دلالات الصور الشعرية في فيلم “برسونا “

أمين صالح

 في عام 1965، أصيب إنغمار بيرغمان بمرض شديد ناجم عن تسمّم، إضافة إلى داء ذات الرئة، مما اضطره إلى الإقامة في المستشفى لشهور. أثناء وجوده في المستشفى أو المصح، وهو في حالة من الإنهاك واليأس والعجز، خطرت له فكرة فيلم. وكتب السيناريو خلال 9 أسابيع.

بدأ بيرغمان تصوير فيلمه “برسونا” Persona في يوليو 1965، وكان وقتذاك لا يزال مريضاً جداً، بحيث لم يتمكّن من التغلّب على الدوار الذي كان يعتريه كلما نهض واراد الوقوف. وقد استغرق التصوير شهران. يقول بيرغمان: “كنت مريضاً جداً، لكن كان عليّ أن أعمل. كنت أعاني من داء ذات الرئة. إصابتي استغرقت نصف العام. وقد ظننت أنني سوف لن أعود أبداً إلى صنع الأفلام. لكن فجأة بدأت في كتابة برسونا.. ببطء، ببطء شديد (..) برسونا أنقذ حياتي”.

*****

“برسونا” (1966) هو من أكثر أفلام بيرغمان تعقيداً وغموضاً.. بسبب ثراء مادته، وكثافة محتواه، وبنيته المركّبة، وتداخل الأزمنة.. إذ يستعصي على التحليل المبسّط، ويصعب تحديد ما يتحدّث عنه الفيلم بدقة. عندما سئل عن مغزى الفيلم ورسالته، والثيمة الأساسية، قال بيرغمان: “لست واثقاً من ذلك. في الواقع، لا أعرف شيئاً”. 

في هذا الفيلم يتعامل بيرغمان مع اهتماماته الفلسفية والميتافيزيقية، متناولاً موضوعات مثل: الازدواجية، تشوّش الهوية والأسئلة المتعلقة بها، الوحدة، الجنون، الصراع العقلي لإحراز السلطة والهيمنة، دور اللغة عبر العلاقة بين الناطق والصامت، العنف الخفيّ والظاهر، الحقيقة الباطنية والقناع الخارجي، وظيفة الأمومة، دور المرأة في المجتمع البطريركي.. وغيرها.

كذلك هو من أكثر أعماله نزوعاً إلى التجريبية من ناحية الشكل. وفي المجمل، يُعد من بين أعظم أعماله.

أثناء اشتغاله في الفيلم، صرّح قائلاً بأنه، للمرّة الأولى، لا يكترث على الإطلاق إن لم يحقّق الفيلم إقبالاً جماهيرياً. ويعترف بأنه لم يهتم بضرورة أن يكون العمل قابلاً للفهم والإدراك بأي ثمن، وأنه مضى إلى أبعد ما يستطيع المضي إليه في حرية تامة.. “متلمساً الأسرار التي لا يمكن التعبير عنها بالكلمات، والتي بوسع السينما وحدها اكتشافها”.

إنه فيلم يحتمل العديد من التفسيرات والتأويلات التي ربما تتعارض أو تتناقض في ما بينها.

*****

افتتاحية الفيلم عبارة عن لقطات، تعرضها آلة عرض (بروجكتر)، تعطي إحساساً بالتشوّش والتداخل الذي سوف يتخلّل الفيلم. هي لقطات تتعاقب على نحو سريع، تشمل: شريطاً من فيلم كرتوني، مشهداً هزلياً من فيلم صامت، حمَلاً يتعرّض للذبح، يداً يُدق فيها مسمار لتثبيتها على صليب، عنكبوتاً يتحرك على سطح أبيض، ثم لقطات من المشرحة لصبي ممدّد تغطيه ملاءة، وعلى مقربة امرأة ميتة لكن فجأة تفتح عينيها. ينهض الصبي عائداً إلى الحياة، يحاول أن يقرأ كتاب “ليرمنتوف” لكن يشعر بحضورٍ ما. يتحرك. يمسح بيده على شاشة تعرض وجه امرأة. ثم نرى وجه امرأة أخرى، والوجهان يتمازجان.. (وهو تعبير عن الفكرة الرئيسية للفيلم حيث تتداخل الذوات، ويتضبّب التخم الفاصل بين الحلم والواقع، وكل ما يُرى في الفيلم يكون موضع ارتياب).

بيننا وبين الصبي حاجز زجاجي، يحول دون حدوث أي احتكاك أو إتصال مباشر. إنه أشبه بعدسة كاميرا. الصبي ينظر إلينا، يتحسس الحاجز، كأنه يحاول الإتصال بنا. والصبي يحاول أن يفهم، أن يدرك المراد من الوجه المتحوّل لامرأة أو امرأتين.

تلك اللقطات السريعة، غير المترابطة منطقياً، والتي في حد ذاتها لا تعبّر عن شيء أو عن مفهوم محدّد، توحي بأن الفيلم سوف يتعامل، جزئياً على الأقل، مع مشكلات وصعوبات صنع الأفلام. 

