“حظر تجوّل”: الديب من ديله”!

في العامِ 2002 أصدرتْ الكاتبةُ الأمريكية كاثرِن أورِنشتاين كتابَها البديعَ “ليلى الحمراء تخلع رداءها: الجنسُ، والفضيلةُ، وتطورُ الحكاية الشعبيّة” الذي تتعقّب فيه بمهارةٍ فائقةٍ قصةَ الأطفالِ الشهيرة التي عرّبها المترجمون إلى “ليلى الحمراء والذئب” أو “ليلى والذئب”، وعلاقتها بالبيدوفيليا، والاغتصاب، ومفاهيم النوع الاجتماعي.

 وفي 1965 عُرضت مسرحية “أنا فين وإنتي فين” من كتابةِ بهجت قمر وسمير خفاجى عن سليلةِ الباشاوات دولت البيرقدار كاف (شويكار) التي تستعينُ بالموظفِ البسيطِ أيّوب جاد الحق (فؤاد المهندس) كي يلعبَ دورَ زوجِها المُتوفَّى، مستغلةً شبهه الكبير به، حفاظًا على نفسيةِ طفلتِها الوحيدةِ جيهان طبّوزاده (منى وهبي) من آثار اليُتم.

ما الذي يربطُ بينَ المسرحيّةِ المصريّةِ والكتابِ الأميركيّ اللذيْن يبدوان على قدرٍ من التنافرِ؟ إنّه فيلم “حظر تجوّل” للمُخرج المصريّ أمير رمسيس.

دقيقتان أكثر ذكاءً

يدورُ الفيلمُ في فترةِ الحظرِ من عام 2013 في القاهرةِ، عن فاتن (إلهام شاهين) التي تخرجُ من السجنِ بعد 20 عامًا، يستقبلُها الشابُ الوسيم حسن (أحمد مجدي)، وزوجتُه الجميلةُ ليلى (أمينة خليل) التي تكنُّ لفاتن كراهيةً لم تفلحْ في إخفائِها، تتكشّفُ القصةُ ببطء، فنعرفُ أنّ فاتن والدة ليلى وأنّها دخلتْ السجنَ في قضيةِ قتلِ زوجها، والد ليلى، لأنّه تحرّش بابنتِهما آنذاك، تُخفي فاتن السِرّ عن ابنتِها، لسببٍ لم يقنعني به الفيلمُ، ولذلك تُعاملُها الأخيرةُ كغولةٍ قتلت أبيها وحرمتها منهما في نفسِ الوقت، ولم تستطعْ ليلى الغفران لأنّها، ببساطةٍ، لا تعرفُ أسبابَ الجريمةِ.

إنّ “حظر تجوّل” يستحضرُ التحرّشَ بالأطفالِ داخلَ العائلةِ، لكنّه لا يُناقشه، فهو لا يستعرضُ الأسبابَ، ولا يغوصُ في شخصيةِ المُتحرّش، ولا يُشرّحُ قانونَ الجناياتِ المتعلق بالتحرّش، ولا يُجادلُ في صعوبةِ إثباته، ولا يُركّز على التعاملِ مع مرحلةِ ما بعد الصدمةِ، بل حتى أنّه لا يتساءلُ إن كان سجنُ فاتن عادلًا أم لا، ولذلك أرى أنّ الاعتقادَ بأنّ هذا الفيلمَ  يُناقش قضيةَ التحرّشِ يُحمّله أكثر مما يحتملُ، ويحرفُه عن مسارِه الفنيّ، فالتحرّش هُنا، مثل حظر 2013، عنصر في القصّةِ الدراميّةِ فقط، وليس هدفَها.

“حظر تجوّل” مثل آلاف الأفلام التي يُمكن تناولُها من زوايا مختلفةٍ: مدى انضباطِ الحبكةِ، الحمولةُ الاجتماعيةُ، الأداءُ التمثيليّ الخ، بالنسبةِ لي إنّ أبرع ما في الفيلمِ كان الأقصرَ زمنًا، والأكثرَ خُفيةً عن العينِ للوهلةِ الأولى، وربّما الثانية والثالثة أيضًا، وأتحدّثُ هنا عن استخدامِ أغنيةِ الأطفالِ “رايج أجيب الديب من ديله” التي بطّنتْ مشهدَ التحرّش، وعن اختيارِ اسمِ ليلى ليكونَ اسمَ الضحيةِ.

