ذلك الإغواء الكامن في كرسي المخرج

جودي فوستر مخرجة جودي فوستر مخرجة

للمرة الثانية تأتي الممثلة المخرجة الأمريكية جودي فوستر لعرض فيلمها الرابع- كمخرجة- في مهرجان “كان” (أخرجت أيضا ثلاثة أفلام للتليفزيون). الفيلم الجديد “وحش المال” (2916 من الإنتاج الهوليوودي الكبير، ويتمتع بوجود اسمين مشهورين في البطولة: جورج كلوني وجوليا روبرتس، ويتناول العلاقة بين الإعلام و”وول ستريت” حي المال الشهير في نيويورك، وكيف يلعب مقدم برنامج تليفزيوني متخصص في شؤون البورصة، دورا مباشرا في وقوع خسارة مالية ضخمة لرجل، مما يدفعه إلى اقتحام الاستدريو التليفزيوني على الهواء مباشرة، ويحتجز المذيع (كلوني) كرهينة، وما يعقب ذلك من تداعيات تتخذ طابعا كوميديا ممزوجا بالإثارة.

لم يحقق الفيلم نجاحا يذكر بعد أن بدء عروضه التجارية مؤخرا، كما سبق أن فشل الفيلم السابق لفوستر (كمخرجة) “القارض” The Beaverقام ببطولته ميل غيبسون. ورغم ذلك، تستعد جودي فوستر لإخراج فيلم روائي جديد (لحساب شركة سوني).

كانت جودي فوستر قد بدأت الإخراج للسينما عام 1991، بفيلم “الرجل الصغير تات”. ويدور موضوعه حول طفل يدعى “تات” فى السابعة من عمره، يشع بالموهبة والذكاء، يعيش مع أمه المطلقة التي تحاول العثور على عمل. تسمع “جين” (جودي فوستر) بموهبة الطفل، وهي المتخصصة فى موضوع الأطفال ذوي القدرات الذهنية المرتفعة، فتسعى لإجراء اختبار له، ثم تطلب من أمه ان تسمح له بالمشاركة فى مسابقة ذهنية، ومنذ تلك اللحظة تتولاه بالرعاية الى أن يحقق النجاح والشهرة ويصبح نجما من نجوم برامج التليفزيون.

  لم يحقق فيلم “وحش المال” نجاحا رغم وضوعه المثير

كان موضوع الفيلم مناسبا لجودي فوستر التي لمعت منذ طفولتها كممثلة متألقة، فقد بدأت التمثيل وهي في السابعة من عمرها، كما نشأت كإبنة وحيدة تعيش مع امها دون أب. ويكشف اختيارها لهذا الموضوع رغبتها فى الابتعاد عن الافلام المثيرة مقتربة من الموضوعات الاجتماعية التي تهم الأسرة، إلا أن ما حققه الفيلم من نجاح كان محدودا. ولكن هذا لم يحول بينها وبين العودة للإخراج من وقت لآخر، لكنها لم تظهر كممثلة في فيلمها الجديد.

ظاهرة تحول نجوم السينما من التمثيل الى الاخراج، ليست ظاهرة جديدة تماما، فهي موجودة في هوليوود منذ زمن بعيد، وقد بدأها شارلي شابلن محققا نجاحا كبيرا كمخرج وممثل، واقتفى اثره فيما بعد وودي ألين الذي أصبح بعد أن تقدم به العمر، يكتفي بالاخراج فقط دون التمثيل.