الكثير من اللقطات أو الصور الشعرية، التي تظهر في افتتاحية الفيلم، عبارة عن مزيج من الإشارات والإحالات والتلميحات إلى أفلام بيرغمان الأولى.. أما الصبي الذي يظهر في بداية الفيلم ونهايته، فهو نفسه الذي مثّل في فيلم “الصمت”، وكان يقرأ الكتاب نفسه في ذلك الفيلم: رواية ليرمنتوف “بطل من زمننا”. من جهة أخرى، صرّح بيرغمان قائلاً أن الصبي يمثّله هو كمؤلف في بداية اشتغاله على سيناريو برسونا خلال فترة إقامته في المستشفى للعلاج.

الناقد ستانلي كوفمان قرأ الافتتاحية باعتبارها تجريدية ورمزية، وبكونها نتاج وعي الممثلة (إليزابيت)، منطلقاً من افتراض أن الصبي هو ابنها.

*****

الخط الرئيسي للحبكة: إليزابيت (ليف أولمان) ممثلة ناجحة ومعروفة. أثناء تأديتها دور إليكترا على خشبة المسرح، تصاب فجأة بانهيار ذهني غامض، إذ تكفّ طوعاً عن الكلام، عن التمثيل، ملتزمة الصمت المطبق، نابذة “شخصيتها” أو قناعها، منسحبة من كل الأدوار الاجتماعية والتوقعات، بجعل نفسها خرساء وجامدة الحركة.

بل أنها ترفض الكلام حتى مع زوجها وابنها. هي تتفرج على صورة فوتوغرافية لابنها، ثم سرعان ما تمزّق الصورة، هل بدافع الكراهية؟ علمًا بأنها أنجبته وهي تتمنى أن يولد ميتاً. ربما لإدراكها أو إحساسها بأنها تحمل العنف بداخلها، وأيضاً إحساسها برعب الوجود، لذلك هي ترفض الاتصال بابنها أو بأي شخص آخر.

رغم أن الفيلم يشير إلى سبب هذا الموقف، من خلال تقرير الطبيبة، التي ترى أن ليس ثمة خلل بدني أو ذهني تعاني منه المريضة، وأن الخرس ناجم عن حقيقة أن المريضة ترغب في أن تكون، لا أن تفعل، وأنها تريد أن تبتعد عن كل الأدوار الزائفة، وكل الأكاذيب، وأنها ليست من النوع الذي يُقْدم على الانتحار.. إلا أن سياق الفيلم يجعلنا لا نعوّل على هذا التفسير كسبب وحيد ومقنع. 

في الواقع، بيرغمان لا يوفّر لنا تفسيراً واضحاً وصريحاً لسلوك إليزابيت، وانسحابها من الحياة العامة والحياة العائلية. ولا يبدو أنه مهتم بأسباب الحالة، قدر اهتمامه بواقع الحالة المحضة، لذلك هو يترك لنا حرية تأويل الحالة: هل هي نتيجة انهيار عقلي لا إرادي؟ هل هي نابعة من قرار أخلاقي إرادي؟ هل هي ردة فعل عنيفة تجاه ما يحدث في عالمنا من حروب وفظاعات؟ هل هو موقف تمردي ضد العالم؟ هل هي محاولة لتطهير الذات؟ هل هو إحساس خاص نابع من تعرّضها لخيانة ما، لخداع ما؟ هل ثمة ضرب من التضليل الذاتي؟ هل هو شعور بفقدان الهوية؟ هل هو عجز اللغة عن التعبير بصدق.. اللغة التي تصير أداة تلاعب وخداع؟ 

لكن انسحابها ليس حلاً مريحاً ومطمئناً. إنه بالأحرى ارتداد نحو قوقعة صلبة ومحكمة. والعزلة الذاتية التامة هي مستحيلة. ومهما حاولت أن تحكم إغلاق الباب على نفسها، إلا أن الواقع يقحم نفسه عنوةً، ولا مهرب منه. هكذا نراها تشعر برعب شديد عندما تشاهد على شاشة التلفزيون راهباً بوذياً في فيتنام يحرق نفسه احتجاجاً على الحرب.

*****

بعد أيام من الصمت التام، تنتقل إليزابيت لتلقّي العلاج في مستشفى الطب النفسي. هناك يتم تكليف الممرضة الشابة ألْما (بيبي أندرسون) بالعناية بها ورعايتها، بعد نقل المريضة إلى منزل الطبيبة الصيفي، الكائن في جزيرة معزولة.

السرد المركّب يتمركز الآن على هاتين الشخصيتين: الممثلة إليزابيت، التي تختار بوعي، وعلى نحو إرادي، أن تنسحب من العالم وتلتزم الصمت المطبق. والممرضة ألما، الوديعة، الحنونة، الحساسة، سريعة التأثر، والتي تقع على عاتقها مهمة إعادة المريضة إلى طبيعتها الأولى.

