“جُنون الشباب” الفيلم الذي منع من العرض
أمام النّموذج القيمي العربي السّائد قبل جائحة “كورونا”، والمُتوقّع عودته، وبقوة، بعد تلك الجائحة، يظهر فيلم “جُنون الشباب” (1975)، لمُخرجه خليل شوقي، كأحد أبرز الأفلام التي عالجت مسألة السّعادة والثّورة على الموروث القيمي السّائد وتبنِّي نموذج مُغاير، باقتدار.
مجموعة من الشّباب يُعانون العديد من المشاكل الأسريّة، وبالتّالي فهُم ساخِطون على العادات والتّقاليد والقيم السّائدة والبالية، في نظرهم.
“سلوى” (ميرفت أمين)، تُعاني من أبّ كذّاب مُنافق، يعشق النساء ويهجر زوجته، وأمّ ضعيفة مُستسلمة أمام جنون الأبّ وأنانيته المُفرطة، وترغب تزويج ابنتها من ابن أختها بالطريقة التقليدية، و”علاء” (أحمد رمزي) يُعاني من أمّ “برنسيسة” تعشق الخمر وتتسكّع بين أسرّة الرجال، وأبّ فقير معدوم.
هناك أيضا “عصمت” (سناء يونس) التي تنتمي لأسُرة مُعدمة، وأبّ لا يُمانع من مُخالطة بناته وزوجته للرجال وتقاسم الفراش معهم؛ ما جعلها تكره الرجال أمام أخواتها اللاتي فقدن عُذريتهنّ، وفتاة يُعاشر أبوها الخادمة ما جعلها تفقد معايير الحلال والحرام، وشاب يُعاني العُنف الأبويّ ومنعه من حقه في الحبّ، وآخر ساخط على معايير الوظيفة الاجتماعية والرواتب، وواحدة تنتقد معايير شرف الأنثى وبيت الطاعة وقانون التوظيف، ناهيك عن الحقد الطبقيّ وصراع الدول والحروب وموت العديد من الناس جراء الحروب… إلخ.
لأجل ذلك، قرّر هؤلاء الشباب الحياة، ورفض الواقع السائد، ورفض الاستسلام ومواجهة تلك القيم البائسة، وإعادة بناء قيم خاصة بهم من جديد.
تمرّد هؤلاء الشباب على العادات والتقاليد والحضارة الجوفاء المُزيّفة، وقرّروا التحرُّر والانطلاق، وآمنوا بالحرّية وبأسلوب حياة جديد: حياة تطغى عليها الحفلات الراقصة، حياة مليئة بالخلاعة والمُجون والتحرُّر الجنسي، حياة مغمورة بالخمور والمخدرات، حياة تسير وفقًا لمبادئ أفلاطون الشيوعية (شيوعية المال والنساء). إنّها الحرية المنشودة!
وأمام سخط الأبناء يتساءل الآباء:
– لم نضرّ الأبناء.. فقط قدمنا لهم النصح ولم نسيطر عليهم.. نريد لهم السعادة والنجاح في حياتهم.
= بل فعلنا ما هو أخطر من الجلد والضرب. إنّ تذمُّرنا تجاه الأوضاع الحياتيّة ينعكس عليهم بالضيق واليأس والتمرُّد، ونظهر أمامهم بمظهر العجز..
– وهل الحلّ عندهم هدم كلّ شيء؟ كلّ ما بنيناه؟
= يمكن لأنّنا لم نستطع بناءه!
– نحن نحاول قدر الإمكان أن نُوفّر لهم الراحة ونضمن لهم المستقبل!
= لكن لم نمنحهم ما هو أهمّ: المبادئ والأهداف. رجال الفكر يملؤون الدنيا شعارات عن حق الشعوب الفقيرة المظلومة. الحُكّام يُنادون بالسلام وهم مَن يشعلون الحرب في كل مكان، والشباب هم مَن يدفع الثمن وليس نحن؛ هم مَن يُحاربون ويموتون ويتشوّهون، وهم مَن يُعانون من الاستغلال والاحتكار والأزمات الاقتصادية.. لذلك يطالبون بتحطيم كلّ ما حرم الإنسان السلام والحبّ والسعادة.
– أولادنا على خطأ..
= ونحن أيضًا كذلك..
– ويبقى السؤال: كيف يمكننا تصحيح الخطأ؟!
لقد انفجرت “سلوى” في وجه طوفان العادات والتّقاليد التي أفسدت عليها حياتها، وقرّرت الحياة وفقًا لرغبتها وإرادتها، وانتحرت “عصمت” (المثلية) بعدما تخلّت عنها حبيبتها “داليا” (عزة الشريف) وقرّرت الارتباط بابن عمّها، وأمام انسحاب “داليا” من حياة “عصمت” وارتباطها بابن عمّها، ووقوع “عصمت” في مأزق الشعور بالوحدة والفراغ، اختارت الأخيرة العدم كخلاص وجوديّ.
ومع انتحار “عصمت” وقع المشاهد في جدل مع النفس: هل هي نهاية كانت تستحقّها لما كانت ترتكبه من ذنب؟ أم أنّها لم تستطع التعايش مع رفض المجتمع؟ أم أن فراق الحبيب أقوى من كلّ شيء؟ أسئلة عدة يطرحها الفيلم ويترك الجواب للمشاهد.
ربما يكون هؤلاء الشباب ضحايا ولكنهم تحوّلوا إلى مجرمين، لقد جاء الانتحار بمثابة صفعة، ليست فقط على وجه المتمرّدين، بل كذلك، على وجه المشاهد ليتساءل مع المخرج عن طبيعة القيم التي ينبغي أن نتبنّاها وضرورة مُراجعة موروثنا الفكري والقيمي بكل دقّة وعُمق.
استطاع الفيلم، بحبكته الدراميّة المُتماسكة ـ والتي جسدت ظاهريًا العلاقة بين مجموعة من الشباب المُتمرّد ضدّ القيم والعادات السّائدة ـ وفي ظلّ وجود شخصيات على قدرٍ عالٍ من التواضع الأدائيّ؛ ونجح في جذب اهتمام الجمهور وانتباهه لمدة أكثر من 120 دقيقة من عُمْر الزمن؛ لأنّه ابتعد عن اللغة الشعاراتية الخطابية، وقدّم حكايات مليئة بمشاعر الحبّ والألم والحلم المتقاطع، لقصص ذاتية وموضوعية في الوقت نفسه تجاوزت حدود الذّات، لتشمل وطنًا بكامله.
والسيناريو غير كئيب رغم كونه يسرد حكايات مؤلمة وقاسية، والمدهش فيه أنّنا نجد أنفسنا أمام شخصيات تعيش مرحلة انكسار ثمّ تقف وتستعيد نفسها مرة أخرى ولا تفرض نفسها كضحيّة إلى النهاية، شخصيات مُقاومة تحبّ الحياة برغم ما فيها من قسوة.
أزمة وجوديّة قِيميّة حقيقيّة عبّر عنها الفيلم باقتدار، وأثار حولها العديد من التساؤلات الحرجة، والتي نعتقد استمرارها، وتحدّيها الصارخ لنا، في لحظتنا الراهنة!
ملحوظة المحرر: منعت الرقابة على السينما في مصر هذا الفيلم وظل ممنوعا من العرض العام لمدة ثماني سنوات، ولم يعرض إلا بعد حذف عدد من مشاهده ولقطاته التي اعتبرت جريئة أكثر مما ينبغي.
[*] باحث في الفلسفة الأخلاق التطبيقية وعلوم المجتمع ـ مصر