من بداية السينما

في نفس عصر السينما الصامتة أيضا، أقدمت الممثلة ليليان غيش- شأنها شأن شابلن- على تجربة الاخراج عام 1922 مع فيلم “إعادة تكوين زوجها” إلا أنها لم تعاود المحاولة، ثم تبعتها ممثلات شهيرات مثل ماري بيكفورد وإدا لوبينو والين ماي. وكان الممثلون والممثلات يؤسسون عادة شركة إنتاج لتسهيل الأمر على انفسهم، كما فعل شارلي شابلن وماري بيكفورد ودوجلاس فيربانكس الذين أسسوا شركة “يونيتد آرتستس” فى العشرينات. وهو نفس ما فعله فيما بعد جون واين وبيرت لانكستر ومارلون براندو وروبرت ريدفورد، والأخير أخرج منذ عام 1980 تسعة أفلام قام ببطولة بعضها. وهناك أيضا الممثل والمخرج الراحل جون كازافيتس مخرج فيلم “ظلال”، وان كان يظل اشهرهم جميعا بالطبع، الممثل الانجليزي لوتون بطل فيلم “أحدب نوتردام” الذي اسس شركة خاصة فى لندن عام 1955 أخرج لها فيلم “ليلة العيد”، لكنه كان الفيلم الأول والأخير من انتاج الشركة، وآخر ما أخرجه لوتون!

وأخرجت نجمة الاستعراض برباره ستريساند ثلاثة افلام كان أولها “يانتل” (1983) ثم “أمير الأمواج” (1991) ثم توقفت عن الاخراج لتعلن مؤخرا أنها بصدد اخراج فيلم جديد  بعنوان “كاثرين العظيمة”. أما الممثل كيفن كوستنر فيعتبر فيلمه “الرقص مع الذئاب” (1990) الذي قام ببطولته أيضا، من أكثر افلام المخرجين الممثلين نجاحا، وقد حصل أيضا على سبع من جوائز الأوسكار. لكن كوستنر أقلع بعد ذلك عن الاخراج.

ومن أشهر الممثلين الذين اقتحموا عالم الاخراج النجم كلينت ايستوود الذي أخرج حتى الآن 38 فيلما، وكان لفترة طويلة، يحاكي اسلوب المخرج الراحل دون سيجل الذي اخرج له أكثر افلامه شهرة حتى الآن لدى جمهور السينما فى العالم وهو فيلم “هاري القذر”، قبل أن يعثر على أسلوبه الخاص. وحقق ايستوود نجاحا كبيرا مع فيلم “غير المتسامح” (1992) الذي قام ببطولته، ثم ابتعد عن الويسترن وحقق ربما أكبر نجاح له بفيلم “امرأة بمليون دولار” (2004) الذي حصل على 4 جوائز أوسكا منها جائزة أحسن فيلم.

الممثل ريان كوسلنغ أحدث من اتجهوا للإخراج

ومن أحدث أفلام الممثلين المخرجين، فيلم “النهر المفقود” (2014) الذي أخرجه الممثل ريان كوسلنغ الذي لمع نجمه كثيرا بعد فيلم “درايف” (2011)، لكنه لم يحقق نجاحا يذكر، بينما مازال جيمس فرانكو يواصل الجمع بين التمثيل والإخراج.

 دوافع الممثلين

ما الذى يدفع مشاهير الممثلين للانتقال من الوقوف امام الكاميرا والتمتع بالشهرة الكبيرة التي يتيحها الظهور المتكرر على أغلفة المجلات الفنية وفى البرامج التليفزيونية والاعلانات التي تملأ الأنظار فى كل مكان، الى الجلوس وراء الكاميرا على كرسي المخرج بعيدا عن الأضواء وعدسات المصورين واهتمام الجمهور.

النجم الشهير روبرت دي نيرو كان قد جرب الاخراج منذ سنوات عندما أقدم على اخراج فيلمه الأول قصة برونكس” (1991) الذي يروي قصة مستمدة من ذكريات طفولته، وقام فيه بدور الأب، ثم عاد ليخرج “الراعي الطيب” (2006) بطولة أنجلينا جولي ومات ديمون، وقام فيه بدور غير ريئيسي. ومع فشل الفيلمين أقلع دي نيرو عن الاخراج واكتفى بالتمثيل.

