“جنة الشياطين”.. الحياة في حدها الأقصى
تدهشني كثيرا هذه التجارب الخاصة التي خرجت من سينما راسخة مثل السينما المصرية، وعلى فترات متباعدة، حيث تحمل تفردا واضحا، وإصرارا أوضح على صنع المختلف، وسط تقاليد تجارية راسخة، وقوالب جاهزة وتقليدية.
لا شيء في الحقيقة يشبه فكرة هذا الفيلم المصري البديع “جنة الشياطين” (عرض 1999) ، الذي استلهمه الكاتب مصطفى ذكري من رواية ” الرجل الذي مات مرتين” للروائي البرازيلي جورجي أمادو، وأخرجه اسامة فوزي، مثل الإصرار على إنتاجه وعرضه، فكأنه يترجم بذلك تمرد صناعه، ومنتجه الممثل محمود حميدة، على كل ما هو سائد ورسمي، مثلما تمرد بطل الفيلم طبل على واقعه وحياته المقيدة بالقواعد والتعليمات.
تبدو تجربة إنتاج الفيلم في ظروف السينما المصرية الصعبة وقتها، امتدادا لمغامرة طبل، وتبدو لعبة التناقضات التي قدمها الفيلم ببراعة امتدادا لتناقضات واقع السينما المصرية، الذي كسره نخبة من المبدعين، من بينهم بالتأكيد الكاتب مصطفى ذكري، والمخرج أسامة فوزي.
“جنة الشياطين”، الذي يجمع في عنوانه بين متناقضين هما الجنة والشيطان، والذي يجعل التمرد، و يجعل من الحياة في حدها الأقصى، نوعا من الجنة الخاصة، الجديرة بالتعب والسعي، لا يتوقف عن المقارنة بين المتناقضات، منتصرا في النهاية للتمرد وللإختيار، ومعتبرا أن الفرد هو وحده من يجب عليه أن يحدد مسار حياته ومفاهيمه، وهو أيضا من يمكنه أن يصنع جنته الخاصة لو أراد.
الحياة والموت
المقارنة لا تتوقف بين الحياة والموت، ليس بصورتهما الفيزيقية المعروفة، ولكن وفقا لمفهوم الإنسان عنهما، فهناك حياة رسمية جافة أقرب الى الموت، وهناك موت يستفز الرغبة في إطلاق غريزة الحياة، هناك عقل يفسد الإستمتاع بالحياة، وهناك جنون أقرب الى روح الطبيعة الحرة المتمردة، هناك مجتمع يضع البشر في توابيت، وهناك فرد يخرج من التابوت، ويزيل أبواب السيارة، ويختار أن يكون متفردا، مهما كان رأي المجتمع فيه.
هي إذن فكرة الحرية في مقابل القيود، والفرد في مقابل الجماعة، والتمرد في مقابل الإمتثال، والحياة الحقيقية في مقابل الموت الحقيقي، ولكن جورجي أمادو لم يضع هذه الأفكار، داخل روايته، في وعاء منضبط وصارم، وإنما أخذ التجربة الى حدها الأقصى، والى خيالها الواسع، الشكل التقليدي لا يليق بتمرد الفكرة، وهكذا فعل أيضا مصطفى ذكري وأسامة فوزي في فيلمهما الإستثنائي.
خواكيم سواريس دي كونيا في رواية أمادو، ترك أسرته، وانضم الى عالم بوهيمي، وسط العاهرات والمقامرين، بعد أن عاش حياة ملتزمة ومثالية، يرضاها مجتمعه، غيّر اسمه أيضا، فأصبح يدعى كينكاس هدير الماء، وصار أبا للبوهيمين والخارجين عن المجتمع.
طبل، واسمه الجديد صاخب ومدوّي، يمثل في “جنة الشياطين” نفس التمرد المفاجيء، فبعد أن كان زوجا مثاليا، وموظفا منضبطا اسمه منير رسمي، يصحو بميعاد، وينام بميعاد، اختار أن يكون بوهيميا مشردا، ومقامرا وسط العاهرات والمهمشين، واختار عشيقته عاهرة محترفة تدعى حُبّة، ورغم أنه كان يقامر بكل شيء، إلا أنه لم يقامر أبدا بقصر أسرته، أو بثروتها، وكأنه ترك حياته القديمة للأبد، ولا يريد أني يستدعيها على أي شكل، أو كأنه ترك الثروة لكي يتعذب بها أصحابها، ولكي تفرض شكل الحياة على من يتمسكون بها.