في أحد المشاهد، نرى ألما تلتمس من إليزابيت، في رجاء، أن تردّد فحسب ما تقوله، حتى لو كانت كلمات تافهة، لكن الأخرى ترفض. وفي مشهد آخر، في المستشفى، نرى ألما تنحني فوق إليزابيت، متوسلة لها لكي تنطق بكلمة واحدة. بعد تردّد، بهدوء وبشعور جامد، تقول: “لا شيء”. لكن هل نطقت إليزابيت بتلك الكلمة، أم أن الأخرى تتوهم ذلك؟

ألما منذ البداية تشعر بقوة شخصية وذهنية المريضة، وتتردّد في قبول الوظيفة، ثم توافق. في الأيام الأولى، تقرأ الممرضة لها من كتاب، هذه الفقرة التي تعبّر عما سوف يتجسّد لاحقاً في واقع المرأتين: “القلق الذي نحمله معنا، الأحلام المهشمة، القسوة القابلة للتفسير، الخوف من الموت. صرخات إيماننا وشكّنا قبالة الظلام والصمت، كل هذا برهان مروّع على مدى وحدتنا وخوفنا”.                                  

للشخصيتين حضور طاغ. هما في أغلب مشاهد الفيلم. الشخصيات الأخرى (مثل الطبيبة والزوج) هي ثانوية جداً.

*****

امرأتان. واحدة منغلقة، كئيبة، كتومة، تلوذ بالصمت.. والأخرى منفتحة، مرحة، تتشبث بالكلام أو اللغة، وتتحدث على نحو متواصل. وحدهما في جزيرة كثيرة الصخور. وتبدو ألما سعيدة لأن الأخرى تصغي إليها: “الناس يقولون عني أني مستمعة جيدة. أليس هذا غريباً؟ لا أحد كلّف نفسه يوماً عناء الإصغاء إليّ. ليس بالطريقة التي تفعلينها أنت الآن. أنت تصغين. أظن أنك الشخص الحقيقي الوحيد التي تصغي إليّ حقاً. وأنا أشعر بسعادة لأنني أتحدث، إنه يغمرني بالدفء والطمأنينة، وهذا ما لم اختبره في حياتي من قبل”.

“برسونا” كلمة تعني الشخص، وحسب الباحثة بريجيت شتاين، في كتابها “إنغمار بيرغمان” (1968)، فإن الأصل اللاتيني للكلمة هو القناع الذي يرتديه الممثل في المسرح الروماني القديم للتمييز بين الأدوار. في الوقت الحاضر، اكتسبت الكلمة معنى مختلفاً قليلاً تحت تأثير السيكولوجيا اليونجية (نسبة إلى كارل يونج). صارت كلمة برسونا تشير إلى القناع الذي نرتديه عندما نكون بين الناس، والدور الذي يفرضه المجتمع علينا. وفقاً ليونج، “الاستسلام الكلي لذاتيتنا سوف يفضي إلى حالة من اللاشعور الأبكم. الكائن البشري سوف يقف وجهاً لوجه مع ذاته العارية (ومع المطلق)”.

في الفيلم، كل من المرأتين ترتدي قناعًا خفيّاً. قناع إليزابيت هو صمتها. قناع ألما هو حيويتها ومرحها وتفاؤلها. ومن خلال سير الأحداث نشعر بتفتّت القناعين.

*****

سرعان ما تتعرّض ألما للتغيّر أو التحوّل في مشاعرها تجاه إليزابيت. إنها تتحوّل من ممرضة إلى صديقة. وهي لا تخفي إعجابها بالأخرى، بل تصبح أكثر عاطفية، أكثر حميمية، وأكثر انفتاحاً، حتى أنها – بتشجيع من المريضة التي تبدي اهتماماً ومودة – تبدأ تحكي لها عن أدق أسرارها: كيف أنها مارست الجنس مع شابين على الشاطئ، ونتيجة لذلك، أصبحت حبلى لكنها اضطرت إلى إجراء عملية إجهاض. إنها تسرد قصتها في ابتهاج مشوب بالأسى والوجع، وإحساس بالذنب بشأن الإجهاض. إنها تسفح روحها وتعرّي ذاتها، بينما الأخرى تحافظ على برودها وتجهمها ولامبالاتها.

الممرضة تنجذب أكثر إلى المريضة التي تبدأ تصغي إليها أحياناً في اهتمام، وأحياناً في حنو، وأحياناً في تفاعل محبّب.

من جهة أخرى، وحسب تأويل الناقد روبن وود، صمت إليزابيت، ورفضها للكلام أو لفعل أي شيء، يخيف الممرضة ألما. تشعر بأنه يشكّل تهديداً لها. وهو يبدأ في تحطيم حصونها ودفاعاتها، ويفضي إلى انهيار ما تمتلكه من يقين وثقة بالنفس. ويفضي بالتالي إلى أن تبوح بمشاعرها وتفشي أسرارها، ليس للمرأة الأخرى فحسب، بل لنفسها أيضاً. إنها تبدأ في التحدث عن تجارب ماضية دفنتها عميقاً في ذاتها.

الإعجاب الشديد الذي تبديه الممرضة يجعلها تتخيّل أن الاثنتين متشابهتان تماماً.. في الشكل والطباع والمزاج.

عند هذا الموضع من الفيلم، يشعر المتفرج بالحيرة إزاء غموض الحالات. ولا نكون على يقين وثقة من أن ما نراه هي أحداث حقيقية أم أنها نتاج مخيلة وحلم. كما أننا لا نكون على يقين تام ما إذا كانت هذه المخيلة تنتسب إلى المريضة أم إلى الممرضة.

