“رعي السماء” .. حالة سينمائية مدهشة

قليلة هى الأفلام التى تأسرك تماما وتبقى فى وجدانك وذاكرتك بعد انتهائها. تلك الأفلام التى تتساءل معها عن علاقتك بالسينما او تعيد اكتشاف السينما من خلالها فهي تلامس جوهر الروح و جوهر الفن.

والفيلم التسجيلي  “رعي السماء” Grazing the Sky  للمخرج المكسيكى هوراشيو الكالا، هو إحدى هذه التحف السينمائية المدهشة التى ننتظرها طويلا ونحتفى بها كثيرا، وتصبح الكتابة عنها أمرا شديد الصعوبة، فكيف تحكى قصيدة ؟ وكيف تذكر المشاعر التى لامست روحك؟ ولكن ربما هناك سؤال اكثر منطقية وهو إذا لم نكتب عن تلك الافلام فعما نكتب؟!

السيرك كما لم نشاهده من قبل

يبحر بنا فيلم “رعى السماء” فى عوالم السيرك من خلال حكايات بعض فنانى السيرك من أكثر من دولة متناولا حكاياتهم مع السيرك وعلاقتهم به وعلاقتهم ببعضهم البعض بصورة لم نراها من قبل، فالفيلم يجعلنا نرى السيرك بصورة جديدة ورؤية مبتكرة تغدو فيه المشاهدة فعل اكتشاف وتأمل.. وقد بدأت فكرته من باتريك فلاين مدير شركة “سيرك دو سولى” وكانت الفكرة عن كيف يبدو السيرك الآن، وكيف تغيرت الكثير من مفاهيمه وطرائقه بشكل يختلف كثيرا عن الماضى، وكيف كان منذ 20 عاما حكرا على الذين نشأوا فى عائلات تعمل فى السيرك فقط ؟ وقد تأثر المخرج هوراشيو الكالا بالفكرة، خصوصا وهو من عشاق السيرك، فبدأ العمل عليى تطوير الفكرة ليخرج لنا هذه التحفة الأثيرة.

يبدأ الفيلم بشخصية “ايريكا نجويان” وهى تحكى عن حياتها الروتينية فى الماضى و تقول بنبرة كئيبة “كنت هنا عندما تداعى كل شىء”، ثم تغوص فى حوض الاستحمام ويغوص معها خطها الدرامى الى منتصف الفيلم إلى ان تظهر فى النهاية وتخرج رأسها من المياه لتقول ” لنبدأ من جديد”، ثم يقطع المخرج على مشهد تبحر فيه الكاميرا فى السماء ومع عناوين الفيلم تبدأ موسيقى الكمان بالتبادل مع موسيقى المارش، وتظهر لقطات قريبة ذات ايقاع بطىء وشاعري للاعبي سيرك يتهيأون للعرض وكأنهم يمارسوا طقسا يدخلون معه فى حاله روحانية ويدخلنا معه المخرج فى جو سحرى مثير. تلك هي الافتتاحية المبهرة التى تأسر المتلقي.

يبدأ بعدها الفيلم فى سرد حكايات لاعبى السيرك بشكل متوازٍ، قام بتوليفها بشكل لافت المونتير ناتشو رويز، فها هو “جوناثان” ذلك الشاب الذى درس الفلسفة والاجتماع و الأدب يتوقف فجأة عن الدراسة و يستسلم لقلبه وشغفه بالسيرك ليبدأ التعرف على ذاته والتواصل معها بشكل مختلف، ويكتشف ذاته من خلال الحركة التى قال عنها: “فى لحظة محددة وفى مكان محدد تمتلىء الحركة بالرموز والعلامات والحكايات.. حكاياتى أنا”. وهو الذى راوده حلم الطيران منذ كان طفلا “أنا اطير الآن” ودائما ما تحدث “جوناثان” وهو على المسرح ويتوسط الكادر تماما وكأنه مركز الكون، هذا الشاب الباحث عن التحقق وجد ضالته فى السيرك .