الثنائية ستصبح قانون الفيلم استلهاما من الرواية، لأن طبل عاش في الواقع حياتين، إحداها باسم منير، والثانية باسم طبل، واحدة يراها مزيفة، والثانية يراها حقيقية، كما أنه مات مرتين: الأولى في نظر أسرته، التي اعتبرته مصدرا للعار، بحياته وسط المشردين، والميتة الثانية، عندما مات، تحت اسم طبل، وهو يضحك على المقهى، وسط أصدقائه، الشياطين الثلاثة نونّا وبوسي وعادل.
الثنائية تشمل أيضا كل شيء: قصر ومنزل حقير، زوجة سيدة مجتمع وعشيقة عاهرة، صور من حياة قديمة وجثة ساكنة بمظهر بائس، الشارع في مقابل البيت، والسكون في مقابل الحركة، والصخب في مواجهة الصمت، يوم واحد يشمل الحكاية كلها، تنتقل فيه الجثة من الشارع الى القصر، ثم تعود فيه الجثة من القصر الى الشارع، مكانها وحياتها التى انتزعت منها.
تعريف المصطلحات
ولكن المعنى لا ينحصر في انتقالات آألية بين الثنائيات، وإنما يعيد تعريف المصطلحات من جديد، بمعنى أن السؤال الأعمق في الفيلم والرواية هو عن المعنى الذي تختاره أنت للحياة أو الموت، فهل هما مجرد تعبيرات عن حضور فيزيقي وغياب فيزيقي فحسب أم أن لهما معنى آخر يحدده الفرد نفسه باختياراته؟
الفيلم والرواية ينحازان الى أن الموت والحياة يحددهما الإنسان باختياراته، والفرد، مثل خواكيم وطبل، لا يلزم أحدا باتباعه، ولكنه لا يقبل أيضا أن يلزمه أحد باتباع ما يريده المجتمع منه كفرد.
من هذه الزاوية فإن أصدقاء طبل، وعشيقته حُبّة، لا يصدقون أصلا أنه مات، ويعتقدون لأول وهلة أنه حيّ يمارس معهم هزارا معتادا، ويرون أن ضحكته التي مات عليها، والتي لا صوت لها، هي دليل حياة كامنة، أو هي حياة موازية مثل حياتهم الحرة، ومع قيام الأصدقاء الثلاثة بسرقة جثة طبل، ومع عودته الى الشارع، وسط صخب الأصدقاء، يستعيد طبل تعبيرات وجهه، وكأن الحياة الكامنة قد بدأت في التعبير عن نفسها.
وبينما نعتقد أن تعبيرات وجه طبل قد تكون وهما في خيال ثلاثة من السكارى والمخدورين، فإن أسامة فوزي، المخرج الفذ، يقدم تعبيرات وجه طبل المتغيرة، من زاوية موضوعية أحيانا، بل ونرى الأصدقاء الثلاثة معا من زاوية طبل الذاتية، أي أن فوزي لم يعد يتعامل مع جثة ميتة، وإنما مع شخص يرى ويتأمل أصدقاء التمرد والتشرد.
هنا معنى الحكاية كلها، فهذه الحياة في حدها الأقصى بعثت الجثة رمزيا وواقعيا، وطبل، مثل خواكيم، بُعث في الحقيقة مرتين: مرة عندما ترك حياة رسمية كالموت، ومرة عندما ترك القصر من جديد، كجثة ضاحكة، ترفض أن توضع في تابوت، وترفض أن تعود الى البدلة الأنيقة، حتى في لحظات التشييع القصيرة، وترفض حتى أن توضع في التراب.
ما نراه في الفيلم وفي الرواية يتجاوز معنى البوهيمية والضياع والفساد والأحكام الأخلاقية والمجتمعية، إنها غريزة الحياة في جنونها الكامل، في مواجهة القيود و العدم والسكون وسلب الإرادة، الموت في الفيلم ليس هو توقف وظائف الجسد الحيوية فحسب، ولكنه يتمثل بالأساس في سلب القدرة على الإختيار، وسلب القدرة على التحرر والتمرد، وحتى عندما توقفت وضائف الجسد الحيوية عند طبل، فإن أصدقاءه منحوه القدرة على العودة من جديد الى الحياة، وهي عودة تليق حقا بجنون الحياة، ولا يمكن قياسها بمعايير الواقع المحدود.
