاب سعيد القزاز، بعدما ظهر في إحدى الصور في وضعية الاسقاط مع إحدى الفتيات، في دلالة ضمنية أن هؤلاء الشبان من المقاومين، – كما صور صانع الفيلم- قد نصّبوا أنفسهم مكان الله، ليعاقبوا بالنار من يرونهم في قفص الاتهام.

وظهرت النار ثانيةً في صراع بطلة الفيلم ريم الداخلي، بعدما سلبها زوجها طفلتها الصغيرة، وأغلق عليها باب منزلها متهمةً، وتركها تواجه مصيرها ما بين اعتقال وقتل المقاومين لها، أو التجائها للاحتلال، أو الانتحار بالحرق للخروج من مأزقها وصراعها الداخلي؛ – وهي النهاية الحقيقية لبطلة القصة الأصلية-.

وفي هذا المشهد من الفيلم وصراع ريم مع ذاتها وذروة ضعفها بمحاولة الانتحار، ظهرت النار ثانية مع رمز أخر وهو حبة التفاح كرمز للخطيئة في قصة آدم وحواء ونزولهما من الجنة، حيث تناولتها ريم بطريقة بدائية،

وقضمت منها عدة قضمات، لتعيدنا بالدلالة الى حواء التي اتهمت بأنها من أخرجت أدم من الجنة، بعدما أثنت عليه بالإشارة للأكل من الشجرة في الجنة، وهي بريئة من هذا الفعل كما تقول العديد من الروايات.

وقد تركت ريم الغاز ينبعث من الأنبوبة بعدما أحكمت إغلاق الغرفة، ومن ثم عملت على محاولة اشعال النار لتنهي حياتها، في دلالة ضمنية أن النار سيكون مصيرها النهائي، ورغبتها بإنهاء صراعها الداخلي للوصول إلى مصيرها المحتوم بحسب اعتقادها.

لكن صانع الفلم أكد براءتها، بعدما فشلت بإشعال النار لنفاد الغاز من الأنبوبة.

وتكررت النار في اجتماع التحقيق بين المقاوم حسن والمتهمة هُدى حول مدفأة النار المشتعلة، وكأنهما متساوون بالجريمة وكلاهما يستحق النار.

انتهى الفيلم بصورة حسن وهو يضع القطرة في عينيه في إشارة عن استمرار اتهام المقاومة بضعف النظر، وبإعدام هُدى بعدها مباشرة رمياً بالرصاص.

 ويتحدث حسن بعدها عبر الهاتف مع ريم، ليخبرها بأنها بريئة؟! لكنه يريد أن تساعدهم بالتعرف على ضابط المخابرات الإسرائيلي(موسى).

ورغم أن الخاتمة مفتوحة نسبياً، لكن السياق أظهر أن (صفاء) التي اعترفت للمقاومة عن (هُدى) انتهت حياتها بالانتحار.

لنرى وجها تختلط به الابتسامة مع البكاء والخوف من المصير المنتظر لريم، في آخر لقطةٍ من الفيلم.

Visited 43 times, 1 visit(s) today