*****

إن انغمار المريضة إليزابيت في صمتها وعزلتها، وموقفها السلبي من الواقع ومن الحياة، يتجسد في عنف داخلي يتّخذ شكل الرغبة في الهيمنة والاستغلال والتدمير، إلى جانب بواعث سادية أخرى.. تتجسد في علاقتها مع الممرضة ألما.

إليزابيت لا تشعر بالحب تجاه الآخرين. إنها عاجزة عن منح الحب، سواء إلى زوجها أو طفلها أو الممرضة. وهي لا تريد أن توجّه عنايتها أو اهتمامها نحو أي كائن. لذلك تتخذ موقف اللامبالاة، والانكفاء، والعزلة. ومع مرور الوقت، تكتسب طبيعة افتراسية.

إن صمتها – كما تقول سوزان سونتاج (Sight and sound, Autumn 1967) – يصبح استفزازاً، شرَكاً، شيئاً مغوياً. بصمتها تمتص ذاتية الأخرى، تمتص الأشياء الحميمة المتصلة بحياتها، وتخلق فجوةً، فراغاً. وفي هذا الفراغ، تسقط ألما بعد أن استنفدت نفسها. 

مع مرور الوقت، صمت المريضة يصبح عدوانياً أكثر فأكثر، وهذا ما نشهده في تحوّل شخصية الممرضة إلى أخرى مضطربة، متوترة، غاضبة لشعورها بأن المريضة تعاملها بازدراء واستعلاء. وتتيقّن من ذلك عندما تطلب منها توصيل رسالة لها موجهة إلى الطبيبة، والممرضة تجد الرسالة مفتوحة، فلا تستطيع مقاومة فضولها. 

توقف السيارة على جانب الطريق، وتقرأ في ذهول ما كتبته إليزابيت عنها، لتجد فيها ما يشير إلى خيانة الثقة، ونظرتها المتعالية لها وسخريتها منها، عبر إفشاء سرّها. إنها تعترف باتخاذها للممرضة مادةً للدراسة والتحليل والنقد.

الممرضة المصدومة، الغاضبة، لا تستطيع أن تخفي مرارتها وكراهيتها وعنفها ورغبتها في الانتقام. إنها تتهم الأخرى بالغطرسة وانعدام الحساسية وتحجّر القلب، وتحاول إيذاءها بوضع الشظايا في طريقها. ثم تهدّد بإلقاء الماء المغلي عليها.

هنا يتضح لنا أن ما كانت الممرضة تُظهره من حالة سويّة، وتماسك ومرح وهدوء وراحة بال وتفاؤل، ما هو إلا سطح شديد الهشاشة، وأنه مجرد تظاهر وخداع ذات ومحاولة تمويه.

بالنتيجة تشعر الممرضة بانهيار وجودها، بالارتياب في لغتها وهويتها. تشعر أن كيانها أضحى جافًا، ولغتها صارت زائفة وخاوية وخالية من المعنى. كما لو أن الطاقة السلبية، المتمثّلة في المريضة، تفترس الطاقة الإيجابية عند الممرضة، وتسلب منها الإرادة والاستقلالية.

ألما – التي كانت تؤمن بالكلام، باللغة، وتتباهى بها، وتوظفها للتعبير عن ذاتها – تكتشف، عند موضع ما، أن هذه اللغة قد خانتها، صارت وسيلة خداع وتضليل، وسيلة فضح وتعرية، ولم تعد جديرة بالثقة والاعتماد.

*****

مع مرور الوقت، نلاحظ أنهما تتبادلان الأقنعة حتى يحدث التداخل والانصهار بين وعي الشخصيتين وهويتيهما، فتتقاسمان القناع نفسه.

سلوك المرأتين الآن يصبح عنيفاً. التداخل الرهيف في البداية للهوية، يتعذّر ضبطه أو التحكم به في ما بعد.

الثنائية تتجلى في العديد من النواحي طوال الفيلم. الالتحام يحدث حتى على مستوى اللغة، مناجاة النفس، حيث الممرضة ألما تعبّر عن نفسها وعن ذات الأخرى في الوقت نفسه. في أحد المشاهد تتحدث ألما معبّرةً عن كل ما رفضت إليزابيت النطق به، والبوح به، أثناء صمتها الطويل.