المعنى في بطنِ المُتأمّل

لنفسِ الأسبابِ التي فطَن لها مخرجو وكُتّاب أفلامِ الرعبِ فكدّسوا الأطفالَ في سينماهم، أجدُ من السهولةِ بمكان تحوّلَ أغاني الأطفال من وظيفتِها التي أُلفت من أجلِها لتُصبحَ حاملةً لجرعاتٍ ضخمةٍ من الرُعب الميتافيزيقي أو الواقعيّ، ولَن أكون متجنيّةً إذا قلتُ أنّ لدى أغاني الأطفالِ إمكانيةً أكثر مِن سواها على اجتراحِ معانٍ عميقة و”كبيرة”: خوف، وسياسة، وإيروسية.

ولو تفحصّنا بعض العبارات المُقتطعةِ من أغاني الأطفالِ الشهيرةِ مثل: “راح مدّيله حُقنة كبيرة” و”هنروح الجنينة ونشبّك إدينا”، و”طول عمرك مقاوح ويّا الصيادين”، و”بصّوا وشوفوا حاجاتي إنّما إيه في السر”، لوجدنا انّ كل شطرٍ مما سبق يُمكن، بسهولةٍ شديدةٍ، أن يعني رُعباً خالصًا، أو هجاءً سياسيًا، أو تلميحًا جنسيًا، أو كُل ذلك سويًّا.

 في طفولتي، مثلًا، كنتُ أخاف من أغنية “توت توت” من مسلسل “لا يا ابنتي العزيزة” لعبد المنعم مدبولي وهدى سلطان، عندما تقولُ الأخيرةُ “أبو سنجة طويلة عامل هُلّيلة”، لقد كانت هذه العبارةُ كفيلةً بإصابتي بالأرق، خاصةً بوجودِ ذلك البيتِ الكئيبِ، وقصّةِ المسلسلِ بالغةِ الحُزن.

ولهذا فإنّ اختيارَ المُخرج أمير رمسيس لأغنيةِ “رايح أجيب الديب من ديله” لكي يتمّ على أنغامِها تحرّشُ الأبِ بطفلتِه، كان أبلغَ من أيّ اجتهاداتٍ موسيقيةٍ أخرى مهما حاولتْ أن تُجسّدَ تلك اللحظةَ المُخيفة، واختتامُ الفيلمِ بها عزّز الأثرَ النفسيّ الذي يتركه: حُزن، وتفجّع، وخوف، وإهدار ثلاث حيواتٍ كاملةٍ، مع امتزاجِ هذا الحضورِ بأوتارِ المؤلّفِ الموسيقيّ البارع تامر كروان.

الأبُ الخطأ في المكانِ الخطأ

حسب المثل المصريّ الشهير، فلان “جاب الديب من ديله” يعني أنّه ذكيّ، وشجاعٌ، وواسعُ الحيلةِ حدّ الإتيان بالذئبِ من ذيلِه.

أمّا أغنية “رايح أجيب الديب من ديله”، أشهر أغنية أطفالِ لفؤادِ المهندس، فقد وردت ضِمنَ أحداثِ المسرحيّة المذكورةِ أعلاه، وهي أغنيّةٌ جميلةٌ، وغائصةٌ، ومُتعدّدةُ الإحالات، وتنأى بعيدًا عن النهجِ الذي يتّبعُه الآباءُ عادةً في المبالغةِ بتصوير قدراتِهم أمامَ أطفالِهم، فالراوي/الأبُ يقولُ في مطلعِ الأغنيّةِ بأنّه سيذهب لـ”يجيب الديب من ديله”، وإن فشلَ سيدّعي عدم وجود ذيل لدى الذئب، ثم يؤكدُ أنّه سيذهبُ لينالَ منه متمنيًا وجود ذيلٍ له!

لم يستغلْ الفيلمُ الأغنيةَ للإمعان في المشهدِ المُروّع بسببِ الكلماتِ الغامضةِ واللحنِ المُقبض فقط، بل يذهبُ بنا إلى أبعد من ذلك، إلى مسرحيةِ “أنا فين وإنتي فين” ذاتِها.

في المسرحيةِ يموتُ الأبُّ طبّوزاده فيحلّ محلَه الموظفُ الفقيرُ أيّوب جاد الحق بسبب الشبهِ الكبيرِ بينهما باتفاقٍ مع الأُم دولت البيرقدار كاف، وينطلي ذلك على الطفلةِ جيهان المشتاقةِ إلى والدِها، وعندما يوشك أيّوبُ على مغادرة القصر، تُفاجئه جيهان، وتسأله عن وجهتِه، والإجابة هي الأغنيّة التي يشتركُ في تقديمِها مع جيهان التي لا تعرف حتى تلك اللحظة أنّها تُغني، وتمرحُ، وتسكبُ أشواقَها على رجلٍ ليس والدها.

