شغف النار بعيون رجل وامرأة

موريس وكاتيا كرافت، عالما براكين جمعهما الزواج والشغف تجاه تلك الظاهرة الطبيعية رغم اختلاف طبيعة كل منهما. كانت تشدها أدق التفاصيل، وتحاول الربط بين الأشياء، بينما ينجذب هو إلى كل ما هو غريب وضخم، تلتقط هي صورة واحدة عن لحظة واحدة في كادر واحد، أما هو فلا يريد أن تفوته فائتة فيطارد الحركة المستمرة من خلال التقاط 24 كادرا في الثانية. كان لها روح مثل الطائر، وهو كان أكثر ارتباطًا بالأرض.

شخصيتان مختلفتان جذب شغفهما لظاهرة البراكين، وارتباطهما العاطفي العديد من الوثائقيات التي تناولت حياتيهما، وأحدثها فيلمان صدرا في نفس العام، “النار بالداخل: في رثاء كاتيا وموريس كرافت”- The Fire Within: A Requiem for Katia and Maurice Krafft  للمخرج الألماني الشهير ڤيرنر هيرزوج، و”نيران الحب”Fire of Love  للمخرجة سارة دوسا والذي كان من ضمن الأفلام الوثائقية المرشحة لنيل الأوسكار عام 2023.

رغم اعتماد كليهما بشكل أساسي على نفس الأفلام الأرشيفية التي تركها موريس وكاتيا بعد وفاتهما، لكن كل فيلم يحمل رؤى مختلفة لصانعه.

يتشابه الفيلمان في بعض السمات الأساسية التي تميز الأفلام الوثائقية مثل التعليق الصوتي، والاعتماد على المواد الفوتوغرافية والصور الأرشيفية، لكن التشابه الأبرز بينهما كان الإطار العام للسرد داخل الوثائقي.

يبدأ كل فيلم بتقديم شخصيتي كاتيا وموريس ثم الانتقال إلى آخر رحلاتهما الاستكشافية في اليابان التي توفيا فيها، لتبدأ أحداث كل فيلم من هذه النقطة بالعودة إلى محطات من ماضيهما، ثم العودة في النهاية لنقطة البداية مرة أخرى.

يكمن بداخل هذا الإطار المتشابه الاختلافات التي تحمل رؤى هيرتزوج ودوسا. يُعد فيلم دوسا قصة حب وشغف موثقة من عيون أبطالها، بينما أَثِر هيرتزوج الاحتفاء بالإرث المصور الذي تركه العالمان، واعتبره تحفة سينمائية عن عملية خلق في طور التخلق، ولم يكن لديهما الوقت الكافي لإنهائها. وذُكر الاختلاف صراحة على لسان الراوي في بداية كل فيلم.

تتجلى الاختلافات بداية من عناوين الأفلام، “نيران الحب” يحمل صفة الرومانسية التي تصبغ طريقة تنظيم الوقائع المسرودة، أما فيلم هيرتزوج “النار بالداخل: في رثاء موريس وكاتيا كرافت، فهو دلالة على الشغف المتقد في نفوس العالمين، ويحمل رثاء لهما، وليس مجرد سيرة ذاتية أخرى.

 اختارت المخرجة تقريب المتفرج من الشخوص لخدمة المقصد الرومانسي، فلجأت إلى استعراض حياة هذين الشخصين منذ البداية، وساعدها اختيار الرسوم الكرتونية في السرد التوضيحي للمسافة القريبة التي كانت تفصل بين مكان ميلادهما، وفضلت استخدام الصور الفوتوغرافية في استعراض الروايات المختلفة عن لحظة اللقاء التي جمعت بين قلبيهما وعقليهما، وبداية شغف كل منهما بظاهرة البراكين، وحياتهما الزوجية ومغامراتهما الاستكشافية المحمومة للبراكين حول العالم.

وأغلب المشاهد التي اختارتها كانت تجمع الزوجين سويًا في نفس الإطار، مع الاستعانة أحيانًا بأصوات ممثلين لسرد مقتطفات من مذكراتهما لتعميق ارتباط المتفرج بهما، مقارنة باهتمامها بإرثهما الذي صب عليه هيرتزوج جل تركيزه، فالمساحة التي خصصها لذكر تفاصيل حياتهما الشخصية كانت محدودة جدًا مقارنة بما خصصه لدراسة أعمالهما التي ارتأى أنها حملت ثلاث وجهات نظر على مدار رحلاتهما.

في البداية رأى هيرتزوج أنهما كانا بطلين أمام كاميراتهما، كما لو كانا سائحين يصوران أفلامهما المنزلية، وهي نفس الفترة التي بدأت تتكون فيها شخصياتهما المشهورة أمام الكاميرا، وبدءا بتزييف الواقع لإعادة التصوير مما يعيد للأذهان ما فعله المخرج روبرت فلاهيرتي في فيلمه الوثائقي الشهير الصامت “نانوك من الشمال”- Nanook of the North.

وتدرجت النظرة الثانية بعمق شغفهما، عندما اتخذا مكانيهما وراء الكاميرا لتصوير الأنشطة البركانية، واقتربا من البراكين لدرجة لم يسبقهما فيها أحد، فتجلى شغفهما في حرفية الأفلام التي صوراها، وساعد اختيار المخرج لمقاس الصورة عالي الجودة 16:9 في نقل الإحساس برهبة هذه المشاهد، وروعة التباين فيها بين الظاهرة الطبيعية والعنصر البشري، على عكس اختيار سارة دوسا للمقاس الكلاسيكي 4:3 الذي أكسب اللقطات والمشاهد الأرشيفية المختارة حميمية تتفق مع النهج الرومانسي لفيلمها.