عندما ترى ألما المريضة جالسة تتأمل في أسى صورة ابنها الممزقة، تطلب منها أن تتحدث عن ابنها، لكن الأخرى ترفض، فتبدأ هي في التعبير عن مشاعر الأخرى: [شخص ما قال لك، يا إليزابيت، لديك كل شيء، كامرأة وكفنانة، لكن تنقصك الأمومة. وأنت ضحكت لأن ما يقوله سخيف وبلا معنى. لكنك لا تكفّين عن التفكير في ذلك. يزداد قلقك، ولا يزول إلا بعد اكتشافك أنك حبلى. الآن تريدين أن تصبحي أماً. لكن مع مرور الوقت، يعتريك الخوف، تخافين من المسؤولية، من الإحساس بالقيد، من الابتعاد عن المسرح. تخشين من الألم، من الموت، من انتفاخ جسمك. لكن طوال الوقت تستمرين في التمثيل، تؤدين دور الأم السعيدة التي تنتظر مولودها. والجميع يقولون: “لم نرها يوماً سعيدة كما تبدو الآن”. حاولتِ عدة مرات أن تتخلصي من الجنين، لكنك أخفقت. عندما أدركتِ أن الأمر محتوم، بدأت في كراهية الطفل، وتمنيت أن يولد ميتًا. أن لا يبقى على قيد الحياة. أردتِ طفلاً ميتًا. وكانت الولادة طويلة وعسيرة. عانيت وتألمت لأيام. غير أن الطفل جاء إلى الحياة قسرًا. نظرت باشمئزاز إلى الطفل الصارخ عاليًا، وهمست له: “ألا يمكنك أن تموت قريبًا؟ أليس بوسعك أن تموت؟”. لكنه نجا. وكان يصرخ ليلاً ونهاراً. وبغضك له يزداد. كنت خائفة. اعتراك شعور بالذنب. في نهاية المطاف، جاء الأقارب، جاءت المربّية، وتولوا أمر العناية بالطفل، حتى يتسنّى لك مغادرة فراش المرض والعودة إلى المسرح. لكن المعاناة لم تنته. الطفل تملّكه حب شديد، يتعذّر فهمه ولا يُسبر غوره، تجاه أمه. وأنت قاومت بشدّة وعلى نحو يائس، لأنك شعرت بعجزك عن مبادلته الحب. حاولتِ، المرّة تلو الأخرى، لكن اللقاءات بينكما كانت قاسية، خرقاء وغير مريحة. لم يكن بإمكانك فعل ذلك. كنت فاترة، لا مبالية. وهو ينظر إليك. يحبك. هو ناعم، رقيق، وأنت ترغبين في ضربه لأنه لا يدعك وشأنك. تظنين أنه بغيض ومنفر، بشفتيه الغليظتين وجسده القبيح وعينيه الدامعتين، المتوسلتين. وكنتِ خائفة]. 

أثناء مونولوج ألما، تكون الكاميرا مركّزة على وجه إليزابيت وعينيها الطافحتين بالألم والأسى والأسف والذنب. في البداية تستنكر ما تسمعه ثم تصغي بمزيج من الانفعالات.

ثم مباشرة، تنتقل الكاميرا لتركّز بؤرتها على وجه ألما، فيما تعيد إلقاء المونولوج ذاته. وتنهي كلامها بمحاولة إنكار التطابق مع الأخرى، قائلةً: “أنا لست مثلك، لا أشعر كما تشعرين. أنا لست إليزابيت فوغلر، أنا الممرضة ألما”.

غير أن الإنكار لم يعد مقنعاً، وهذا الانزلاق بين الأنا والأخرى يُظهر المحو المؤكد للتخوم بينهما. والوجهان يندمجان معاً.

إن ألما تحلم أنها أصبحت الأخرى، إلى حد أننا نراها تمارس الحب مع زوج المريضة، بينما المريضة تراقب في تجرّد، وأسى، وعجز عن فعل أي شيء. إن بيرغمان يقدّم لقطات تخيّل أخرى للمرأتين، والتي تحدث في نوع من الفراغ السرمدي.

هذا الاندماج يصبح مرهقاً وموجعاً، خصوصاً للممرضة التي تحاول جاهدةً أن تقاوم هذا التداخل والاندماج.

*****

فجأة، وعلى نحو غامض، تختفي المريضة إليزابيت. ثم نرى الممرضة ألما تحزم ملابسها داخل الحقيبة، تقفل باب المنزل، وترحل وحدها في حافلة خالية. أثناء مغادرتها، تتحرك الكاميرا لتُظهر فريق العمل وهم يصورون المشهد الذي شاهدناه.. وكأن بيرغمان، في هذه الإيماءة السوريالية، البريشتية، يريد أن يذكّر الجمهور بأن الصور التي يراها ليست حقيقية، إنما هو مجرد فيلم.

في النهاية، تعود إليزابيت إلى المسرح، وتعود ألما إلى التمريض، لترتدي كل منهما القناع الذي يحجب الذات الداخلية المعذّبة، في محاولة لإعادة ترسيخ الهوية التي رأيناها تتصدّع وتتقوّض على نحو يتعذّر استعادتها.

مع تبعثر السرد، يحترق الفيلم داخل جهاز العرض، والشاشة تصبح بيضاء وخالية. بعض الصور التي شاهدناها في الافتتاحية تعود، على نحو سريع. ثم نرى الصبي ذاته وهو يحاول تلمّس وجه المرأة. الصورة تبدو خارج البؤرة. ثم نرى تمازج المرأتين. وتنغلق الدائرة مع التقاء البداية بالنهاية.

*****

من بين قضايا أخرى يتناولها الفيلم، يقدّم بيرغمان تحرّياً فلسفياً مدروساً للمعضلات والمسؤوليات التي تواجه الفنان في علاقته بمحيطه السياسي والاجتماعي.

في تأويل الناقد الفرنسي مارسيل مارتان للفيلم بوصفه تأملاً في السينما، يقول: “كان مقصوداً به أن يكون على نحو ما فيلماً داخل فيلم. من اللحظة الأولى يجلس المتفرج مندهشًا أمام تلك الصور الشاردة، غير المترابطة، التي يكون بعضها في متناول الفهم: رجل وامرأة يتعلقان بطفل مقمط في ملاءة بيضاء. وجه غامض لامرأة. صورة عنكبوت. حمَل ذبيح. وجه امرأة عجوز. جسم ساكن عابس. كما تظهر أيضا عيّنات لأشخاص صامتين على نحو مضحك. ماذا تعني تلك الصور الغريبة الشاذة؟”.