في “حظر تجوّل” يختلي الأبُ الحقيقيّ بابنتِه في ظهيرةِ أحد الأيام، بعد خروج الأم فاتن إلى عملِها كمُعلّمة، وبينما تلوّن الطفلةُ ليلى كرّاستها على أنغامِ “رايح أجيب الديب من ديله”، يدعوها والدُها لتلعبَ معه، ويُجلسُها على ساقيه، وفي مشهدٍ لا يتعدّى النّصف دقيقة نرى على الأرضِ خُفَّيْ الطفلة وقميصَ نومِها، هنا تعودُ فاتن من الخارجِ، وتضبطُ الأبُّ مع الطفلةِ في الغرفةِ المُغلقة، فتُعاجله بسكينِ الفاكهة، وتنتهي العائلةُ إلى الأبد، وتتجمّدُ هذه الحادثةُ في ذاكرةِ الطفلة.

يموتُ الأبُ في “حظر تجوّل” موتتيْن مُتتاليتيْن، الأولى رمزيًا عندما استحالَ إلى ذئبٍ يتحرّش بطفلتِه، ثم الميتة الفعليّة على يدّ زوجته فاتن. كلا الطفلتيْن جيهان وليلى “تلهوان” مع أبٍ مزيف، حقيقةً ومجازًا.

من ليلى بول ديلارو إلى ليلى “حظر تجوّل”

إنّ اسمَ ليلى كاسحُ الحضورِ في الثقافةِ العربيّةِ، فليلى هي المعشوقةُ الأبديّةُ، الكاملةُ، الفاتنةُ، التي خلّدتها قصةُ عشقٍ تتألقُ منذُ قرون، لكن في نفسِ الوقتِ، يحملُ اسمُ ليلى دلالةً إضافيّةً بسببِ قرارِ المُعرّبين والمترجمين الذين اختاروا لبطلةِ القصةِ العالميّة التي يلتهمها الذئبُ اسمَ ليلى.

في كتاب كاثرِن أورِنشتاين آنف الذكر بحثٌ مفصَلٌ فائق الإمتاع عن قِصّةِ ليلى والذئب منذُ الصوت الأول لهذه الحكايةِ الأوروبيّةِ، وحتى اقتباساتِ السينما لها، مرورًا بتنويعاتِها في إعلانات بيبسي، وماكس فاكتور، ولوحاتِ الرسامين، والنكاتِ البذيئةِ، والأفلامِ الإباحيةِ التي تدورُ حولَ ليلى وذئبِها.

أمّا في الشرقِ الأوسط فهناك، على سبيل المثال، الدّراسة المُقارنة “ليلى والذئب: هل هي قصة أطفال!” المنشورة في مجلّةِ المجمع: أبحاث في اللغةِ العربيةِ والأدبِ والفكرِ/ العدد الثامن، وتتناولُ فيها المحاضِرةُ في جامعةِ حيفا د. كلارا سروجي- شجراوي الجذورَ الاجتماعيّةِ والثقافيّةِ لقصةِ الأطفالِ الشهيرةِ معتمدةً على 4 نسخٍ من القصةِ من 4 دول مختلفة: الصين، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا.

إنّ أصولَ هذه القصةِ، والحديثُ هنا لسروجي-شجرواي، تعودُ إلى الكاتبِ الفرنسيّ بول ديلارو الذي نقلها من قصةٍ قرويّةٍ، وحياة القرويين منبعٌ سخيٌ لعددٍ هائلٍ من القصصِ الشعبيّة العالميّة، إذ يقضون رتابةَ ساعات العملِ في الحكي وتأليفِ القصص التي يُمثلُ الجنسُ فيها عنصراً محورياً، أو ربما هو القصة بكلّها.