أصبحت نظرتهما أكثر إنسانية عن كونها نظرة علمية في وجهة النظر الثالثة حسب الملاحظة التي أبداها المخرج، وخلاصتها أن اهتمامهما بالناس أصبح له الأولوية في مرحلة ما من مراحل رحلاتهما الاستكشافية، وهنا فقد عملا على زيادة الوعي بالآثار المدمرة للبراكين على الناس.

تظهر في هذه الجزئية وفي لحظات كثيرة مشاركة هيرتزوج من خلال تعليقه على الفيلم الذي لم يقتصر فقط على شرح وتفسير مصاحب للمشاهد، ولكن كان يعلق مثلًا على طرافة أداء أحد الأشخاص في إحدى اللقطات، ويتمنى في أخرى لو كان بمقدوره التواجد برفقة هؤلاء الأشخاص في رحلاتهم الشاقة، بل وطرح تساؤلا عن الضرر الذي قد تتسبب فيه الإنسانية ويؤدي إلى تدمير نفسها والبيئة مستقبلًا مثلما تفعل البراكين في الطبيعة.

أما التعليق الصوتي ذو البحة المميزة الهادئة للممثلة والكاتبة ميراندا جولاي في فيلم “نيران الحب”، فكان حسيًا أكثر وملائما للطابع الرومانسي لحكاية العاشقين، بالأسلوب الشعري الذي اصطبغ به، والتعليق الصوتي المصاحب مثل الكلمات التي تظهر في بداية الفيلم:
“في عالم بارد حيث بدأت كل الساعات تتجمد

 الشمس تشرق وتغرب بين العواصف الثلجية

 والزوابع التي مسحت كل الاتجاهات

في هذا العالم عاشت النار

وفي هذه النار عاشقان وجدا منزلا”.
اختيارات المخرجة للموسيقى المتنوعة الخفيفة والأغاني الرومانسية الشهيرة التي صاحبت السرد البصري جاءت ملائمة، مثل أغنية داليدا
je me sens vivire – “أنا أشعر بالحياة” التي صاحبت مشهدا يصور شغف كاتيا وموريس بالبراكين الحمراء وانهار الحمم البركانية، وعكست أيضا علاقتهما الخاصة، حيث لا يستطع أن يحيا أحدهما دون الآخر، وان كلا منهما أعطى معنى لحياة الآخر، مثل شغفهما بالبراكين.

أما هيرتزوج فقد أكسبت اختياراته لمعزوفات أوبرالية ترافق مرثيته لكاتيا وموريس الفيلم رهبة ووقارا، وأشهرها “قداس الموتى” الشهيرة للموسيقار جابرييل فوري. وقد رافقت القطعة المشاهد المصورة التي ظهرت فيها براعة الزوجين السينمائية. لقد كانا غائبين عن الشاشة، ولكن الجمال الذي رأوه بأعينهما ماثلا أمامنا بجلال، يشبه جلال الموت الذي وصفه جابرييل فوري في مؤلفاته “كل شيء تمكنت من التعبير عنه عن طريق الخيال الديني وضعته في قداسي، الذي يهيمن عليه أيضا شعور إنساني للغاية بالإيمان بالراحة الأبدية من البداية إلى النهاية”. ويزدان جمال ورهبة هذه المشاهد باختيار المخرج التوقف عن التعليق الصوتي والاكتفاء بالتمعن فيها.

وتماشى الطابع المهيب لمعزوفة “قداس الموتى” مع بقية المختارات اللحنية التي كانت بمثابة موتيفة سمعية مصاحبة لمشاهد الدمار الذي ألحقته البراكين بتاريخ البشرية، مثل ترنيمة Stabat mater– الأم التي كانت واقفة والتي استخدمها هيرتزوج سابقًا في فيلمه فيتزكارالدو- Fitzcarraldo، بالإضافة إلى عدد من الأغنيات الإسبانية التي طغى على كلماتها طابع الموت والفراق.

تختتم سارة دوسا فيلمها الوثائقي الرومانسي بكلمات موريس كروفت: “كاتيا، وأنا، والبراكين.. إنها قصة حب”. وهذا ما بذلت فيه المخرجة جهدا لإيصاله من خلال اختياراتها الإبداعية في الفيلم.

أما هيرتزوج فيختتم فيلمه معلقا: “بسبب هذه الوحدة والعمل الجماعي، كانا قادرين على النزول إلى الجحيم لاقتناص الصورة من بين مخالب الشيطان، ولهذا أردت أن أصنع هذا الفيلم لهما”.

كلمات يصل بها في النهاية إلى غايته التي حددها من بداية هذه المرثية التي احتفى بها كصانع أفلام استطاع تقدير ورؤية موهبة عالمين رأى فيهما موهبة صانعي الأفلام.

فيلمان نبعا من مادة واحدة برؤى مختلفة يكملان بعضهما البعض عن شغف واحد، أحدهما يقربنا من الشخصيات التي عاشت وساهمت في إنقاذ البشرية من غضب الطبيعة، والآخر يقدم لنا الجمال الذي رأوه بشغفهما.

Visited 42 times, 1 visit(s) today