ربما يكون السبب تجاريا بحتا، فشركات هوليوود ترى أن وجود إسم ممثل شهير – كمخرج- وراء مشروع الفيلم يتيح للفيلم العثور على التمويل المطلوب، فهناك كما يرون “قيمة تسويقية” للنجم السينمائي، كما أن من الممكن أن يجذب– بسبب شهرته وعلاقاته مع وكلاء الممثلين- أسماء أخرى شهيرة من ممثلي الصف الأول للمشاركة في الفيلم. وبالتالي يصبح المشروع أقل مخاطرة حسب شركات هوليوود.

من جهة أخرى، أدى الارتفاع الكبير فى أجور المخرجين اللامعين فى هوليوود، وكثير منهم يشترط ايضا الحصول على نسبة من أرباح الفيلم، إلى تفضيل الممثل- المخرج، الذي قد يكتفي بالحصول على أجر رمزي عن الاخراج، بالاضافة أجره كممثل. كما أنه يرفر باسمه الكثير من المال الذي ينفق على الدعاية.

شابلن جمع بين التمثيل والاخراج

غير أن مشكلة الممثل الذي يتحول الى الإخراج أنه يتمسك عادة بالتمثيل فى الفيلم الذي يقوم باخراجه، ويصبح عليه مراعاة عشرات الأشياء، وحل الكثير من المشاكل التي تنشأ أثناء التصوير، بينما يتعين عليه فى نفس الوقت، أن يستعد ذهنيا ونفسيا لتقمص الدور الذي يؤديه. ولا يستطيع بعض الممثلين التوفيق بين العملين، يخرج كثير منهم، من التجربة الأولى، بشعور بالتعاسة والاحباط مما يدفعه لعدم تكرار التجربة.

العبرة بالنتائج

وقد صرح كيفن كوستنر الذي كللت تجربته فى الاخراج بالنجاح ذات مرة بقوله إنه لم يفكر ابدا فى الاكتفاء بالاخراج والتخلي عن دور البطولة لممثل آخر فى فيلم “الرقص مع الذئاب” بل على العكس تماما فقد فكر فى التخلي عن اخراج الفيلم إذا اقتضى الأمر.

فى هوليوود ليست هناك قيمة كبيرة للجهد أو للنوايا الحسنة وراء الاخراج، بل العبرة دائما بالنتائج، أي بما يحققه الفيلم فى “شباك التذاكر”. هذا على سبيل المثال ما جعل من ممثل عادي ومخرج أقل من عادي هو سيلفستر ستالون، نجما كبيرا ومخرجا اسندت اليه هوليوود اخراج سلسلة من الأُفلام باهظة التكاليف (رامبو وروكي). وكان ستالون أول ممثل يحقق هذا النوع من النجاح عند تحوله الى الاخراج دون التخلي بالطبع عن التمثيل.

نجاح فيلم “رامبو” جعل ستالون مخرجا كبيرا مرغوبا

وقد حقق ستالون نجاحل لدى شركات هوليوود، فشل في تحقيقه أحد أشهر الممثلين الذين اتجهوا للإخراج وعلى رأسهم أوروسون ويلز، ذلك العبقري الذي أخرج وهو في الرابعة والعشرين، تحفته السينمائية “لمواطن كين”، لكنه لم ينل جائزة واحدة من جوائز الأوسكار، كما اضطر ويلز لمغادرة أميركا والعمل في أوروبا إلى حين وفاته عام 1980.

ستالون أقلع عن الاخراج بعد أن أخرج فيلم “المتمددون” (2000) الذي قام ببطولته مع ارنولد شوارزيغر ولم يحقق النجاح المرجو وبلغت تكاليفه 80 مليون دولار.

وعلى الرغم مما تحفل به مهنة الاخراج من متاعب، مازال الكثيرون يتصورون أن المخرج لا يفعل شيئا سوى أن يجلس على مقعد الاخراج، يلقي بالأوامر والتعليمات بنبرة متعالية الى الممثلين والمصور، وأنه يملك القدرة على طرد من لا يعجبه من العاملين بالفيلم. ويوما بعد يوم، مع تزايد عدد الممثلين الذين يجلسون على مقعد المخرج السينمائي، سيزول الوهم.

Visited 73 times, 1 visit(s) today