مارتان يفسر صمت إليزابيت بوصفه “السبيل الوحيد الممكن لانقاذها من التواطؤ في الجريمة، في العنف الذي يجتاح العالم اليوم، وهو ليس عنفًا مجردًا بل يمارَس في فيتنام، والذي يفضي إلى الصدمة والجنون. هي ترى في الصمت ضرباً من الانتحار”.

الناقد السويدي سفِن ميكوليك أيضاً ينظر إلى الفيلم بوصفه تأملاً في السينما، مرتكزًا على عدة مظاهر: العنوان الأصلي للفيلم كان “تصوير سينمائي” Cinematography، لكن المنتج نصح بيرغمان بتغيير العنوان، فاستقر على “برسونا”، “الذي يتصل بالتمثيل، وطبيعة الفيلم، وقوة الصور. إنه فيلم عن شريط السيلولويد، عن المادة الأساسية في صنع الفيلم. إنه يبدأ بجهاز العرض، في وضع تشغيل، وينتهي بالجهاز وهو في وضع إغلاق، ليحثّنا على النظر إلى الفيلم كوسط. برسونا يحطم الحائط الرابع، بل ويتيح لنا، عند موضع ما، أن نرى الفنيين وهم يصوّرون مشهداً”.

وبيرجمان أيضًا يحيلنا إلى الفيلم كمادة للتأمل، ليس في بداية ونهاية الفيلم فحسب، بل أيضًا في المنتصف، مباشرةً بعد لقطة قريبة لوجه ألما المرعوبة، تتهشم الصورة كما لو أنها مرآة، ثم تحترق. المشهد التالي يأتي على نحو طبيعي، كما لو أن شيئاً لم يحدث للتو. كما لو أن ما حدث مجرّد لحظة سحرية عابرة.

على هذا، تعلّق سوزان سونتاج، في مقالتها المنشورة عن “برسونا” (المصدر المذكور آنفًا) قائلةً: “نهج بيرغمان، لقطات البداية والنهاية، والانقطاع المفاجئ في المنتصف، هو أكثر تعقيداً من استراتيجية بريشت في تقنية التغريب، وإبعاد الجمهور، عبر تذكيره المتواصل بأن ما يشاهده ليس هو الواقع الحقيقي بل واقع المسرح المصطنع. بيرغمان يقدّم بيانًا عن تعقيد ما يمكن أن يُرى، والطريقة التي بها، في النهاية، تكون المعرفة العميقة، الجسورة، مدمّرة. أن تعرف شيئًا بحدّة وكثافة يعني، في آخر الأمر، أن تستنفد ما هو معروف، أن تستهلكه، وتجد نفسك مرغماً على الانتقال إلى أشياء أخرى. مبدأ الكثافة يكمن في لبّ حساسية بيرغمان، ويحدّد النواحي الخاصة التي فيها يستخدم أشكال السرد الجديدة”.

*****

في هذه التحفة الفنية، يتداخل الحلم والواقع، وتتشابك الأزمنة، على نحو لا ينفصم، وغير قابل للتمييز. في هذا تكمن صعوبة الفيلم، ذلك لأن بيرغمان يمتنع عن تقديم إشارات أو علامات تميّز بين ما هو واقعي وما هو خيالي أو حلمي، بين ما هو حقيقي وما هو وهمي أو هذياني، بين ما حدث في الماضي وما يدور في الحاضر. خصوصاً وأن بيرغمان يصوّر مختلف الحالات (الواقعية والحلمية أو الهذيانية) بالإيقاع ذاته، بالمظهر الموضوعي ذاته. والمواقع تبدو واقعية ظاهرياً، غير أنها مؤسلبة لإثارة إحساس عميق بحالة الوحدة.

لنتأمل المشهد الآسر، الغامض، لظهور اليزابيت في حجرة ألما وهي تبدو وكأنها تسير في الهواء لا على الأرض، ثم تعانق ألما.. هذا المشهد مغمور بخاصية سحرية، أو حلمية، حيث الإضاءة ضبابية أو غائمة.

بيرجمان لا يريد أن يكتفي بتقديم قصة عن علاقة غامضة ومجرّدة بين امرأتين. وهو لا يمنحنا مفاتيح تساعد المتفرج على التمييز وفك مغالق فيلمه. لا يمنحنا معلومات عبر السرد. لا يلبّي حاجة المتفرج إلى الرضا التام وإشباع رغباته في المعرفة وفي الفهم، لا ينسجم مع توقعات المتفرج، لا يحلّ لغزاً. بالطبع ليس القصد هنا تعذيب المتفرج وإزعاجه وإرهابه والاستهانة به، إنما هي محاولة – من مخرج يحترم جمهوره ويقدّر ذكاءه – لأن يضمن مشاركة المتفرج وتفاعله على نحو إيجابي وخلاق.