تحولات سلوى
لا نعرف بالضبط ما هي اللحظة التي زهق فيها منير رسمي من حياته فأراد أن يكون مقامرا ومشردا؟ ربما فعلها لتعلّقه بالعاهرة حُبّة، ولكننا سنجد لحظة مماثلة أو قريبة عندما تختار سلوى، ابنة طبل، أن تنحاز لشخصية طبل، وأن ترفض أن تدفن والدها تحت اسم منير رسمي.
سلوى تبدو حادة وقوية الشخصية مثل أمها، تعترف بأنها كرهت والدها، خاصة عندما كانت تفشل في إعادته الى أسرته، سلوى بداخلها أشياء من منير رسمي، ولذلك ستصر على استكمال إجراءات الجنازة، وعلى اتخاذ إجراءات نشر النعي، بل وستحضر طبيبا للأسنان ( السيناريست تامر حبيب في دور قصير)، لكي يقوم بتركيب سنّتين من العضم في فم طبل، بديلا عن سنّتين مكسورتين.
ولكننا وسط هذه الطقوس الرسمية، نضبط شخصية طبل وهي تخرج من سلوى، ففي أول لقاء مع الجثة بمفردها، تضحك في سعادة، ثم تبكي مثل طفلة، بعد أن سقطت على الأرض، ثم نراها وهي تتأمل الجثة ممددة فوق صورها القديمة، وحياتها التي تركتها، تسمح سلوى للأصدقاء الثلاثة برؤية طبل في التابوت، ثم تبتسم في مكر، عندما تعرف أنهم سرقوه واستعادوه، بالضبط كما توقعت.
سلوى تنتصر في النهاية لشخصية طبل، دون أن تجرؤ على تقليدها، فمازالت ظروفها وطبقتها تتطلب منها أن تكون منير رسمي، وهي تدرك أخيرا أن والدها اختار التمرد والحرية، وأنه لا يحب أن يكون الموت نفسه حائلا بينه وبين ما اختاره في حياته، لقد اختار الشارع وليس القصر، ووجد نفسه في تمرده، وفي فوضى الحياة الصاخبة، وليس في التزامها، أو في امتثال الناس للقواعد.
تجربة طبل ورفاقه بكل جنونها وتمردها أفضل عند صناع الفيلم، ذلك لأنه اختار ما يريد، كما أنه لم يلزم أحدا باتباعه، وهو أيضا من رفض القيود التي ألزمه مجتمعه ووظيفته بها، رآها قيودا في حدها الأقصى، لذلك كان تمرده في حده الأقصى.
أسامة فوزي فى كل أفلامه القليلة شغوف بتحليل بذا الصراع بين الجماعة والفرد، وبين القيود والحرية، وانحيازه دوما للفرد في تمرده، وفي حقه في الإختيار، كما أن أفلامه تجسد القيود التي يعاني منها الفرد، بمستويات مختلفة، وفي سياقات متنوعة، ولكن طبل هو التعبير اللامحدود عن هذه القيود، والتعبير اللامحدود عن حق التمرد والتحرر والإختيار.
الإجادة والإبتكار
ولكن أسامة فوزي مخرج فاهم وموهوب، ولذلك فإن استخدامه لأدواته في “جنة الشياطين”، يحمل دليلا معتبرا على الإبتكار والإجادة، فبينما نتوقع مثلا أن تكون كل مشاهد الثلاثي نونّا وبوسي وعادل، مصورة بكاميرا محمولة على الكتف، تجسد حيوية الحياة وحركتها، فإن أسامة لم يفعل ذلك، لأنه أراد أن نرى الكاميرا ثابتة، والأصدقاء الثلاثة هم الذين يتحركون ويصخبون، لم يرد أن يكون التعبير عن الحيوية شكليا من خلال حركة الكاميرا، ولكن موضوعيا من خلال حركة الممثلين، الذين يبدون أقرب الى مهرجي السيرك، والى حفنة أطفال يلعبون، بل ونراهم يلعبون “صلّح” مع طبل بعد موته الفيزيقي.
إنهم يمثلون الإنسان في حالة الطبيعة والغريزة الأولى، وتمردهم ليس مجرد حركة فارغة، وإنما تعبير عن روح الطبيعة والغريزة المنطلقة، وهم يمثلون قاع المدينة، في مقابل القصر باذخ الإرتفاع، ولذلك يبدأ الفيلم بهبوط الكاميرا من قبة مسجد، الى أرضية المقهى، وبقايا القمامة التي يقوم جارسون المقهى بكنسها، ومن الأرض نصعد قليلا، لنشاهد بوسي ونونّا وعادل وهم يضحكون، بينما يقبع طبل بجوارهم ضاحكا وميتا.