إنّ النسخةَ التي وصلتْ إلى العالمِ العربيّ كقصصٍ مصوّرةٍ وأفلام كارتون، هي النسخة التي هذّبها ونشرها الأخَوان الألمانيّان ياكوب وفيلهلم غرِم قبل أكثر من مائتي عامٍ، وفيها الطفلةُ ليلى التي تُعطِها والدتُها سَلّة طعامٍ لتأخذها إلى جدّتِها المريضةِ في طرفِ الغابة، وتحذّرها من اللهوِ والحديثِ مع الغرباء، لكن زهورَ الغابةِ تُغري ليلى فتتسلّى بتأملّها، يجدُها الذئبُ ويستدرجُها مُدعيًّا معرفة بيتِ جدّتها ويلتهمهما هناك، ثم يتم إنقاذُهما على يدِ الحطّابِ الشُجاعِ الذي يقتلُ الذئبَ.  

تذكرُ كلارا سروجي-شجراوي أنّ الكاتبةَ والصحافيةَ الأمريكية سوزان براونمِلَر ترى قصةَ ليلى والذئب “أمثولةً رمزيةً ذات مغزى أخلاقيّ عن اغتصابِ المرأةِ، فمنذُ الطفولةِ الباكرةِ يُهمس في آذانِ الفتيات بأنهنّ (لا الأولاد) مُعرضاتٍ للاغتصابِ، والحكايات الخياليّة-الخرافيّة ملأى بالمآسي التي قد تصيبُ الفتياتِ الصغيراتِ”

أمّا الفيلسوف وعالم النفس إيريك فروم فيرى، حسب سروجي-شجراوي أيضًا، أنّ “ليلى والذئب” لا تُقدّمُ الموضوعُ الأخلاقيّ، الذي كثيراً ما نجدُه في الحكاياتِ الخياليّةِ عن مخاطرِ العلاقاتِ الجنسيّة فحسب، بل تُصوّر الرجالَ كحيواناتٍ مُخادعةٍ وبدون رأفة، وتتحولُ العمليةُ الجنسيّةُ إلى “طقس كانيبالي” لآكلي لحومِ البشر، فيها يبتلعُ الرجلُ المرأةَ.

إذن، لم تكن “ليلى الحمراء والذئب” سوى قصة تحذيريّة، تُحدّدُ ما على الأنثى أن تتجنّبه أثناءَ مشيها في الغابةِ/ الحياةِ، وبالذات عندما يغيبُ الرقيبُ/المجتمعُ/ الأمّ، وإن كانت محظوظةً فسيُنقذُها “حطّابٌ” ما يهزمُ الذئبَ، فليلى هنا الأنثى/ الهدف التي يسعى إليها الرجال، ذئابًا ومجانينًا، وربّما من هذا التصوّر جاء التعبيرُ المبتذلُ “الذئاب البشريّة” للإشارةِ إلى المُغتصبين والمتحرّشين.

لا أعرفُ إن كان المُخرج أمير رمسيس قد تعمّد اختيارَ اسمَ ليلى للبطلةِ ضحيّة التحرّش أم لا، إن كان نعم فهو دليلٌ آخرٌ على حصافةِ الاختياراتِ، وإن لا فهي ضربةُ حظّ موفقّةٌ بالفعلِ.   

هل مرّ الحطّابُ من هنا؟

ليس لليلى في “حظرِ تجوّل” جَدّةٌ تذهبُ إليها بالشطائرِ، والعصيرِ، والفواكهِ مثل القِصّة الشهيرة، ولم يكن الذئبُ غريبًا عنها، ولم يؤذِها في الغابةِ ولا في الحقلِ، بل تمّت تلك الجريمة بين يديّ الأبِ في البيتِ، وعلى سريرِ الأم الغائبة.

لقد استطاعَ الحطّابُ في قصةِ الأطفال أن يبقرَ بطنَ الذئبِ ليُنقذ ليلى وجدّتها، وحجز لنفسِه دورَ البطلِ في الوجدانِ العالميّ، فمن هو الحطّاب الذي استطاعَ أن يُنقذَ ليلى في “حظر تجوّل”؟ إنّها الأم طبعًا، لكنّها لم تنل شرفًا، ولم تعتلِ درجةً أعلى، بل حصلت على عشرين عامًا في السجنِ، وعداوةً تستعرُ من ابنتِها الوحيدة التي لم تعدْ تتذكر ماذا فعل لها الأبُ/الذئبُ في ذلك اليوم على أنغامِ ونبرات فؤاد المهندس وهو يعدُ جيهان بما لن يفعلَه، بينما فاتن هي البطلةُ الحقيقةُ، التي جعلت العالمَ مكانًا أفضلَ بدرجةٍ أو بدرجتين، وهي الحطّابة الشُجاعة التي قَدَرتْ واستطاعت و”جابت الديب من ديله”.

Visited 49 times, 1 visit(s) today