“جولة أخرى”.. الحياة ليست كما نتوقعها

“الحياة ليست كما نتوقعها”.. جملة بسيطة لكنها تعبر عن بعد فلسفي أكثر عمقا طرحه المخرج توماس فيتنبرج خلال أحداث الفيلم الدانمركي “Another Round” الذي يعود من خلاله للتعاون والتألق مع الممثل الدانمركي مادس ميكلسن بعد فيلم “الصيد” عام 2012 الذي حصل من خلاله على جائزة أفضل ممثل من مهرجان كان، أما الفيلم الجديد “جولة أخرى” رشحته الدانمرك للمنافسة على جائزة أفضل فيلم أجنبي في الأوسكار، وكان ضمن المشاركة الرسمية للدورة الماضية لمهرجان كان التي تم ارجائها لظروف انتشار وباء كورونا.

يعتبر من أفضل الأفلام التي قدمتها القارة العجوز في 2020 به مزج بين الكوميديا الاجتماعية والفلسفة التي تجنح إلى العبث أحيانا عن طريق فكرة بسيطة تتعلق بأزمة منتصف العمر لدى الرجال من خلال أربعة أبطال يشتركون في نفس الأزمة لكنهم مختلفون في مدى مساحة أدوارهم خلال الأحداث.

يبدو عنوان الفيلم مثل سؤال اختار المخرج توماس فيتنبرج ان يطرحه ليقترن بالجملة البسيطة “الحياة ليست كما نتوقعها” ويأتي بعدها السؤال “هل تستحق جولة أخرى”، فقد قام فيتنبرج ببناء فلسفته على أمرين، الأول المقصود به جولة أخرى من تناول كؤوس الخمور كتقليد اجتماعي غربي شهير، أما الأمر الثاني فهو المتعلق بالإنسان وجولاته في الحياة والوصول إلى عمر الأربعين من خلال جيل ينتمي للطبقة المتوسطة التي تعد الأكثر معاناة في أوروبا ليس اقتصاديا فقط بل اجتماعيا ونفسيا، تلك الطبقة التي اعتادت على العمل طوال الوقت ووقعت حبيسة بين روتين ورتابة الحياة مما جعلها تفقد القدرة على الاستمرار في الابداع.

وضع فيتنبرج فلسفته أيضا داخل إطارين آخرين وهذا ما جاء خلال التمهيد البديع للأحداث وبناء رسم خطوط شخصياته الذي يبدو بسيط ظاهريا لكن في طياته يحمل معاني انسانية عميقة يبدو أن مصدر الالهام فيها كان الفيلسوف الوجودي الدانمركي سورين كيركغور، الذي في البداية تظهر على الشاشة سؤال يطرحه “ما هو الشباب” الإجابة تكون “الحلم”، ثم يتبع بسؤال آخر “ما هو الحب” والإجابة “مضمون الحلم”.

في مشهد “أفان” تتر حفل يقيمه مجموعة من الشباب من خلال مسابقات ترتبط بتناول الكحول تظهر فيها ملامح المرح والانطلاق والعبث، ثم في المشهد الأول مديرة المدرسة في اجتماع تقدم توبيخ تام لما أقدم عليه الطلاب يحتوي على الكثير من التعليمات وفرض الوصايا وتخلل المشهد قطع متتالي من زوايا قريبة من وجوه الأبطال الثلاثة، ثم المشهد التالي البطل الرابع الذي هو مدرس للتربية الرياضية يقوم بعمله في أحد الملاعب.

تخلل “الأفان” تتر و المشهد الأول قطع مفاجئ سريع يرمز به المخرج إلى فترة تحول الإنسان من مرحلة الشباب والانطلاق إلى فترة أزمة منتصف العمر التي تأتي فجأة وبدون أي مقدمات يجد الشخص حياته أصابها الفتور والملل والأهم فقد القدرة الابداعية وهذا ما اظهره فيتنبرج بقطع متوازي جديد للأبطال الأربعة خلال عملهم في نفس المدرسة مع اختيار دقيق للمواد التي يقوم بتدريسها مارتن مدرس تاريخ، تومي مدرس تربية رياضية، نيكولاي مدرس علم نفس وأخيرا بيتر مدرس موسيقى.

سيطرة تامة للتقليدية والفتور والملل أثناء قيام الرباعي بعملهم، تومي لا يبالي بالتدريبات ويقرأ الصحف أثناءها، بيتر يقدم موسيقى بلا روح، ونيكولاي الطلاب لا يهتمون بما يشرحه، ولا يختلف الحال لدى مارتن الذي يشعر طلابه بالملل منه والذي دائم الحديث عن الثورة الصناعية التي من وجهة نظره أحدثت نقلة اقتصادية للمجتمعات الأوروبية لكن بمرور الوقت سحقتها بعد التقدم التكنولوجي الرهيب.