وبينما حقق أسامة فوزي ثباتا مثل صور كارت البوستال في مشاهد الأسرة داخل القصر، وبسيادة اللون الأسود المناسب للجنازة الرسمية، وبينما يبدو مشهد جسد طبل وهو مسجى على مكتبه، كما لو كان جثة في مشرحة، فإن المخرج المبتكر سرعان ما يكسر مفهوم الموت، عندما يستلهم صورة لجثة جيفارا، رمز التمرد الأشهر، وهي مسجاة بعد قتله، فيقدم تكوينا مماثلا للصورة، ولكن من خلال جثة طبل، فكأنه يحيلنا الى حياة أطول من الموت.
ومن جمود الطقوس، تتحرك الكاميرا في نعومة مع رغاوي الصابون التي يغسّلون طبل بها، فتمر فوق صور حياته القديمة، وكأنها تزيلها رمزيا، فكأن طقس التغسيل نفسه يرسل تحية الى صاحب الجثمان المتمرد، وكأنه يستعيد ما فعله طبل مع ماضيه في صورة رمزية.
الحركة والصخب في البشر وليست في الكاميرا، والسكون والإمتثال أيضا في البشر وليس في حركة الكاميرا، هكذا مثلا تقدم مشاهد سرقة الأصدقاء لأسنان طبل، اعتقادا منهم أنها أسنان ذهبية، وهكذا أيضا يتفاوض عادل على بيع جثة طبل لمقاول جثث يريد تسويقها لطلبة الطب، وهكذا تريد شوقية ألا تتوقف عن العمل رغم حزنها على طبل، فتفاوض أحد الزيائن ( خالد صالح في دور قصير للغاية).
كل هذه المشاهد تتأملها كاميرا ثابتة، لا تشوش الرؤية بحركتها، تمهيدا لتحول كبير في الحركة يدخره أسامة فوزي في مشهد السيارة الأخيرة حيث نجد حركتين كبيرتين وصعبتين ولافتتين للغاية للكاميرا: حركة دائرية حول كل السيارة أثناء حركتها في الطريق، لمتابعة سعادة مطلقة يشعر بها نونّا وعادل وبوسي وشوقية وحّبّة، بعد أن استعادوا طبل، وبعد أن أعادوه الى حياتهم الصاخبة، والحركة الثانية أكثر تطرفا، حيث ينقلب الكادر كله رأسا على عقب في آخر لقطات الفيلم، وسط تبادل القبلات النهمة بين بوسي وشوقية، وبين نونّا وحُبّة، بينما يقود عادل السيارة، ونسمع صوت ضحكة طبل وهي تبارك هذا التمرد الذي يطبق مقولته الدائمة:” الحي أبقى من الميت”.
هنا لا يمكن أن تثبت الكاميرا، وإنما تنضم نهائيا الى المتمردين، وتشاركهم الحركة، وهنا تتحول من عين ثابته مراقبة، الى طرف مشارك، مما يحقق تأثيرا قويا ومروّعا، وانحيازا كاملا لا شك فيه، وتصويرا بصريا مدهشا لحياة موازية مقلوبة تمامأ اختارها أصحابها، هم يصخبون، والسيارة تنطلق بلا أبواب، وبلا أرقام أو أبواب، وموسيقى فتحي سلامة تحتفل بالرحلة، وأضواء الطريق تصنع كرنفالا من اللون الأبيض، ولكن أسامة فوزي، والمونتير خالد مرعي لا ينهيان اللقطة إلا بظهور هوة سوداء في آخر هذا النفق المضيء، تاركين لنا أن نخمن دلالة هذه الهوة السوداء، لعله الموت يقول إنه ما زال موجودا، ولكنه لم يعد قادرا على لفت نظرنا، وسط إرادة الحياة المكتسحة.
قدرة أسامة فوزي على توظيف هذه الأدوات في مشاهد النهاية بالتحديد تكشف فعلا عن مخرج كبير، ومعه فريق من كبار المبدعين: طارق التلمساني الذي كان يضع لمبة مضيئة خلف رأس حّبة بالتحديد، فتلغي تأثير ملابسها السوداء، والذي منح مشاهد الشارع والأصدقاء الثلاثة حيوية بالغة، بمصادر إضاءة تنتمي الى المكان، ونهاد بهجت مهندس ديكور القصر بطابعه الكلاسيكي الرصين، ومحمود محسن مهندس ديكور حجرة طبل الفوضوية، وفتحي سلامة الذي عبرت موسيقاه عن تناقضات الموت والحياة، وانتصرت أخيرا للحياة، بعد صراع قصير.