ثم هناك “فادى” الشاب الفلسطينى، عاشق السيرك، الذى يواجه واقعا يومىا قاسيا من الاحتلال والتخلف والقهر كما يواجه خيار الهرب أو المواجهه، والذى عبر عنه المخرج بصريا في مشهد بديع يلخص حكاية “فادى” كلها فها هو فى قبو مظلم نسبيا يتوسط الكادر هو وصديقته التى تشده بحبل و فى الخلفيه براح الطبيعة فى ضوء النهار. وبالفعل يستجيب “فادى” لغواية السيرك ويتابع المخرج رحلته الى تورينو، لتعلم فنون السيرك ثم يعود الى فلسطين و لتطوير مدرسة فنون السيرك التي كان قد انشأها قبيل سفره.

ويقول فادى عن علاقته بالسيرك “أحيانا أمارس اللعب لأشعر بجسدى واتخلص من كافة الضغوط وأشعر بالحرية” ويظهر فادى فى مشهد يتكرر كموتيف بصرى خاص به وهو على قمه جبل يمارس اللعب والتأمل و يحلق حتى يلامس السماء. وفى مشهده الأخير يبدو وهو يضع التراب على جسده وكأنه توحد مع مفردات الطبيعة مع موسيقى شجية اقرب الى انغام الناي، تعزفها آله غربية، وكأنه فى حضرة الإله وفى جو صوفى رائق.

فرقة مدهشة

من أجمل الحكايات واكثرها عمقا وخفة ظل حكاية مجموعة من لاعبى السيرك يعيشون فى قرية، معظمهم فرنسيين، تلك الفرقة المدهشة التى يقدمها المخرج من خلال لقطات قريبة تظهر رؤسهم وهم يتحدثون للكاميرا وتوضح مدى الحميمية والترابط بينهم فيلخصون علاقتهم في عبارة ” الفرد ليس ملكا”. إنها مجموعة مبهرة تحيا من اجل اللعب والسعاده فقط،  يتكلمون جميعا بنبرة طفولية وعروضهم مليئة بالمتعه والطرافة والضحك، وهم يرقصون مع العالم ويلعبون مع الحياة ويتشاركون فى كل شىء “اذا شعر فرد منا بالسعاده فنفرح جميعا”.. ما هذه الدرجة من الصدق والانسانية!

وهناك أيضا حكاية “مارى لى” و”فيليبس” ذلك الثنائى الجميل من كندا الذى يركز المخرج على علاقتهما الجميلة، فنرى لحظات دخولهما العرض وهما ممسكان بيد بعضهما البعض ثم “مارى” وهى تتحدث عن ثقتها الكبيرة فى “فيليبس” وعن صعوبه ثقتها فى أى شخص آخر، وعن مدى الترابط و الحس المتبادل بينهما وعلاقتهما بالسيرك التي بدأت كهواية إلى ان احترفا واصبحت مهنتهما، ولكنها مهنة محببة للقلب. ويتابع المخرج العروض الجميلة التي يقدماها فى مونتريال.

وهناك ثنائى آخر من بروكسل هما “انتونيو” و”ماكس” يبدأ المخرج قصتهما من لحظة درامية قوية عند اصابة “انتونيو” بكسر فى الفقرات اثر حركة خاطئة لم يستطع حينها الامساك بيد صديقة “ماكس”. وقد قدمها المخرج بشكل حزين وفي مشاهد أقرب الى الاعتراف، يشوبها الشعور بالذنب، فى إضاءة خافتة ولون رمادى كئيب يعمق الاحساس بالاسى والحزن.

ويكرر المخرج مشهد السقوط على موسيقى حزينة وينهى المشهد بالاظلام ونتابع حكايتهما إلى ان يتعافى “انتونيو” ويعود من جديد يلعب مع صديقه وقد عادت الثقة من جديد فى مشهد مفعم بالحميمية والصدق خصوصا عندما يركز المخرج على تشابك أيديهم مؤكدا عمق العلاقة بينهما.

وها هى “ساره” تلك الفتاه التى تظهر فى أولى مشاهدها، متساءلة عن ذاتها وصورتها وعمن تكون وهى التى عشقت السيرك وتقدمت اليه دون علم والدها.. كما أنها تعشق الحبال واللعب بها فنراها فى برشلونة وهى تواجه تحدى اللعب مع اشخاص لم تعرفهم من قبل وامامها يوم واحد فقط لتقول” لابد ان اثق فيهم” أو وهى تلاعب الحبال على خلفية سماوية صافية وكأنها تحلق بعيدا.. وقد ابدع المخرج فى تصوير المشهد وكذلك المشهد الاخير لها الذي يعد احد اقوى مشاهد الفيلم، عندما نراها وهى ترقص على الحائط بالحبل والذى صوره المخرج بعدد هائل من اللقطات ومن زوايا تصوير متنوعة و مبتكرة واحجام مختلفة للقطات. إنه مشهد مبهر لايتكرر كثيرا لينتهى بها وهى معلقة على الحائط تصرخ فى وجه الوجود.