يدخلنا فيتنبرج بسلاسة إلى التفاصيل الدقيقة في فيلمه ويقوم بالتركيز على شخصية مارتن حيث فتور العلاقة مع زوجته وأبناءه التي نشأت بمرور الزمن أصبحوا يفتقدوا إلى التواصل ، فالزوجة تعمل دائما في مناوبات ليلية لدرجة جعلت مارتن يطرح سؤال عليها .. هل أصبحت مملا ؟ .. تجيب الزوجة بأنه لم يعد مارتن الذي تعرفت عليه منذ 15 عام.

يجعلنا فيتنبرج نتعمق أكثر مع تفاصيله والتركيز مع شخصية مارتن خلال حفل عيد الميلاد الذي ضم الأصدقاء الأربعة، والذي طرح خلاله نيكولاي فكرة “التعقل في الشرب” طبقا لنظرية الفيلسوف النرويجي فين سكارديرود والتي تعتمد على فكرة الحفاظ على نسبة قليلة من الكحول داخل جسم الإنسان لا تتعدى ال 0,05% أثناء فترات النهار حتى الثامنة مساء.

بدأ الرباعي وفي مقدمتهم بطلنا مارتن في تجربة فرضية سكارديرود وتدوين الملاحظات فموسيقى بيتر أصبحت أكثر امتاعا وتحررا وعذوبة بعيدا عن الغناء الصلواتي، تومي أصبح لديه القدرة على خلق واكتشاف لاعبين جدد وتطوير أدائهم داخل الملعب، نيكولاي أصبح أكثر تصالح مع طلابه ومع أسرته، أما مارتن أصبح أكثر استرخاء واتزان وانفتاح على الحياة وأكثر ثقة بالنفس أمام طلابه وأصبح أكثر امتاعا في توصيل المعلومات على غرار الاختبار الذي قام بإجرائه لطلابه بعيدا عن الشكل والأداء النمطي فقد استعان فيه بثلاث شخصيات (روزفلت – تشرشل – هتلر) وختمه بنصيحة للطلاب للمرة الأولى بقوله الحياة ليست كما تتوقعون.

قدم المخرج توماس فيتنبرج سيناريو متماسك ومحكم برغم تركيزه على شخصية مارتن التي حصلت على المساحة الأكبر لكنه في نفس الوقت لم يغفل الثلاث شخصيات صحيح لم يحصلوا على نفس المساحة لكن بتفاصيل مختصرة، دقيقة ومركزة نجح في تقديم تلك الشخصيات والتعبير عن أزماتهم التي لا تختلف عن أزمة مارتن.

 برع فيتنبرج أيضا في المرحلة الخاصة بالتنقل من مرحلة تجربة تناول نسب ضئيلة من الكحول إلى المرحلة التالية التي تتعلق بخروج التجربة عن مسارها الطبيعي وقيام الرباعي بزيادة نسبة الكحول التي يمكن ان تصل بهم مستقبلا إلى الإدمان، قد يرى البعض ان هذه النقلة لم تكن في صالح الحالة التحررية التي بها تصالح مع الحياة، وجعلت الفيلم يدخل في مسار وعظي عن اضرار الكحول او ان فيتنبرج يروج للكحول، لكن ما يعنيه فيتنبرج في هذه النقلة تحديدا التأكيد على ان الرباعي يكررون أخطاء الماضي من خلال عادة “الإفراط”، قديما أفرطوا في الاستسلام إلى الحياة الرتيبة الروتينية المملة، والآن أفرطوا في تناول الكحول مما تسبب لهم في صدام مع من حولهم، مثل مارتن الذي تركته زوجته.

براعة فيتنبرج ظهرت أكثر في كتابته وإدارته لبعض المشاهد الطويلة خصوصا التي جمعت الأصدقاء حيث كانت الحوارات طويلة والحديث فيما بينهم يخرج من مسار إلى آخر بشكل تلقائي وسريع وبصورة متداخلة وفي بعض اللقطات نجد أن الرباعي يتحدثون في نفس اللحظة لكن يحسب للمخرج قدرته على عدم فقدان التواصل مع الأحداث أو احداث ربكة لدى المشاهد في التفاصيل.

اقتنع مارتن أن تعقيدات الحياة أكبر بكثير من فكرتي الاستسلام إلى نظام معين أو قاعدة ثابتة سواء كان روتين الحياة العملية أو فرضية سكارديرود حول نسبة الكحول، فالحياة مستمرة في كل مراحلها والوقت لم يمضي فالإنسان سيظل قادرا على خلق سعادته بنفسه والحفاظ على قدرته الإبداعية حتى وان احتاج في بعض الأوقات إلى طريقة أو عامل مساعد للتحفيز والتغيير، فعليه أن يحسن استخدامه دون أن يصل إلى الإدمان، والحياة دائما تمنح فرص جديدة.

قدم مارتن مشهد بديع للنهاية من خلال قيامه بالرقص فلم يبالي إلى اصابته القديمة في الظهر وأخذ في الرقص مع أصدقائه وطلابه على أنغام كلمات الأغنية الجميلة  “What A Life”   التي جاءت متسقة مع تفاصيل الحبكة الدسمة للفيلم كأنه يقدم رقصة الحياة .. الحياة التي تستحق جولة أخرى .. قدم مارتن رقصة الحياة .. وانطلق.

Visited 70 times, 1 visit(s) today