براعة أسامة أيضا واضحة في اختيار ممثليه والحصول منهم على أفضل نتيجة ممكنة: محمود حميدة هو منتج الفيلم، ومن الطبيعي أن يكون بطله، ولكني أشك فعلا أن يؤدي أحد غيره دور طبل بمثل هذه البراعة، هذه الجثة الضاحكة، ذات التعبير الثابت، سرعان ما ستقدم تعبيرات أخرى ثابتة من الغضب الى السعادة بعد اختطافها، وبعد عودتها الى الشارع، إنه يرتدي أقنعة ثابتة بمهارة، وبتوافق عضلي مذهل، هو ليس جثة بالضبط، ولكنه حياة تجمدت، وسكنت وكمنت، وتريد أن تنطلق من جديد.
اكتشف أسامة في الفيلم ثلاثة وجوه جديدة ممتازة هم: عمرو واكد في دور نونّا، وصلاح فهمي في دور بوسي، وساري النجار في دور عادل، عمرو استمر، ولكن صلاح وساري اختفيا، مع أنهما كانا مواهب حقيقية، وساري بالذات قدم أدوارا جيدة جدا مثل دوره في فيلم “الساحر” للمخرج رضوان الكاشف، ولكننا لا يجب أن ننسى دور محمد عبد الهادي مدرب التمثيل في إعداد الممثلين الثلاثة لأدوارهم الغريبة في “جنة الشياطين”، وهي أدوار تناقض تماما حياتهم العادية، وثقافتهم، وتعليمهم .. الخ، لقد كان نجاحهم في أدائها تعبيرا عن تمرد حقيقي، وعن استعارة محدودة المدة لتجربة حياة مختلفة، ولعل طبل أخرج من داخلهم طبلا آخر كامنا، لم يكونوا قد تصوروا أن يكون موجودا بداخلهم!
لبلبة وصفوة كانتا رائعتين أيضا في دوري حُبة وشوقية، مونولوج لبلبة الأخير في السيارة، تتلون فيه نبرة صوتها، وتعبيرات وجهها، بين مشاعر مختلفة، بصورة بارعة وسلسة، فمن الحزن والإنكسار، الى الحنين والحب، وصولا الى الرغبة والشبق، تصبح حّبة عنوانا على المشاعر الإنسانية المتقلبة، شوقية أيضا بأداء صفوة هي الحياة في تدفقها الغريزي، سيارة النهاية كانت كتلة حياة، تريد أن تتحدى الموت، بكل قوة العاطفة والغريزة.
منح الفيلم دورا مميزا للغاية للممثلة كارولين خليل، وهي ممثلة ممتازة اختفت لفترة ثم عادت، سلوى كما قدمتها كارولين ليست شخصية سهلة، إنها تعيش عالمين: عالم القصر، وعالم والدها، لها وجه وقناع رسمي، ولها لحظات مكر وتمرد، من أفضل مشاهدها تأملها لجثة والدها، فوق صور حياته القديمة، لا تلمع عيناها إلا عندما تتفهم التمرد، فيما عدا ذلك هي لوحة جامدة تتحرك بشكل آلي,
“جنة الشياطين” بجرأة فكرته، وبذكاء معالجته، وبتكامل عناصره الفنية، وبإعادته لتعريف المصطلحات الكبرى كالحياة الموت والتمرد والإختيار، سيظل دائما علامة هامة في طريق سينما مصرية غير تقليدية، تثير التأمل، وتحول الحكاية الي تجربة سميعة وبصرية، شديدة الثراء والحضور.
يظهر الإنسان في الفيلم بجانبه المتمرد، والممتثل، وفي أقصى حالاتهما، في داخلنا منير رسمي، وطبل معا، بل وفي داخنا شخصيات كثيرة بينهما، فأيهم نختار أن نكون؟ المشكلة حقا في الإختبار بحرية، في أن تعيش الحياة بشروطك، وليس بشروط أخرى مفروضة.
ولذلك يظل المتمردون هم الشياطين الذين يصرون دوما على صنع جنتهم الخاصة، في كل زمان ومكان، وبكل الوسائل والأشكال.