وهناك “داميان استريا” الذى قدم عروضا فى معظم دول العالم.. تلك العروض الكرنفالية المبهجة التي يغلب عليها الطابع المرح. وقد اجاد المخرج و مهندس الاضاءة تقديمها بشكل مميز.

وهناك أخيرا حكاية “ايريكا” التى بدأت الفيلم والتى من الواضح انها عاشت حاله نفسية صعبة ودخلت فى نوبات اكتئاب وانعدام للثقة فى النفس، وغلبت على مشاهها اضاءة كئيبة وملابسها دائما سوداء، وهى تتحدث بشكل مختلف عن جنون العالم المعاصر ومشاكل الاقتصاد والبطالة والحروب والتهديد النووى والكوارث المزمنة وهى فى حكيها تشى بحس عدمى وروح مهزومة. وقد وظف المخرج والمونتير حكايتها بشكل ذكى ليصبح الفيلم وكأنه لحظة فى حياة “ايريكا” لحظة ما بين غوصها فى حوض الاستحمام وخروج رأسها وكأنه حلم سريع فى لاوعيها تلك اللحظة الفاصلة ما بين انعزالها ودعوتها للبدء من جديد.

خارج التصنيف

من الصعب تصنيف الفيلم كفيلم تسجيلى رغم فوزه بجائزة جمعية النقاد فى مهرجان الاسماعيلية كأفضل فيلم تسجيلى، فالفيلم مفعم، ليس بروح السينما الروائية، وانما بروح الشعر فهو قصيدة بصرية مذهلة فى عشق الانسان، تتأمل الروح والجسد الانسانى، تحتفى بالصداقة والعلاقات الجميلة، وتدعو للامل والسعادة والتحقق والبحث عن الذات، وتطرح سؤال الوجود، فكل الشخصيات اضطرت فى لحظات ان تختار وان تشعر بالاختلاف وتكتشف معنى لحياتها. ونجح الفيلم في الاقتراب الحميمى من الشخصيات وكشف أعماقها ومشاعرها بصورة فنية جميلة، كما اختار المخرج لحظات ومشاهد تكثف معنى الحكاية لكل شخصية وهو ما صبغ الفيلم بشاعرية رقيقة جعلته عصى على التصنيف.

تكامل العناصر الفنية

رغم تقليدية جملة تكامل العناصر الفنية الا انها فى مكانها الصحيح فى فيلم “رعي السماء” فمثلا كل شخصية قدمت من زاوية معينة وبإضاءة مختلفة وموسيقى مختلفة تبرز عالمها وعلاقتها بالسيرك بصورة مختلفة عن غيرها، فمع براعة المصور ومهندس الاضاءة ،نجد ثراء غير عادى في شريط الصوت وكأن الموسيقى الخاصة بكل شخصية هى صوتها الخاص.. هذا الثراء حول الفيلم الى سيمفونية سمعية وبصرية انتهت نهاية مدهشة من المونتير الذى استخدم الفوتومونتاج فى المشهد الاخير مع موسيقى واحدة وايقاع واحد لكافة الشخصيات، وكأنة يقول انها تنويعات على لحن واحد، وكأن الشخصيات توحدت وتحققت اخيرا، كما ان اختيار جمل الحوار كان له اثر جيد فى تلقى الفيلم فالمخرج اختار لحظات وجملا دالة مكتفية بنفسها بعيدا عن الثرثرة. ولا ننسى ايضا اخراج عروض لاعبى السيرك والذى تميز بإضاءة ممتازة وحركات مبهرة اضفت على العرض طابعا سحريا كما ان كل الخيارات البصرية من أحجام اللقطات وزوايا التصوير وتنوعها كانت ملائما لكل شخصية.

Visited 70 times, 1 visit(s) today