*****

“برسونا” عمل إبداعي أخّاذ بصرياً، تحت إدارة مدير التصوير العظيم سفن نايكفست. وكما الحال مع أفلامه الأخرى، يكشف عن عبقرية بيرغمان في تصوير الوجه الإنساني، في لقطات قريبة مديدة، وذلك لأسر جوهر مشاعر الشخصية، ولاستنباط أداء معبّر ومدهش. وهو يتيح لنا الوقت الكافي لتأمل الوجوه، مع التركيز على العيون وحركات الشفاه.

حاز الفيلم على العديد من الجوائز، من بينها جوائز صناعة الفيلم السويدي كأفضل فيلم وأفضل ممثلة (بيبي أندرسون). وجوائز الجمعية الوطنية لنقاد السينما في الولايات المتحدة كأفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل ممثلة (بيبي أندرسون).

*****

هنا ترجمة لحديث إنغمار بيرغمان عن فيلم “برسونا”:

* فكرة الفيلم استوحيتها من صورة. يومًا ما، فجأة شاهدت أمامي  امرأتين جالستين متجاورتين. فكّرت، لابد أن واحدة تتكلم والأخرى صامتة. لا تتفوّه بكلمة. ثم تقارن المرأتان أيديهما. في النهاية تندمجان لتصبحا امرأة واحدة.

هذه الفكرة الصغيرة أخذت تراودني وتلحّ عليّ بين الفينة والأخرى. ما السبب؟ لماذا هذا الحضور المتكرّر للفكرة، بهذه الدرجة من الإلحاح؟ إنها كما لو تطلب مني الشروع في الاشتغال عليها.

عندئذ تكتشف أن ثمة شيئًا ما خلف الصورة.. كما لو أن هناك باباً. وإذا أنت فتحت الباب، بهدوء وحذر، فسوف تجد رواقًا طويلاً يتّسع شيئاً فشيئاً، ثم فجأة ترى المَشاهد تتخلّق وتتحرك، والأشخاص يشرعون في التحدّث، والحالات تبدأ في التنامي  والتفاعل في ما بينها.

بالعودة إلى الصورة، نحن نرى الضوء يخترق القبعات، من خلال العيدان المتشابكة، ليضيء وجهي المرأتين. الشمس قوية في هذه الصورة. إنه أمر غريب جداً، فالضوء جزء متّحد بتجربتي منذ البدايات. 

* فجأة نرى وجهين يتداخلان، عندئذ يولد الفيلم. في ما يتعلق بالتأويل، يمكنك أن تفسّر الفيلم بأي طريقة تشاء.. كما الحال مع أي قصيدة. الصور تعني أشياء مختلفة بالنسبة لأفراد مختلفين.  

* لقطات الافتتاحية تتصل بصنع الفيلم ذاته، ببداياته. إنها قصيدة بصرية، ليست في كلمات ولكن في صور، عن الحالة التي بها ابتدأ فيلم برسونا. لقد فكرت مليًا في ما كان مهمًا، فبدأت بجهاز العرض (البروجكتر) ورغبتي في تحريكه. لكن عندما دار الجهاز، لم تظهر سوى أفكار قديمة.. عنكبوت، حَمَل، وأشياء أخرى باهتة وبليدة. حياتي آنذاك كانت تتألف من أفراد موتى، جدران من قرميد، وبضع أشجار كئيبة في المتنزّه. في المستشفى، يتكوّن لدى المرء إحساس قوي بوجود جثث تطفو عبر هيكل السرير، الذي إلى جواره، كنت أرى المشرحة، وأشخاصًا يدخلون ويخرجون حاملين التوابيت الصغيرة.  

* هذا الفيلم هو المخلوق الذي أنقذ خالقه. قبل أن أحقّقه، كنت مريضاً. أصبت مرتين بداء ذات الرئة وبالتسمّم. فقدت توازني لمدة ثلاثة شهور. قبل ذلك، في الصيف، كتبت سيناريو لكنني أخبرت الجميع أنني سوف أصرف النظر عنه لأنه نص معقّد، ولم أشعر برغبة في إنجازه.

أذكر جلوسي على سرير المستشفى، محدّقًا مباشرة أمامي في بقعة سوداء، ذلك لأنني إذا أدرت رأسي فإن الغرفة كلها تبدأ في الدوران على نحو سريع. كنت أقول لنفسي: بعد الآن سوف لن أخلق شيئًا أبدًا. كنت خاويًا تمامًا، ميتًا تقريبًا. المونتاج – في بداية الفيلم – هو مجرد قصيدة تعبّر عن تلك الحالة الشخصية.

يوماً ما، بدأت فجأة بالتفكير في امرأتين جالستين متجاورتين. هذا المشهد استطعت أن أدوّنه بعد جهود مضنية. بعد ذلك فكرت في تحقيق فيلم صغير جدا، قليل التكاليف، ربما بكاميرا 16 ملي، عن امرأتين.. واحدة تتكلم والأخرى صامتة (بالتالي سيكون عبارة عن مونولوج ضخم). سوف لن يكون شاقاً بالنسبة لي. كنت أكتب القليل كل يوم. لم أكن أنوي تحقيق فيلم اعتيادي بسبب حالتي الصحية، غير أني درّبت نفسي على الكتابة. كنت أنتقل يوميًا، في العاشرة صباحاً، من السرير إلى طاولة الكتابة. أحيانًا كنت أكتب وأحيانًا أظل ساكنًا وعاجزًا. بعد أن غادرت المستشفى، دأبت على الذهاب إلى الشاطئ حتى أنهيت السيناريو، لكن من دون أن أشفى تمامًا. مع ذلك قررنا أن نمضي قُدمًا، والمنتج كان متفهّمًا جداً، إذ ظل يحثّني على الاستمرار.

في منتصف يوليو بدأت التصوير، وأنا في حالة من الإنهاك والمرض الذي يسبّب لي الدوار كلما نهضت. في الأسبوع الأول كانت النتائج فظيعة. أردت أن أتخلى عن كل شيء، لكن المنتج استمر في تشجيعي، طالبًا مني الانتقال إلى الجزيرة والتصوير هناك. عندما وصلنا إلى هناك، بدأت الأشياء تنتعش على مهل. كان التعاون مع الممثلين والمصور رائعًا. 

* لم أكتب سيناريو بالمعنى المألوف لهذه الكلمة. إن ما كتبته يبدو لي أشبه بلحن يؤديه صوت واحد أو آلة موسيقية، وفي ما بعد سوف أقوم بعزفه أثناء التسجيل بمعاونة مساعدي.

* ثمة موضوعات عديدة أقف أمامها حائراً ومتردداً. لقد تبيّنت بحق أن الموضوع الذي وقع اختياري عليه ليس عادياً، وأن الاختيار الذي أملى علي إدراج مجموعات من المناظر في الفيلم النهائي – وهي فكرة أرتجف لها – إنما هو نابع من ذاتي. لذلك أدعو المتفرج أن يطلق العنان لخياله في استغلال العناصر التي أضعها تحت تصرّفه.

* إليزابيت، التي تمتهن التمثيل، تفتقر إلى حس الدعابة. كل من يعمل في مجال التمثيل لا ينبغي أن يأخذ المسرح بجديّة تامة. الفن كله مجرد لعبة.  

* عندما تشاهد إليزابيت التلفزيون، وترى الراهب البوذي يحرق نفسه احتجاجاً في فيتنام، تشعر بأن هذا الراهب يخيفها، ذلك لأن إيمانه الراسخ هائل إلى حد أنه مستعد لأن يموت في سبيله. الصورة الفوتوغرافية تمثّل المعاناة الحقيقية.

* ألْما، الممرضة، تنساق إلى الجنون بدافع الاستياء والغيظ، إلى حد أنها لا تعود قادرة على تركيب الكلمات، التي لم تعد نافعة. لكن هذه المسألة لا تتعلّق بعلم النفس، بقدر ما تأتي في مرحلة ما داخل حركة الفيلم نفسه، حيث لا تعود للكلمات أي معنى.

* الفيلم يطرح أسئلة ميتافيزيقية عن ما هو الحقيقي، متى وكيف يقول المرء الحقيقة، إن كانت هناك ثمة حقيقة.

* “برسونا” هو أحد أهم أفلامي. اليوم، أشعر أنني في برسونا، ثم في “صرخات وهمسات”، قد مضيت إلى أبعد مما استطيع المضي فيه. في هذين الفيلمين، اللذين حققتهما بحريّة كاملة، اتصلت بالأسرار الصامتة التي وحدها السينما قادرة على اكتشافها.  

***

إنغمار بيرغمان يصف مشهداً من فيلمه “برسونا”، حيث تتكلّم بيبي أندرسون في مونولوج طويل بينما ليف أولمان تصغي صامتة..

يقول بيرغمان: “لو نظرت إلى وجه ليف فإنك سترى بأنه يتورّم وينتفخ طوال الوقت. إنه آسر.. شفتاها تنتفخان، عيناها تصيران أكثر قتامة وغموضاً، وهي كلها تتحوّل إلى نوع من الشراهة. ثمة لقطة جانبية لها، هنا، والتي لا تضاهى. بإمكان المرء أن يرى وجهها يتحوّل إلى ما يشبه القناع الحسّي، الفاتر، غير الودّي. حين أردنا أن نصوّر اللقطة، طلبت من ليف أن تحشد كل إحساسها في شفتيها. كان عليها أن تركّز وتكثّف كل حساسيتها وتضعها هناك. بإمكان المرء أن يضع إحساسه في أجزاء مختلفة من الجسد، بامكانه أن يستجمع انفعالاته في الإصبع أو الإبهام أو المؤخرة أو الشفاه. من بين كل الأسطح، أو المظاهر الخارجية، الوجه هو الأكثر تعبيرية. إنه مرآة تكشف وتفشي الكثير. وبما أن الوجه يعكس أفكاراً ومشاعر، فإنه ليس مجرد سطح بل سطح عاكس. بالتالي فإن الوجوه – في الفيلم – هي بالتأكيد الأكثر قيمةً، معرفياً، من الأسطح الأخرى على الشاشة – الأشياء، المناظر، وغيرها – والتي لا يمكن أن تكون إلا نفسها”.

مصادر الترجمة:

Continental Film Review, August 1971

كتاب  Bergman on Bergman, 1973

Encountering Directors, Charles T. Samuels, 1972

Visited 4 times, 1 visit(s) today